حوار الرُّوح بين
مَيّ وجبران
محمود جميل حميداني
- أعرفُ أنَّكَ محبوبي وأنّي أخافُ الحُبَّ!
- لماذا تخافينه؟!!!أتخافين نور الشَّمس!!
كم سيكون البصرُ قاصرًا والبصيرةُ عشواءَ إن لم يرفُلا معًا بما في
العُمْق من صوفيَّة هذه العلاقة العاطفيّة بين عبقريَّتين استطاعتا
معًا أو منفردَتَيْن أن تخلِّفا لنا سفْرًا مخصوصًا من العشْق الجميل
الحزين الذي ما إنْ نفتحْ نوافذه المُغلقةَ على الطُّيوب وأزهار
البنفسج حتّى تهبَّ على قلوبنا نسَماتُه الرَّهيفة مداعبَةً في
وجداناتنا شفيف أحلام غافية.. وإنَّه لَيُخيَّل إليَّ وأنا ألجُ
صالونًا أدبيَّ السِّمات عُلْويَّ القسَمات كانت تلك الأقحوانةُ
الفلسطينيَّة المُشْربَةُ بفُتون التَّلاوين المصريَّة اللبنانيَّة
تضوع على فضائه القُرمزيِّ مسكَ الجمال المعصور من خمور الحبِّ
المُعَبَّأِ في آنيات صافية الوَعيِ ماسيَّة الشَّفافية يأتلق فيها
موروثٌ شرقيُّ الطَّابَع... للسَّليقة التألُّهية فيه عبيرُ التَّراتيل
وهمسُ القداسة وأناشيدُ الصَّلاة.. وخوفٌ من المجهول غيرِ المُجَرَّبِ
أيُّ خوف!! أجدُني أنا الآخَر مَرْميًّا على أرصفة المظانِّ التي ترتعش
لها أوتار القلب غارقةً في لُحون شجيَّةٍ ما بين جماليَّات المكان
وروحانيَّة العزف وذلك المخصوص بلا حدود من الحضور الآسِرِ لنافحة
الحُسْن من وافر أزاهيرها ما بين رشاقة كلمة وأسيل خدِّ وسهام رُمشين
ونَهِم حياة ولذيذ بَوْح.. ووَفْرَة مُنْشِدين لكلٍّ منهم روعةُ أداء
وسموِّ مقام. ولعليَّ أجد لحاصِد أبلغِ وأرقِّ العبارات ذلك
الرَّافِعِيِّ المسكونِ بها مدَّ محيطات الأحاسيس وتموُّجات المشاعر
والخَلَجات كبيرَ العُذْر فيما توهَّمه من حُبٍّ رسمته ريشةُ خيال
مُبدْعٍ دفَّاق هدهده على هيئةِ رسائلَ مُشْرَعَةٍ على الأحزان تعيشُ
في أسْر الورد وشِباكِ السَّحاب الأحمر الشَّفقيِّ الملوَّن بصباغ
الغُروب الأزليِّ الذي لم ينبثق عنه مجرَّد شروق.. وأسجِّل للآنسة
الرَّاهبة السَنيَّةِ (مَيّ) حقَّ الانفتاح على أرجاء المُلْتَقى بما
توفَّر لها من الحسن والمَوهِبة وروعة الحضور ما وهبَ الأنظارَ
والأسماعَ والقلوب حريَّةَ تفنيد الخواطر وتجنيح المُخيَّلات.. ارتقاءً
إلى سماء الخَلْق والإبداع أو انكفاءً إلى أقبيةِ الوجعِ الذي لا هروبَ
من وطأتِه إلاَّ إلى الوهم والضَّنى والعذابْ... دون التَّمحيص في ما
إذا كان ذلك مُتَعمَّدًا أو عَفَويًّا.. إذْ إنَّ للمواهب حقَّها في
اختيار المَجْرى وآليَّات التَّعبير... كما وإنَّ للشَّغَف عند
المُرْتادين المَدْعويين كاملَ الحقِّ في ما يشعرون أو يظنُّون!! وهل
للوردة العَطِرة أن تُنكرَ على مُعتفي نفَحاتِها التنعُّمَ بالعبير أو
للمغنِّي المُجيدِ أن يستنكر من معجبيه التَّماهيَ والاندياح؟؟؟ فمَن
يقرأ ما كتبتْه في إحدى رسائلها للعقَّاد لَيَحارُ في فهم ما تعنيه وقد
علَّقت على رسالته بقولِها: (إنَّ ما تشعرُ به نَحْوي هو نفسُ ما شعرتُ
به نحوك. وقد خشيتُ أن أفاتحَك بشعوري نحوك) فهل تُراه حقًّا قد صرَّح
لها بحبِّه وتعلُّقه بها؟؟ أو ما حقيقةُ شعورِه الذي لم تصرِّحْ به
نحوَها؟؟..أم أنَّها كانت تحاول إيقاعَه في دوَّامة الحَيرة ذاتِها
التي صدرَ عنها في رسالته إليها من ألمانيا؟... يؤكِّدُ هذا موضِعٌ
آخَرُ من الرِّسالةِ نفسِها: (إنَّ الحياءَ منعَني... وقد ظننتُ أنَّ
اختلاطي بالزُّملاء يُثيرُ حَمِيَّةَ الغضب عندك.. والآن عرفتُ شعورَك
وعرفتُ لماذا لا تميلُ إلى جبران خليل جبران). وسأسمح لنفسي أن أتأمَّل
الردَّ هذا وأسبرَ غوْرَه.. أليس التَّلميحُ يُغني عن التَّصريح؟؟وماذا
يعني خوفُها من أن تُثير حميَّةَ الغضب عنده؟؟!! وفي عودة سريعة إلى
تصريحها (إنَّ ما تشعرُ به نحوي هو نفسُ ما أشعرُ به نحوَك) كَشْفٌ لا
خَفاءَ فيه لحبٍّ كبير يعتمل في صدرها وتخشى أن يرتسمَ بوضوحٍ للعِيان
أو أنَّها تخافُ الحُبَّ فعلاً كما أجابَت جبران؟؟ في لاوَعيِ هذه
الأديبة العاشقة نَهَمٌ كبيرٌ للحياة المُطْلَقَة غيرِ المشروطة أو
المُقيّدة بما لا ترتضيه موروثاتُها العَقَديَّة المُتأصِّلة فيها حدَّ
التَّعقيد والاختلاط غيرِ القابل للعلاج وهو ما أوصلَها بعد فشل
العلاقة بينها وبين مَن أحبَّت فعلاً وبكليَّتِها الدينيَّة
والشُّعوريَّة والعبقريَّة إلى ما ظنَّه أصحابُ المصالح والمُشَكِّكون
فيها من الخَبَلِ أو الجنون!! وهي المبَرَّأةُ في ميزان الحقيقة
والواقع من هذا كلِّه... اللهمَّ إلا اللمَمَ النَّاتجَ عن تناقُضٍ
مُرعبٍ وفظيع بين أحاسيسها وموروثاتها من جهة وبين عبقرَّيتِها والخوف
المنفتحِ على التوهُّم من أخرى... هذا بعضُه وآخَرُ كثير يُلزمُني
النَّأيَ بالبحث عمَّا لا طائل وراءه ولا غنَاءَ فيه.. من منطلقٍ وحيد
أومنُ به يعود إلى الطَّبائع والمشاعر والأحقِيَّات... لهذا سأكتفي بما
أراه يتماهى وهذه الشَّخصيَّةَ المُتفرِّدة والوشائج التي ربطتها بمَن
تمنَّت (كما أعتقد) أن يكون لها وحدها غافلةً عن طبيعته العبقريَّة
المفتوحة على التعايش مع الحياة وهي على هيئة حصولِها، أو كما هي، دون
موانعَ أو حدود. وهو ذلك الحبيب المُرتسِمُ بريشة الخيال وألوان الأمل
