من التعاقد الاجتماعي إلى التعاقد الطبيعي:
ميشيل سير نموذجًا للفلسفة الإيكولوجية

 

عبد الكريم سفير*

 

ينتمي العمل الفلسفي لميشيل سير Michel Serres إلى أفق الفلسفة المعاصرة، أفق مجاوزة الميتافيزيقا كما حددها مارتن هيدغر، باعتبارها "فكر نسيان الوجود والتفكير بالموجود". وقد أدى هذا النسيان الميتافيزيقي إلى جملة من الاختزالات الميتافيزيقية، بدء باختزال الوجود إلى الموجود، ثم اختزال الموجود إلى الإنسان وانتهاء باختزال الإنسان إلى العقل ونفي الجسد. والنتيجة بلغة م. سير هي اختفاء العالم والأرض من أفق التفكير الفلسفي المنشغل فقط بالذات العاقلة وبحقوقها المدنية والسياسية كما تجلت في التعاقد الاجتماعي. هذا التعاقد الذي يعبر عن احتفال وفرح الإنسان بالإنسان وتمجيد الإنسان ونسيان مطلق للطبيعة والكائنات والعناصر، كالهواء مثلاً، التي تشاركه الوجود فوق الكوكب الأرضي، والتي من دونها لا يستطيع السيد الإنسان أن يعيش ثانية واحدة.

إن مفهوم التعاقد الطبيعي عند فيلسوفنا هو نقد جذري للميتافيزيقا في أبعادها الفلسفية والعلمية والسياسية والأخلاقية من خلال لغة لا تعترف بالحدود الميتافيزيقية للأجناس الفلسفية أو العلمية أو الأدبية أو الشعرية أو الأسطورية أو الدينية. لغة عائمة فوق اللغات والأجناس، جاعلة من سؤال الكتابة ممارسة ضرورية لمجاوزة لغة الميتافيزيقا وطرقها في التساؤل والتفكير.

فما هي تجليات هذا النقد فلسفيًا وعلميًا وسياسيًا وأخلاقيًا؟ وما موقعنا نحن من التعاقد الطبيعي؟

أ‌.       فلسفيًا:

إن نقد الفلسفة عند م. سير يتجه إلى الفهم والمنظور والنظرة التي تأسس عليها فهم الإنسان والطبيعة. فقد فهمت الفلسفة أن الإنسان هو الذات، والطبيعة هي الموضوع، والعقل هو المنهج، لتضيف إليه فيما بعد التجربة والخيال. فالفلسفة الحديثة بقيت وفية للأفلاطونية والأرسطية. والحيوان الناطق والاجتماعي والسياسي لا يزال هو الكائن العاقل المتميز، وهو الآن صار يتمتع بالذاتية ويتحرر من الخوف من الطبيعة ويشهر سلاح العقل والمنهج الرياضي في وجهها. ولم تعد إرادة المعرفة عنده تسعى إلى المعرفة من أجل المعرفة، بل تحولت المعرفة عنده إلى إرادة الهيمنة والتملك للطبيعة وتسخيرها لمصلحته. كائن يسعى إلى قلب علاقته بالطبيعة رأسًا على عقب. وقد مثل ديكارت الأب الروحي لهذه الفلسفة/النظرة الجديدة إلى العالم والإنسان. وهو البرنامج الذي كتب له النجاح التاريخي وأدى إلى هذه السيطرة المتزايدة للإنسان على الطبيعة من خلال المنجزات العلمية والتقنية التي صيرت الأرض قرية صغيرة وجعلت لأول مرة مصيرها يغدو كونيًا.

ب‌.   علميًا:

لم يخرج العلم نفسه عن هذا البرنامج والسجل الديكارتي، وكل ما قام به هو العمل النظري والتقني على تطوير إمكانات السيطرة والتحكم والتملك، وهو ما نعيش نتائجه الإيكولوجية اليوم.

ينتقد م. سير هذه النزعة الموضوعية العلمية إلى الطبيعة والتي تختزلها إلى معادلات ودوال وأرقام ومركبات من القوى الرياضية والفيزيائية. وهنا يصادر العلم على حق وجود الموجودات والأشياء والعالم ويطالبها بأن تظهر وفق خطاطاته النظرية والعملية، ولا ينصت إليها أو يعترف لها بأية إمكانية للظهور غير ما تصوره عنها مسبقًا. والحقيقة أن الطبيعة تكلمنا بلغات كثيرة تقمع جميعها لصالح لغة العقل والعلم.

وبدل هذا البرنامج الديكارتي الذي يعلن الحرب على الطبيعة ويضع هدفًا له السيطرة والتملك، يقترح م. سير العودة إلى لايبنتز وبالضبط إلى مبدأ السبب الكافي وعلاقته بالحق. فلا يعني السبب الكافي المبرر الكافي لوجود الكائن فقط، بل وهذا هو الأهم حق وجود هذا الكائن أيضًا. فجميع الكائنات بما هي موجودة وجودًا طبيعيًا فهي تتمتع بحق طبيعي في الوجود، وليس الإنسان هو من أعطاها هذا الحق، بل إنه حقها الوجودي في الوجود كما هو حق الإنسان أيضًا في الوجود. ولأن الكائنات الأخرى لا تنازعنا في حقنا في الوجود فمن حقها علينا أن نحترم حقها في الوجود وأن نعترف بحقوقها. وأولى هذه الحقوق هي وقف الحرب التي لا يزال يشنها ديكارت من قبره ضد الطبيعة لتمهيد الطريق لتوقيع التعاقد الطبيعي مع الأرض.

