الواحدية والحوارية: مقاربة باختينية في التعليم
علي جمالي نِساري
ترجمة: جوهر عبد المولى
ملخص:
التعليم الحواريُّ هو نهج تعليمي يختلف جذريًا عن سبل التعليم
الواحدية. وتَصف اليوم جميع الأنظمة التعليمية ذلك النهج الواحدي في
التدريس بأنه نهج يكون فيه رأي وفكر المعلم متسيِّدًا بشكل مطلق في
غرفة الصف. يكون هدف الكتب المدرسية في النهج الواحدي جعل الطلبة
يتكلمون ويكتبون "بشكل صحيح"، ويكون وقت الدروس قصير لدرجة تخلق عقبات
أمام المعلمين تمنعهم من تغطية كل النقاط "المهمة" المفروضة في المنهاج
المدرسي والمؤسسة التعليمية. في المقابل، في النهج الحواريِّ يتشارك
المعلم والطلبة في التحكم بعملية التعلم والتعليم، وتكون آراء الطلبة
مهمة وقيمة. ويسير التعليم الحواري في الصف بتقسيم الطلبة إلى مجموعات
تتمرن على "الحديث الاستطلاعي" و"التفكير العقلاني" ويكون هذان الأمران
هما الهدف من وراء تبادل الآراء. وتبادل الآراء يكون على نحو لا يُعنى
بانتصار رأي على رأي آخر. ويصبح هنا دور المعلم هو تسهيل العملية
الحوارية دون أن يحكم على ما يراه. فدوره هو أشبه بدور المرشد. ويمكن
وصف التعليم الحواري بالكرنفال حسب نظرية باختين. ففي الكرنفال لا توجد
أي سلطة عليا. تبيِّن هذه الدراسة كيف يمكن لأفكار باختين المختلفة في
نظرية الحوارية أن تمهد الطريق نحو إطار عمل نظري فعال في التعليم
والتعلم.
الكلمات المفتاحية:
باختين
Bakhtin
– الواحديَّة
Monologism
– الحواريَّة
Dialogism
– التغاير اللغوي
Heteroglossia
– الكرنفال
Carnival
– تعددية الأصوات
Polyphony
– التعليم
Teaching.
1.
الواحديَّة
في كتابه مشكلات في شعريَّة دوستويفسكي يقول باختين: "إنَّ
عالمًا مفهومًا بشكلٍ واحدي هو عالم مُموضع
objectified،
أي إنَّه عالمٌ يوازي الوعي المُوحَّد للمؤلف"[1].
إذا ما استعنَّا بالمعاجم سنجد تعريف
monology
على أنَّها الصوت الواحد أيضًا. ووفقًا لما يقوله
هيز فإنَّ "الخطاب الواحديَّ هو خطاب يمثِّل وجهة نظرٍ واحدة فقط مهما
كانت طريقة تمثيل تلك النظرة متشعِّبة". أمَّا ميخائيل باختين فيعتبرُ
الواحديَّة إلغاءً لعمليَّة الحوار وكلُّ ما يمكن أن يتأتَّى عنه.
بالإضافة إلى أنَّ باختين وتابعيه يرون أنَّ الواحديَّة تنبثق كلَّما
آلت الحقائق الشاملة
istina
دون ظهور أيِّ نوعٍ آخر من الحقائق
pravda.
ويربط باختين هذه الحالة بعصر النهضة في أوروبا لِمَا حملته تلك الفترة
من تركيز كبير على رؤيةٍ للجماليات على أنَّها الجمال والحقيقة معًا،
على عكس الكرنفاليَّة التي اتسمت بها المجتمعات في العصور الوسطى. ويرى
باختين (متأثرًا برابليه) أنَّه في مرحلة العصور الوسطى هذه تمَّ
تجنُّب الحقيقة وتجريمها بسبب ما قامت به الثقافة الشعبية من توظيفٍ
للحوارات الساخرة المبنيَّة حول إثارة الضحك والمحاكاة والهجاء[2].
لقد كان باختين يعي تمامًا حقيقة العواقب السيئة التي نَتجت عن
الواحديَّة لأنَّه كان يعيش في روسيا الستالينيَّة حيث كانت الحريَّة
في مهب الريح، وكان كل ما تصرِّح به الحكومة أمرًا يُنظرُ إليه وكأنَّه
الحقيقة المطلقة من دون أن يستطيع أحد التفوُّه بحرف واحد. لذلك، من
أجل أن يجد حلًّا لهذا الوضع الخطر، عاد باختين ليعزز من مكانة
الحوارية لما فيها من ميزات تُمكّن مختلف الناس من الإفصاح عن آرائهم
مساعدةً إيَّاهم في الخروج من الحيز الضيق الذي يفكرون من خلاله. ونحن
بالطبع على دراية بهذه الحقائق اليوم لأن باختين كان يمارس هذه
المقاربة ضمن مجموعته السريَّة التي حملت اسم (حلقة باختين). ويُظهر
لنا هذا بدوره أنَّ باختين كان يؤمن رغم جميع القيود بأنَّ الناس
دائمًا سيجدون سبلاً للتعبير عن مكنوناتهم الشخصية.
إذًا، من المرجَّح أن تكون المقاربة الواحدية هي الطاغية في سياقات
التعليم التي تدَّعي الحداثة حيث يتم فيها تعزيز المدلولات الشاملة
التي يتشاركها الجميع وتهميش الاختلافات التي يمكن أن تتواجد بين
الأفراد. من جهة أخرى، يرى ماتوسوف أنَّه لا يمكن أن تكون عمليَّة
التعليم واحديَّة صرفة بسبب تواجد منظور آخر في غرفة الصف، ولكن
الانتباه الذي تعيره الحكومة للتعليم يبدو مؤشرًا واضحًا على التوجه
نحو الواحديَّة.
إذًا، بناءً على الاعتقاد بأنَّ الواحديَّة قد تكون سببًا في زوال
الحوار والحريَّة، يقترح باختين مقاربةً أخرى من أجل حلِّ هذه المعضلة،
ألا وهي المقاربة الحواريَّة.
2.
الحواريَّة
في سياقات تعليم اللغة، ووفقًا لـ(قاموس لونغمان في تعليم اللغة وعلم
اللغة التطبيقي)، نجد "الحوار" معرَّفًا كما يلي:
"نموذج للمحادثة هدفه التدريب على التكلُّم والتزويد بالأمثلة حول
استعمال اللغة اليومي. تُكتب الحوارات غالبًا بغرض التمرُّن على بعض
العناصر اللغويَّة، ويتميز الحوار في معظم الأحيان بقواعد ومفردات
مُبسَّطة، ولذلك قد يختلف كثيرًا عن المحادثات الواقعيَّة في الحياة
اليومية"[3].
أما باختين فيقترح وجود عدَّة معانٍ مختلفة للحواريَّة، فيقول: "إنَّ
أيَّ لَفظة - مكتوبة كانت أم محكيَّة - يستعملها الناس في التواصل فيما
بينهم هي لفظة حواريَّة بطبيعتها الداخلية"[4].
ويقول أيضًا إنَّ الحوار هو شكلٌ من أشكال التخاطب الذي يُفضي إلى
تنافس ما بين المتحاورين.
ويضيف باختين قائلاً إنَّ الحوار "يُمثِّل الحياة الإنسانية ذاتها، فمن
خلال الحوار يساهم الإنسان في حياته مساهمة كليَّة بعينيه وشفتيه ويديه
وروحه ونفسه وسائر أعضاء جسده"[5].
يمكننا إذًا اعتبار الحوار لدى باختين ضربًا من ضروب التخاطب أو
التحادث إضافةً إلى كونه نموذجًا للوعي المتمحور حول التواصل والمبني
على تعلُّم اللغة. يقول باختين في الحواريَّة أيضًا ما يلي: "تسعى
الحواريَّة وراء إيجاد الأجوبة. لأنَّ كل كلمة في المحادثة الواقعيَّة
تتوجَّه دائمًا وبكل وضوح نحو كلمة مستقبلية تحمل جوابًا – فهي تستدعي
الأجوبة وتتنبأ بها وتبني نفسها في مسار تلك الأجوبة"[6].
فعوضًا عن الإتيان بالحقائق الشاملة، نجد على الدوام أنَّ الحواريَّة
توفِّر مجالاً للنقاش، لأنَّ طرح الأسئلة يوضِّح أنَّ لكلِّ فردٍ وجهة
النظر الخاصة به. ووفقًا لباختين، فطرة الإنسان هي التي تدفعه للمقاومة
والمجابهة من أجل خلق المعنى الخاص به من خلال احتكاكه بالمجتمع. يشدد
باختين، إذًا، على الشخصيَّة المتفرِّدة التي تتميَّز بها كل مجموعة
ثقافية بدلاً من السعي وراء ما هو مُتفَّق عليه بالإجماع.
3.
التغاير اللغوي
التغاير اللغوي مصطلح صاغه باختين في مقالته التي عَنونها بـــــ "الخطاب
في الرواية"، وهي مقالة نُشرت في كتاب "المخيَّلة الحواريَّة:
أربعة مقالات"[7].
ويركِّز هذا المصطلح على الدور الذي تؤديه اللغات في وضع متكلِّميها في
سياقات اجتماعيَّة متنوعة ونظرات إلى العالم سائدة في جميع الثقافات.
إنَّ المدلولات التي نجدها في أيِّ نصٍّ أو خطاب تنبثق دائمًا من
السياقات الاجتماعية التي يتخللها عدة مقاصد متضاربة، وتتطور المدلولات
معنويًا في المجتمع بسبب العلاقة الكائنة فيما بينها وبين تلك المقاصد
المتفاوتة.
إذًا، يمكن وصف النصوص بأنها متغايرة لغويًّا بافتراض أنَّها تُقرُّ
-صراحةً أو ضمنًا- بوجود مجموعة متباينة ومتقاربة من الوقائع
الاجتماعية الرمزية. ونتيجة لهذه العمليَّة فإنَّ كل مدلول في النصِّ
يحدث في سياق اجتماعي فيه بعض المعاني المتعاكسة التي كان من الممكن أن
تحصل، أمَّا النص فيستمد معناه الاجتماعي من مدى الاختلاف الحاصل ما
بين هذه المعاني.
أما لجهة النموذج الفرداني فنجد أنَّ عبارة مثل "ربما" أو "أعتقد أنَّ"
تنم عن عدم ثقة المتكلم بنفسه أو عدم قدرته على الالتزام بالحقيقة. هذا
في حين يمكن من منظور التغاير اللغوي النظر إلى هذه العبارات بشكل يفتح
المجال للنقاش حول ماهية المدلولات الموجودة وراء هذه الألفاظ. فقد لا
تكون مرتبطة بالشك أو ما شابه ذلك من جهة المتكلم، وبذلك قد يصح
اعتبارها دعوةً للمباحثة مع الآخرين لكي يعبِّروا عن آرائهم. ومما لا
شك فيه أنَّ الظروف المحيطة بمباحثات كهذه ستختلف وفقًا للسياق
والتفاصيل والعلاقات الاجتماعية بين المتحدث والمستمعين. فعلى سبيل
المثال، في سياق أكاديميٍّ قد يلجأ راوي النص لاستعمال عبارات توضِّح
أصالة المعنى الملفوظ وتشير إلى جاهزية المتكلم في النص لنقاش آراء
الآخرين. أحيانًا، قد يضطر المتخاطبون للتحدث باستعمال الأفعال الناقصة
الخالية من الحتميَّة من أجل أن لا تُكوِّن اقتراحاتهم مواقف حازمة،
وهذا بدوره يُجنِّبهم الخوض في نقاشات محتدمة للدفاع عن أفكارهم. لنأخذ
مثلاً سياقًا تكون فيه الابتسامة تعبيرًا صادقًا عن السعادة أو السرور.
أما في سياق مغاير قد تبدو الابتسامة دليلاً عن اللباقة المتبادلة ما
بين المعارف عندما يلتقون صدفة ببعضهم بعضًا في الممر، وتعتبر
الابتسامة في هذه الحالة مؤشرًا لإقرار هؤلاء الأشخاص بوجودهم معًا
وبذلك تكون لا تحمل أيَّة قيمة ملموسة. ومن المحتمل أيضًا في سياق ما
أن يدل استعمال الفعل الناقص على شعور المتكلم بالشك فعلاً. ومن الممكن
أن لا يكون ذلك مرتبطًا بالشك نهائيًا. على العكس، قد يكون القصد من
وراءه هو الإقرار برغبة أو حتى عدم رغبة المتكلم بالنقاش مع الآخرين
الذين لديهم آراء مغايرة، أو قد يشير الفعل الناقص إلى احترام المتكلم
لتلك الآراء.
إذًا، يمكننا من خلال مصطلح باختين هذا (أي التغاير اللغوي) وصف جميع
من يرون الأفعال الناقصة سبيلاً للتهرب من الحقائق أو سببًا يدعو لعدم
الثقة بالمتكلم بأنهم أشخاص محدودو التفكير، لأن هذه الصيغ الخطابية
تفتح المجال للنقاش كما أنها في بعض الأحيان تزيد من نسبة وجود التغاير
اللغوي في النقاشات الحاصلة ما بين الآراء والمواقف المتخلفة، وفي بعض
الحالات يمكن أن تجنبنا الأفعال الناقصة هذه النقاشات.
التغاير اللغوي هو واقع حاصل في عالم يعجُّ بالتفاعلات التي يَخلقُ
فيها المتخاطبون ليس فقط الانسجام بل التنافر أيضًا، ويشير باختين إلى
تواجد عدد من الآراء المختلفة التي تشكِّل مُجتمعةً حوارًا شاملاً،
ويؤكد أنَّ هذه الآراء قد بدأت بحوارها الثقافي حتى قبل أن ننضم نحن
لعمليَّة الحوار هذه. أضف إلى ذلك أنَّ أسلافنا هم الذين كوَّنوا اللغة
والبنى النحوية التي يجب أن نلتزم بها إذا أردنا الإسهام في تدفق
الحوار. ويمكن القول إنَّ ما نتلفظ به دائمًا يحمل قوَّتين اثنتين:
الأولى هي التي تجعل الأفكار متماسكة مع بعضها البعض، كترابط الكلمات
على سبيل المثال، أو تعلقنا بالتراكيب اللغويَّة أو تمييزنا للمعايير
الثقافية والعادات الاجتماعية التي تساعد كلَّ فردٍ فينا في استنباط
المعنى من أحاديث ولفظات الناس المحيطين به. أمَّا القوة الثانية فهي
التي تسمح بتشكُّل الأفكار الجديدة، فمثلاً تساعدنا هذه القوة في إحداث
بعض الكلمات في سبيل تعبيرنا عن أفكارٍ جديدة أيضًا. والنتيجة طبعًا هي
أن يكون هناك بحوزة كل إنسان مجموعة كبيرة خاصة به من المفردات التي
تنطوي على مدلولات مميزة، لأنَّ كلَّ مفردة في المعجم الذهني لدينا
تولِّد معنىً فردانيًّا بامتياز. فالمعجم الذهني الخاص بي أنا يختلف عن
المعاجم الذهنية لدى باقي البشر. بشكل عام يمكن القول إن تبادل المعاني
وتشكل الحوار يتم في أي سياق وأي وقت تكون فيه مفرداتنا على قدرٍ ما من
الدقة. ومن وجهة نظر باختين، يجب علينا أن نفهم طرحه هو حول الذات
والآخر من أجل أن ندرك تمامًا مفهوم التغاير اللغوي حيث أنَّ تواجد
الطرف الآخر في عملية الحوار أمرٌ يؤدي دورًا مفصليًّا في تبلور
إرادتنا لفهم ماهية الذات. ووفقًا لدانو[8]
"قد يبدو الطرف الآخر شخصًا يتمتَّع باستعماله المتميِّز للغة على نحو
يسهم في تكوين ذاته المتفرِّدة المختلفة جذريًا عن طريقة توظيف الآخرين
للغتهم". يبقى أن نقول أنَّ مشكلة التغاير اللغوي تكمن في محاولة إيجاد
الفرد للظروف الخاصة بخطابه كي يجعلها على سويَّةٍ واحدة مع الظروف
المحيطة بخطاب الآخر.
إذًا، نخلُص إلى أنَّ التغاير اللغويَّ مصطلحٌ يصف أهمية دور الطرف
المقابل في عملية الحوار، ويجب التركيز جدًا على هذا الأمر في كل
محادثة، خاصة في غرفة الصف، من أجل تقدير طرفي الحديث (المتكلم
والمستمع) بشكل متساوٍ.
4.
تعددية الأصوات
مصطلح
Polyphony
يعني حرفيًا "تعددية الصوت" وهي حالة تظهر في الأدب التخييلي عندما
يمنح الموقف الذي يتخذه المؤلف من مشهد معين حرية كبيرة للتفاعل ما بين
الشخصيات في القصة. وتتمتع الشخصيات في رواية ذات تعددية أصوات بحرية
مطلقة تسمح لهم بالخوض في نقاشات فيما بينهم، وحتى بينهم وبين المؤلف.
يعني ذلك أنَّه في الرواية متعددة الأصوات يمكن لمختلف الأيديولوجيات
أن تتفاعل مع بعضها بعضًا.
ويقول ديفيد لودج إنَّ الرواية متعددة الأصوات "هي رواية نجد فيها
ضروبًا عدة من مواقف أيديولوجيَّة متناقضة يتم منحها صوتها الخاص لتدخل
بعد ذلك في خضم الحوار نابعةً من المتخاطبين أنفسهم ودائرةً فيما بينهم
في الوقت نفسه، من دون أن يتدخل صوت المؤلف المسيطر ليحكم على هذه
التعددية"[9].
إذًا، إنَّ طبيعة الأدب التخييلي بحد ذاتها تسمح للمؤلف بأن يدمج داخل
قصته مختلف المنظورات الأيديولوجيَّة.
تدعى أحيانًا نظرية باختين بـ "التحاورية
Dialogics".
فالحوارية أو التحاورية وفقًا لباختين هي تلك العملية التي ينتج فيها
المعنى من خلال التفاعل ما بين المؤلف والعمل أو والقارئ أو المستمع.
ضف إلى ذلك أن هذه العناصر مجتمعةً تتأثر أيضًا بالسياقات التي توضع
فيها لا سيما القوى السياسية والاجتماعية. يوضح لنا المقطع التالي
المقتبس من باختين كيفية تشكل المعنى في روايات دوستويفسكي الحواريَّة:
إنَّ المعنى لا ينشئ كجملةٍ ناتجة عن وعي واحد مفردٍ يتشرَّب وعي
الآخرين، بل كوحدة متكاملةٍ تتشكل نتيجة تفاعل وعي عديد من الأفراد على
نحو يُبقي كل فرد متمتعًا بوعيه دون أن يتشرَّبه وعي فرد آخر من
الأفراد. ولا يدعم هذا النوع من الحوار ذلك المشاهد الذي يميل إلى
تجسيد حدث بأكمله مستندًا إلى تصنيفات واحديَّة - سواء أكان من ناحية
فحوى النص أو من ناحية الكلمات الشعرية أو من الناحية الاستعرافية -
وبهذا الشكل يصبح المشاهد فردًا مشاركًا في الحوار أيضًا[10].
وعلاوةً على كل هذا، يؤمن باختين بوجود رابط هام ما بين الرواية
الحواريَّة والرواية متعددة الأصوات عندما يقول إنَّ "الرواية متعددة
الأصوات هي بطبيعتها رواية حواريَّة جملةً وتفصيلاً"[11].
وعن هذا الرابط بالتحديد يكتب مايكل هولكويست وكاترينا كلارك: "إنَّ
تلك الظاهرة التي يسميها باختين بـ (تعددية الأصوات) هي ببساطة مسمىً
آخر للحوارية"[12].
ونجد عند ديفيد لودج ما يشابه هذا التعقيب عن تشابه هذين المصطلحين،
فيقول: "في نظرية باختين، يمكن أن نصف مصطلح (تعددية الأصوات) بأنه
مرادفٌ لمصطلح (الحوار)"[13].
وتقدم لِن بيرس تمييزًا دقيقًا في هذا الصدد حيث تقول إنَّ "(تعددية
الأصوات) ترتبط بالبنية الشاملة للنص، أي، حرفيًا، أصوات النص
المتعددة. أمَّا (الحوار) فيرتبط بالآليات القائمة على الأخذ والرد
المعنوي داخل الوحدات الصغرى في الحوار، وصولًا إلى الكلمة المفردة"[14].
نستنتج إذًا أنّ تعددية الأصوات والحوار هما مصطلحان مترادفان يمكن
الاستعاضة عن أحدهما باستعمال الآخر، وأنّ النص متعدد الأصوات هو
بالضرورة نصٌّ حواريّ.
عندما يتكلم باختين عن تعددية الأصوات في الأدب الروائي يقوم أولاً
بإظهار أهميَّة دوستويفسكي كمؤلف متعدد الأصوات، ويرى باختين أنَّ هذه
التعددية هي سمة خاصة في روايات دوستويفسكي. ويقول: "أعتبر دوستويفسكي
أحد المبتكرين العظماء في مجال الشكل في الفن، ذلك لأنه صنع نوعًا
جديدًا كليًا من الفكر الفني، وهو فكرٌ سأصفه مؤقتًا بأنه متعدد
الأصوات"[15].
ووفقًا لباختين: "لقد ابتكر دوستويفسكي نمطًا جديدًا في الأدب الروائي،
واستطاع خلق عالم متعدد الأصوات مزيلاً بذلك كل الأشكال القديمة التي
كانت سائدة في الرواية الأوروبية الواحديَّة"[16].
لذلك يرى باختين أن جميع الروايات هي روايات متعددة الأصوات وأن
لتعددية الأصوات في روايات دوستويفسكي أسلافًا مميزين في الفولكلور
الأدبي القديم.
نخلص إذًا إلى أنَّ (تعددية الأصوات) مصطلح يصف الحالات والروايات
والكتب والأعمال الفنية التي يتخللها أكثر من صوت واحد. ويمكن لنا أن
نفسر هذه الفكرة في سياق التعليم داخل غرفة الصف على أنها فرصة لسماع
الآراء المختلفة من المدرس والطلبة.
5.
الكرنفاليَّة
إنَّ أفكار باختين حول السلطة هي أفكار متجذرة في كرنفاليَّة العصور
الوسطى. كان الكرنفال عبارة عن حدث فريد من نوعه يمثل رفضًا كاملاً
لروتين الحياة اليومية. فكانت هذه الكرنفالات تشهدُ تخالطًا في طبقات
المجتمع حيث يتم تجاهل الطبقة الحاكمة. في هذا الصدد يكتب سوليفان
وآخرون ما يلي:
كانت السلطة الحاكمة تبدو وكأنها معزولة عن الحكم، وبذلك كنا نشعر
بالجانب المبهج للحياة بعيدًا عن الخوف. وكان هناك ارتباط جمعي عميق مع
الحقائق البديلة من قبل المتأمِّرين وأصحاب التقاليد والأعراف على نحو
يجعلهم يرون بعض المفاهيم الأحادية المهيبة كالدين والموت على أنَّها
مضحكة ومعرَّضة للسخرية[17].
أما في غرفة الصف، إذا تمت مداورة السلطة بين الطلاب ستخف وطأة السيطرة
التي يتسم بها المعلم، وبدلاً منها يصبح الطلبة هم من يتحكم بعملية
التعلُّم، فيجمعون المعلومات من بعضهم ويقدمون النقد حول أعمال وأفكار
بعضهم بعضًا. وبهذه العملية يتبدَّل الدور التقليدي للمعلم بدورٍ أخف
حدَّة ألا وهو دور المرشد الشبيه بالمرشد السياحي. ولكن ذلك لا يعني أن
تتم إزاحة سلطة المعلم لتحل مكانها سلطة غوغائية من قبل الطلبة. فمن
المعروف أن كرنفاليَّة العصور الوسطى كانت تعرض الضعفاء للخطر، وهو
أمرٌ لا يتناسب نهائيًا مع سياق غرفة الصف. فنحن عندما نلجأ إلى
الكرنفال كمجاز نقصد فقط أن نجعله بديلاً للحالة التي يمثل فيها المعلم
السلطة المطلقة، وبهذا يكون مجاز الكرنفال وسيلة ربط تنقلنا من
الواحديَّة السلطويَّة إلى الحواريَّة الإقناعية التي تعمل في عمق
السياق التعليمي.
وفي حديثنا عن الكرنفال، يجدر بنا أن نذكر كتاب باختين "رابيله
وعالمه" عام 1968 الذي يمثل بحثًا شاملاً في الكرنفاليَّة. في هذا
الكتاب، يرى باختين أن رواية رابيله "غارغانتوا وبانتاغرويل" في
القرن السادس عشر تعتمد بشكل مطلق على الكرنفالات الشعبية في عصر
النهضة.
يتناول كتاب "رابيله وعالمه" العصور الوسطى عن طريق مقارنة عالم
طبقة الكادحين مع العالم الرسمي للسلطة الدينية والمدنية. ويؤكد باختين
أنه لا يمكن للقراء فهم الأهمية الفلسفية في هذا الكتاب سوى بالنظر
إليه بعقلية القرن السادس عشر. فلا يمكن استيعاب المفاهيم المطروحة في
الصور الشعبية الكرنفاليَّة بعقلية تقيدها المعتقدات الثابتة، لأن هذه
الكرنفالات يتخللها قلبٌ للتوقعات المنطقية والأخلاقية.
الكرنفالات بطبيعتها تتضمن ابتعادًا عن مبادئ الاستقرار. ويذكِّرنا
باختين بأنَّ القصص الشعبية غالبًا لا تنتهي بالموت وفقًا لدورة الحياة
الطبيعية، بل بمأدبة كرنفاليَّة، فحسب باختين، "يجب أن يتأتَّى عن
النهاية إمكانيةٌ لوجود بداية جديدة تمامًا مثلما ينتج عن الموت ولادة
جديدة"[18].
وتركز الكرنفالات عمومًا على غياب القيود الفردية في المخيلة
القروسطية. على سبيل المثال، في الكرنفال دائمًا ما تكون الأفواه
مفتوحة وهي تشرب وتأكل وتضحك وتصرخ. فهي تتلقى العالم الخارجي وتتواصل
معه ولا ترفضه من بعد ذلك مطلقًا. ويؤدي الانفتاح هذا الى انفتاح عالمي
شامل، لأنه في عالم باختين الكرنفاليِّ لا يوجد أي شيء مستقر، فكل شيء
في حالة تطور دائمة. مثلاً، تصبح الطبقة الحاكمة مهمشة من خلال الضحك
فحسب. ولكن مقاصد الضحك بعينها ليست محط اهتمام باختين. ما يثير
اهتمامه هو المنظور الجديد الذي يخلقه الضحك.
بالعودة إلى الكادحين، نقول إنهم يشكلون عالمًا ثانيًا يناهض الحكم
السلطوي وهم على دراية كاملة بالقيم المرتبطة بطبقات المجتمع العليا
والسفلى والحياة والموت والفقر والغنى. يعتقد باختين أنَّ الأثر الذي
نجده في صور التنافر الكرنفالية كان كفيلاً بردع القوى الحاكمة، أو على
الأقل ردع تلك الصفة الذاتية الشمولية لهذه القوى.
إذًا، إنَّ أقصى ما يمكننا أن نستمده من مجاز الكرنفال، خاصة في سياق
غرفة الصف، هو أن السلطة في عملية الحوار تنتقل إلى الطلبة ليصبح عندهم
فرصة تسيد أنفسهم وجعل آرائهم تؤخذ على محمل الجد.
6.
الأسئلة التي يطرحها هذا البحث:
هذه الدراسة محاولة للإجابة عن أسئلة معنيَّة بالحوارية، ومنها:
-
كيف يمكن لنا تطبيق مبدأ الحواريَّة عند باختين في مجال التعليم؟
-
ما مدى تأثير الحواريَّة على التعليم بشكل عام، وعلى تعليم اللغة بشكل
خاص؟ وكيف يمكن أن تنتفع عملية التعليم من مفاهيم باختين؟
-
كيف يمكن للتعليم أن يتحدَّى أو يدعم أو يُغني مبدأ الحواريَّة عند
باختين؟
-
هل نستطيع حقًا استعمال حوارية باختين كأداة في التعليم والتعلم؟
7.
مناقشة وخلاصة
باستنادنا إلى ما طُرح آنفًا يمكننا الآن أن نقدم بعض الاستنتاجات
المقتضبة حول الأسئلة التي يطرحها هذا البحث. بخصوص السؤال الأول، يمكن
القول إنَّ مبدأ الحواريَّة وكل ما يرتبط بها من مفاهيم هي قابلة
للتطبيق في سياق التعليم، كما أنَّ بعض الدراسات والمؤسسات والمراكز
المعنية بتعليم وتعلم اللغة قد استعملت هذا المبدأ ومكوناته بشكل فعال
في تعليم اللغة الإنجليزية.
ومن أجل أن تُطبَّق هذه المبادئ بفاعلية ونجاح في بيئة التعليم الحديث
يجب أن يُعاد النظر في المفاهيم الكلاسيكية في التدريس إضافةً إلى
مهارات تعليم اللغة وأدوار المعلم والطلبة من أجل إعادة تأهيلها. وقد
طُرح في البند الرابع من هذه الدراسة إطار عمل من أجل تفعيل المفاهيم
الآنف ذكرها في تعليم اللغة الإنجليزية. وعلى الباحثين المهتمين التوجه
إلى هذا البند الرابع من أجل الحصول على المعلومات الكافية حول شكل
وبنية البيئة الحواريّة في التعليم والتعلم.
بالنسبة للسؤال الثاني، يمكن القول إن إطار العمل الحواري مهم جدًا،
ذلك لأن بدراستنا للأبحاث حول هذا الموضوع يتضح لنا أنه من المستحيل
انتهاج الطرائق التقليدية الواحديَّة في التعليم والتعلم ضمن الحياة
المعاصرة وتعليم الأدب الروائي وبيئات التعلم.
إن الطلبة في العالم المعاصر يتوفر لديهم كمٌ كبير من المعلومات وأدوات
التواصل التي يمكن استغلالها في تعلُّم أي موضوع مهما كان. إذًا، في
الحديث عن فوائد المفاهيم الحواريَّة للتعليم والتعلم يمكن القول إنه
لا يمكن استمرار عملية التعلم بشكل سليم بانتهاج الطرائق الكلاسيكية
لأنها تصيب الطلبة بالملل وتقلل من فاعلية التدريس. هذا في حين يمكن
تحويل بيئة التعليم وجعلها منفتحة خالية من الرتابة يحصل فيها التعلم
بشكل عفوي يشارك فيه الطلبة بنشاط في عملية التعليم والتعلم. وباتباع
هذا النهج لن يكون هناك حاجة للمقاعد ولوح الكتابة أو السبورة من أجل
التركيز على عملية التدريس.
اليوم يساهم الطلاب باجتهاد في عملية التعلم ويعتبرون أنفسهم بصحبة
زملائهم على سويَّةٍ واحدة مع المعلم، وهذا يسمح لهم بإنجاز مهامهم
التعليمية بحرية أكبر من دون ملل أو إهمال. باختصار شديد، إن مبدأ
الحواريَّة هو أمر يمكن أن يستفيد منه المعلمون إلى درجة كبيرة.
أما فيما يتعلق بالسؤال الثالث، فيمكن القول إنَّ هناك علاقة مشتركة ما
بين المعلم والحواريَّة، حيث يمكن للمعلمين تفعيل هذه المفاهيم في غرفة
الصف من أجل تسهيل عملية التدريس، هذا من ناحية أولى. ومن ناحية ثانية،
إن خبرة المعلمين الناتجة عن استعمال هذه المفاهيم قد تحسن وتطور تلك
المفاهيم وتجعلها جزءًا أساسيًا في التعليم الحديث.
لذلك يُنصح المعلمون بالاستفادة من هذه الأفكار مُسجلين في الوقت ذاته
تجاربهم في هذا السياق من أجل توفير فهم أعمق لهذه المبادئ للمعلمين
ومؤسسات التعليم الأخرى.
وأخيرًا، نصل إلى السؤال الرابع. وللإجابة عنه نقول إن هذه الدراسة قد
أكدت تمامًا إمكانية استعمال حوارية باختين كأداة في التعليم والتعلم.
ففي التدريس في العالم الحديث نرى أن الحواريَّة ومفاهيمها هي الأنسب.
ويبدو من الصعب جدًا تخيل النهج الواحديِّ كطريقة ناجحة في التعليم
خصوصًا بعد أن استعرضنا مفهوم الحواريَّة.
*** *** ***
نقلاً عن مجلة جسور ثقافية
المراجع
-
Bakhtin, M. M. (1984) Problems of
Dostoevsky’s Poetics. Edited and translated by Caryl Emerson.
Minneapolis: University of Minnesota Press.
-
Bakhtin, M.M.
(1973) Questions of Literature and Aesthetics, (Russian) Progress
Moscow, (1979).
-
Bakhtin, M. M.
(1968) Rabelais and His World (H. Iswolsky, Trans.). (Cambridge, MA,
Massachusetts Institute of Technology).
-
Bakhtin, M. M.
(1986). Speech Genres and Other Late Essays. Translated by Vern W.
McGee. Austin: University of Texas Press.
-
Bakhtin, M. M.
(1981). The dialogic imagination: Four essays (C. Emerson, Trans.,
M.Holquist, Ed.). Austin, TX: University of Texas Press.
-
Brandist,
Craig. (2002). Bakhtin, Cassirer, and Symbolic Forms, Radical
Philosophy, 89 (September–October).
-
Hays,
Christopher B. (2005). The Silence of the Wives: Bakhtin’s
Monologism and Ezra 7-10; Bakhtin and the Biblical Imagination
Consultation; Philadelphia، PA; November 20, 2005.
-
Katerina Clark
and Michael Holquist.(1984). “The influence of Kant inthe early work
of M.M.Bakhtin,” in Joseph P.Strelka (ed.) LiteraryTheory and
Criticism. (Festschrift for René Wellek) Bern: Peter Lang, pp.
299–313.
-
Lodge, David.
"Conrad's" Victory" and" The Tempest": An Amplification." The Modern
Language Review (1990).
-
Marchenkova
Ludmila A, Joan Kelly Hall،
Gergana Vitanova. (2005). Dialogue with Bakhtin on Second and
Foreign Language Learning: New Perspectives Routledge.
-
Matusov, E.
(2007). Application of Bakhtin scholarship on discourse and
education: A critical review essay. Educational Theory, 57 (2),
215-237.
-
Pearce, H.
(1994). "Performing Drama Dramatizing Performance-Alternative
Theater and the Dramatic Text-Vandenheuvel, M." Contemporary
Literature, 35(1), pp. 203-211.
-
Richards J.C.
and Schmidt, R .(2002). Longman Dictionary of Applied Linguistics
and Language Teaching (3rd edition).Harlow: Longman.
-
Sullivan, Paul, Mark Smith, Eugene Matusov. (2009). Bakhtin,
Socrates and the Carnivalesque in Education; Elsevier Ltd.
مصدر المقالة:
Dialogism versus Monologism: A Bakhtinian Approach to
Teaching
Procedia - Social and Behavioral Sciences 205 ( 2015 ) 642 –
647
By Ali Jamali Nesaria
Bakhtin, 1986 as cited in Marchenkova, 2005 p.72.