السَّاكن في البعيد. ما جعل العلاقةَ بينهما أشبهَ ما تكون
بالطُّوباويَّات أو المثاليَّات. جاءت على صورة رسائل وشجونٍ تقترب إلى
حدٍّ كبير من المعزوفات الوجدانيَّة المحمَّلة بكمٍّ هائل من الأحاسيس
المُنفلتةِ بعضَ حين من ضوابط العقل والمُنحازةِ إلى العواطف التي
سَرْعانَ ما تنكفئُ على ذاتها بفعل التَّأمُّل العقلانيِّ النَّاشئ من
البُعد والخوف من المجهول مرَّةً ومن الأسْرِ الذي يُجبرُ القلب على
الجَريان في مضيق الاستسلام لوقْعِ اللَحظة فيفقد حريَّتَه المفتوحة
على المُطلَق تحت وطأة واقعٍ تجد فيه نفسَها مَثارَ العديد من
الاهتمامات ومحطَّ الكثير من الإعجاب يزيد على هذا ما تناهى إليها من
الأخبار عن ذلك الجبران وعلاقاته العاطفيَّة وهو الأديب الشَّاعرُ
الفيلسوف الذي أطبقت شهرتُه الآفاق وتحلَّقت حوله الفاتنات والمعجبات
وهو ما تعانيه في خضمِّ علاقاتها الثَّقافية والأدبيَّة ومع العديد من
المشاهير فتزدادُ حيْرةً وتوجُّسًا.. وما بين ما تتمنَّاه وتتطلَّع
إليه بحارٌ ومحيطات وموانعُ وأسوار لم يستطعْ هو أن يتجاوزها ولو
بزيارة تُعين على الالتقاء كما لم تقدرْ هي الأخرى على تحطيم بعضها ما
زاد الطِّينَ بِلَّةً وبات الترقُّبُ والانتظار والتَّراسُل البديل
الأوحدَ في لا جدوى الفعل إلى أن كان ما كان وقد أسرع قطار العُمُر
وحان وقت الارتحال لتفاجَأ بالمحطَّة الصّعبة وتضطرُّ إلى النُّزول فلا
ترى أمامها غيرَ الوَحشَة والأسى والوحدة القاتلة فلا معجبون ولا
أصدقاء حقيقيُّون وقد انصرف الجميع غيرَ أصحاب المصالح والطَّامعين
وإذا كان لنا الحقُّ في محاولة تفسير أو فهم أسباب خوفها العقيم هذا من
الحبِّ فلا بدَّ لنا من التَّوقُّف (كما أرى) عند رسالتِها بالِغةِ
الأهميَّة لجبران والتي ترسمُ تهويماتُها خطوطًا واضحةً لتشكيلات خوفها
وحقيقة مشاعرها.. ثمَّ ما ردَّ به عليها جبران:
غابت
الشّمس وراء الأفُق ومن خلال الأشكال والألوان حصحصَتْ نجمةٌ لامعة
واحدة هي الزُّهْرَة.. أتُرى يسكنها كأرضِنا بشَرٌ يُحبُّون ويتشوَّقون
ربَّما وجدت فيها مَنْ هي مثلي لها جبران واحد تكتب إليه الآن
والشَّفقُ يملأ الفضاء وتعلم أنَّ الظَّلامَ يخلُفُ الشَّفقَ وأنَّ
النُّورَ يتبعُ الظَّلام وأنَّ اللَّيل سيخلُف النَّهار والنَّهارَ
سيتبع اللَّيلَ مرَّاتِ كثيرةً قبل أن ترى الذي تحبُّه فتتسرَّب إليها
كلُّ وَحشَة الشَّفق وكلُّ وَحشَة اللَّيل!!! فتُلقي القلم جانبًا
لتحتمي من الوحشة في اسم واحدٍ هو [جبران]..
عَتْمةٌ تسيطرُ على مُناخ الرِّسالة فتزيد المخاوف وقد غَربت الشَّمس
وفي هذا إشارةٌ لاتخفى لرؤيةٍ عبقريَّة التَّصوُّر أدبيَّة الطَّابع
شاعريَّةِ السِّمة لا أثرَ للواقعيَّة فيها غيرَ تحسُّس النهاية التي
باتت تتراءى من بعيد.. ولم يعُدْ يُجديها التماعُ نجمةٍ بعيدة مرتهَنَة
لمجاهيلِ عديدة يشي ببعضها تمحورُ التَّساؤلات حول إمكان سُكناها وهي
النَّائية غيرُ المُكتَشَفة!!! وهل لمشاعر الحبِّ الذي تَنْشُدُه فيها
مكانٌ.. يتسع لها وحبيبها معًا دون دُخلاء؟؟ وتجيء (ربَّما) لا لتمحوَ
الشكَّ بنور اليقين، بل لتزيدَ الأمر تعقيدًا فهي تدرك أنَّها قد ولجت
خريف الحبِّ أو كادت (والشَّفَق يملأ المكان) وبدَهيٌّ أن يتبعَ
الشَّفقَ ظلامٌ يتلوه نورٌ ثمَّ ظلامٌ وبعده نورٌ ثمَّ ظلامٌ في
تعاقُبٍ مرير ومتواتر لن تجنيَ منه إلا الوحشة المتوالية بكليَّتها تلك
التي يخلقُها تفكيرٌ ضبابيٌّ هو أقرب إلى العُقَدِ النَّفسيَّة بل
استجلابها من البحث عن منفذ للخلاص.. أهو اليأسُ؟ أم الخوف؟ أم الأنا
المُتضخِّمة والتي أحسن رسمَ شبيهِها أناتول فرانس في رائعته
(لوليتا)؟؟
سؤالٌ يفرض نفسَه في مواجهة هذه الشَّخصيَّة التي تتشابُك فيها
الافتراضات حدَّ التَّعقيد.. تلك التي أجاب عنها وجلاَّها جبرانُ نفسُه
على شكل أسئلة تحمل في حناياها دفئًا لم تتدثَّر به فاتنةُ القلوب
وكأنَّ عينَ حسود قد أصابتها وأمرضتها وعطَّلت فيها القدرة على الفعل
فغدتْ مسلوبةً إلاَّ من البثِّ والشَّكوى والارتهان للمخاوف وافتعال
العثَرات كتبرير أسودَ جديبٍ للهروب من القلب إلى منفى الذات المعذَّبة
التي تتلذَّذُ باجتلاب الوَحشة وترقُّبِ الغياب.. هل تخافين الحبَّ؟؟
لماذا تخافينه؟؟ هل تخافين نور الشَّمس؟ مدَّ البحر!.. طلوع الفجر..!
مجيءَ الرَّبيع... علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين
والوحشة ورغم مافيه من الالتباس والحيرة. لا أعجبُ لما أسمعه من نبيِّ
الكلمة ورسول المعاني في ما حاوله عبر هذه التَّساؤلات لإنقاذ ما يمكن
إنقاذُه في لا جدوى الاستقبال عند هذه المعشوقة التي حرمت الكثيرين،
وأفترض نفسي بينهم، كما حرمت نفسَها من الحبِّ الولود الفاعل مُتشاغلةً
عنه بتجلِّيات صوفيَّة روحانيَّة وعذابات غادرتها والكثيرين ممَّن
أحبُّوها خاوية الوفاض حدَّ اتِّهامها بالجنون.. اللهمّ إلا من ذلك
الأثر الذي لا يمّحي من جماليَّات رسائلها وكتاباتها ومدوِّناتها
وتفاصيلَ حالية وثَرَّةٍ من حياتها وصالونها الأدبيِّ بروَّاده الأعلام
وعلاقاتهم العاطفيَّة ومحاصيلهم الجَنِيَّة.
هو شأن العباقرة والفائقين في كلِّ زمان ومكان.. لَهَفي على أمِّ كلثوم
التي هي صِنْوُ مَيٍّ الرَّائعة الفَتون هذه في حرمان قلبها وعاشقيها
وفي مُقَدَمَتِهم الشَّاعر الذي أعشق قصائده وبخاصَّةٍ تلك التَّرجمة
الفريدة في شاعريَّتها (رباعيَّات الخيَّام) والتي نافت على الأصل
عاطفةً وتماهيًا وعُذوبَةً.
مَيُ.. أحبُّكِ.. كما أحبَّك الكثيرون...
أنت الجميلة، أنت المُبدعة، ولجبران الذي حرمتِه الحقَّ في النَّوال
كبير تعزية القلوب ولكِ وقد حرمتِ نفسَكِ المعنى الأسمى للحياة آهَةٌ
وحرقَةٌ ومرارات.
*** *** ***