ت‌.   سياسيًا:

عندما تقترح الفلسفة السياسية الحديثة مفهوم التعاقد الاجتماعي، فهي لا تفكر خارج أفق فلسفة الذاتية والبرنامج الديكارتي. فالاهتمام السياسي هنا هو بالذات وبالفرد وبالمواطن وبالإنسان وحقوقه المدنية والسياسية. ولم يتم التفكير في حقوق باقي التجمعات/المجتمعات الحيوانية والنباتية وعناصر الحياة الأساسية (الماء، الهواء، التراب، النار). فقط الإنسان ولا شيء غير الإنسان هذا هو شعار التعاقد الاجتماعي والأنوار.

هذا الاهتمام بالإنسان ونسيان الأرض، البيت والمأوى الأنطولوجي للكائنات هو ما ينتقده م. سير في التعاقد الاجتماعي ويدعو إلى تجاوزه عن طريق توقيع التعاقد الطبيعي. تعاقد المجاملة حيث يعمل الجميع على معاملة الجميع برقة ولطف وتجنب كل ما يزعج الأخر والسهر على سلامته ضمانًا للسلامة الجماعية لركاب سفينة أفلاطون. فكل خلاف بين المسافرين أو شجار أو عنف قد يؤدي إلى غرق السفينة وهلاك الجميع.

ولتوقيع هذا التعاقد الطبيعي نحتاج إلى سياسيين جدد يأخذون بعين الاعتبار المدى البعيد، سياسيين فيزيائيين أي علماء طبيعة وليس خطباء غارقين في الإشهار والإعلام.

ث‌.   أخلاقيًا:

لا يمكن لأخلاق إنسان ديكارت أن تخرج عن النفعية والتملك والتحكم والعنف والإخضاع في علاقة الذات بموضوعات العالم. ومن تم فأفق الحرب يظل دائمًا مفتوحًا ضد الطبيعة كما هو ضد الإنسان.

ومن تم فالأساس الميتافيزيقي للحرب اليوم بين الأمم هو إعلان الحرب على الطبيعة الذي صدر في القرن السابع عشر عن ديكارت. فهذه النزعة الحربية تجاه الطبيعة تصيب الإنسان أيضًا باعتباره جزء لا يتجزأ من الطبيعة. وهكذا تنقلب هذه النزعة إلى دمار مزدوج للطبيعة والإنسان. فانهيار الأنظمة البيئية هو انهيار النظام البيئي للإنسان، ولأن حياتنا مشروطة بحياة تلك الأنظمة فالواجب الأخلاقي يتجلى في احترامها والمحافظة عليها والتعايش معها وتنميتها.

وبدل هذه الحرب الشاملة التي يشنها الإنسان على الطبيعة وعلى نفسه، يدعوه م. سير، مثلما حدث لأشيل، إلى إلقاء السيف والقوس ورفع يديه بالدعاء حبًا للأرض. لأمنا الأرض. والإسراع بتوقيع التعاقد الطبيعي وتعويض غرائز الحرب تجاه الأرض والذات بغرائز الحب الكوني للأرض باعتبارها سكننا الأنطولوجي الذي علينا أن نهتم به وأن ننصت إليه وننفتح عليه ونتناغم معه تحقيقا لحياة إيثيقية سعيدة تأخذ بعين الاعتبار الحاضر والأجيال القادمة.

ج‌.    نحن والتعاقد الطبيعي:

إذا كان زمن العالم اليوم كما يصوره م. سير هو زمن التعاقد الطبيعي ومجاوزة التعاقد الاجتماعي بكل دلالاته الفلسفية والعلمية والسياسية والأخلاقية، فإن زمننا لا يزال غارقًا في تصورات العصور الوسطى ويتطلع إلى عصر الأنوار باحتشام كبير في ظل الاستبداد القائم. وزمننا مدعو بفعل التاريخ والجغرافيا إلى الوعي بنهاية العصور الوسطى ومحدودية عصر الأنوار والتعاقد الاجتماعي، فبالرغم من أهميتهما لم يعودا كافيين لفهم عالم اليوم. ونحن بهذه الكيفية مدعوون إلى إبداع مفهومنا الخاص عن الزمن، مفهوم أشبه بزمن الحلم حيث تتعاصر كل الأزمنة في زمن واحد. فنحن غارقون في التراث ونعيش الحداثة وما بعد الحداثة ولا نعيش أي زمن، ومطالبون بتوقيع التعاقد الطبيعي ونحن لم نوقع التعاقد الاجتماعي بعد. نحن مطالبون بمجهودات جبارة لاختزال المسافات الضوئية التي تفصلنا عن العالم اليوم في عالميته. فإما أن نتكيف بشكل جيد مع المناخ وبيئة ولغة العالم الجديد وإما أننا سنحكم على أنفسنا بالانقراض.

*** *** ***

المصدر: موقع الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة http://amep.org.ma


 

horizontal rule

* مفتش تربوي وباحث في الفلسفة، المملكة المغربية.

 

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني