مازلتُ أغنِّي منذ الفجرِ. أدثِّرُ ريشي بالأغصانِ الخضرِ لشجْرة تينٍ في الطرف
الغربيِّ من البلدةِ. أقصدُ أنْ أتخفَّى خلف الأغصان اللفَّاءِ، لأني أخشى
الإنسانَ، وأخشى أن يرمي نحوي حجرًا، أو ينصب لي فخًا من دبقٍ، أو يقنصني
بالبارودةِ، أو حتى أن يقطع كلَّ الأشجار، ليحظى بي.
أشعرُ بالغبطةِ حين أغنِّي، قلبي يقفز من صدري. يتدحرج في الغاباتِ، فترقص كلُّ
الأعشابِ البريَّةِ. أعرف أني لا أحسنُ شيئًا غير غنائي. لكنِّي لن أترك بيتي
في هذي التينةِ! أمِّي ترغب أن أتركها، وأسافر في كلِّ مكانٍ، حيث الشَّمس
فصولٌ أخرى، من قمحٍ وحصادٍ. تغريني أمِّي بالنَّهرِ، بأشجار الكينا، باليرقاتِ
على جذع الصفصافِ. ولكنِّي أرفضُ أن أتزحزح عن مملكتي في أغصان التينِ. أقول
لأمِّي: أشعر بالحزن يغلِّف أعماقي، وغنائي لا يشفيني منه! أشعر بالغربةِ
والخوف من المستقبلِ. والإنسان عدوي وعدو البيئةِ. لن أجرؤ أن أسكن في شجرٍ في
الطرف الشرقيِّ من البلدةِ. حيث أقام الإنسان معامله قرب النَّهرِ، نصيبي، إن
غادرت فضائي، مرضٌ في رئتي أو هرمٌ في روحي.
التغييرات
المناخية وارتفاع درجات الحرارة والاختلالات البيئية تشتدُّ على كوكب الأرض
وتنبِّه البشر إلى أنَّ هذا الكوكب قد يتحوَّل إلى عالم غير قابل للسكن. فتسارع
الدول العظمى إلى عقد القمم وتوقيع البرامج، رغم استئناف مشاريع زراعة الدمار
في المدائن المعطوبة، أي عالم يهيِّئه لنا الساسة وما مصير هذه الأرض المثقوبة؟
لسنا مطالبين بالبكاء على ما يحدث، بل باختراع أقاليم وجوديَّة جديدة إنْ أردنا
للحياة على الأرض أن تبقى ممكنة. لكن أيُّ شكل من «النحن» يمكنها اختراع أنماط
من الحياة الممكنة حيثما يسطو منطق الموت والدمار؟ وكيف يمكن للعالم أن يكون
صالحًا للسكن والسماء توشك على الانفجار فوق رؤوسنا؟ تلك بعض من الأسئلة التي
يطرحها الفيلسوف الفرنسي فيليكس جاتاري
Felix Guattari
في كتابه الإيكولوجيات الثلاثة (1989).