أطوار صورة الله
في التوراة 13: ما الذي حدث فعلاً في عصر القضاة
فراس السواح
لقد
توصل النقد النصي لسفر القضاة منذ وقت مبكر إلى أن أحداث هذا السفر قد
جرت في منطقة المرتفعات (أو الهضاب) المركزية فيما بين وادي يزرعيل (أو
مرج ابن عامر) في جنوب الجليل وبيت إيل الواقعة على مسافة قصيرة إلى
الشمال من أورشليم، وهي المنطقة التي قامت عليها فيما بعد مملكة
إسرائيل – السامرة. والصورة التي ترسمها هذه الأحداث لمجتمع ذلك العصر،
هي صورة مجتمع زراعي رعوي يقوم على اقتصاد الأسرة والقرية الصغيرة.
ونظرًا لعدم وجود المدن الكبرى التي طورت مجتمعًا حضريًا مركبًا، فإن
السلطة السياسية المركزية التي تجمع هذه القرى في بنية سياسية واحدة
كانت غائبة، والولاءات السياسية كانت تقف عند مستوى العشيرة ونادرًا ما
تعدتها إلى مستوى القبيلة التي لم تتمتع إلا بحضور نظري. من هنا فقد
كان من الصعب جمع كلمة القبائل وتوحيدها في وجه الأخطار الخارجية.
يُضاف إلى ذلك أن القبيلة لم تكن تتمتع بكيان سياسي واضح، ونحن لا نسمع
عن شيخ أو رئيس لهذه القبيلة أو تلك وإنما عن "شيوخ القبيلة" وهو تعبير
فضفاض لا يتضمن معنى السلطة. فربما كان هؤلاء الشيوخ هم الأكثر ثراءً
أو الأرفع قدرًا وربما كانوا الأكبر سنًا. نقرأ في قصة يفتاح الجلعادي
على سبيل المثال: "فلما حارب بنو عمون إسرائيل، انطلق شيوخ جلعاد
ليأتوا بيفتاح من أرض طوب...الخ." (القضاة 11: 5 – 8). وكما نستنتج من
التركيب اللغوي لأسماء القبائل فإن معظمها كانت تسميات لمناطق جغرافية
مثل: أفرايم، وبنيامين، ويهوذا، ونفتالي. وتعكس حدود مناطق سكنى هذه
القبائل، إلى حد كبير، الحدود الطبيعية الفاصلة بين مناطق المرتفعات
الفلسطينية. وقد أدى انعدام السلطة السياسية المركزية إلى فقدان السلطة
الدينية المركزية ومؤسساتها. فعلى الرغم من وجود تابوت العهد في شيلوة
إلا أن هذه البلدة لم تكن مركزًا دينيًا بالمعنى المتعارف عليه،
ونافستها مراكز أخرى مثل شكيم حيث كان معبد بعل يريث أو إيل بريت
(القضاة 8: 23، و9: 46)، ودان حيث كان معبد بيت الآلهة الذي لميخا
وكاهنه اللاوي، ثم نقله الدانيون إلى مدينتهم (القضاة 17: 5، و18: 27 –
31).
فإلى أي مدى يؤكد
علم التاريخ وعلم الآثار هذه الصورة لمجتمع مناطق المرتفعات الفلسطينية
لاسيما منطقة المرتفعات المركزية مسرح الحدث؟
تؤكد نتائج المسح
الأركيولوجي الشامل لمناطق المرتفعات الفلسطينية التي قام بها المنقبون
الإسرائيليون خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، أن هذه المناطق
كانت شبه خالية من السكان خلال القسم الأخير من عصر البرونز الأخير
(1350 – 1200 ق.م). ولكن مع نهايات القرن الثالث عشر عاد الاستيطان
البشري إليها بشكل بطيء وتدريجي، حيث أخذت قرى صغيرة في الظهور قام
أهلها بفلاحة ذرى الهضاب بعد تعريتها من الشجيرات البرية الصغيرة،
وقاموا بتحويل سفوحها إلى مدرجات صالحة للفلاحة، وحفروا خزانات المياه
التي تحفظ مياه الأمطار الشتوية. وقد استغرقت عملية الاستيطان هذه كامل
عصر الحديد الأول أي قرابة قرنين من الزمان، من عام 1200 إلى عام 1000
ق.م. وهذا يعني أن الصورة العامة التي رسمها سفر القضاة، اعتمادًا على
الذاكرة الشعبية، لمجتمع ريفي رعوي نشأ بعيدًا عن سلطة المدن الكبرى في
السهول والأودية، تتطابق إلى حد بعيد مع الصورة التي رسمتها لنا نتائج
التنقيب الأثري، ولكن مع فوارق على درجة كبيرة من الأهمية.
فالمنطقة لم تُسكن
من قبل موجة بشرية واحدة حلت في الأرض في وقت واحد أو أوقات متقاربة،
وإنما على مدى زمني واسع ومن قبل جماعات ذات أصول مختلفة. ثم إن هذه
الجماعات بدأت تتقارب على شكل عشائر وقبائل بداعي سكن كل منها في منطقة
جغرافية معينة. أي إن التشكيل العشائري لم يكن سابقًا على الاستقرار
وإنما لاحقًا له. وتدل المخلفات المادية التي تركها لنا هؤلاء على صلة
عضوية بالثقافة الفلسطينية لعصر البرونز الأخير، الأمر الذي يدل على
أصولهم المحلية، وينفي وصول هجرة جماعية كبرى من خارج المنطقة جلبت
معها تقاليد ثقافية جديدة ومغايرة. كل هذا يدل على أن عودة الاستيطان
إلى مناطق المرتفعات الفلسطينية لا علاقة لها بالقصة التوراتية عن دخول
القبائل العبرانية الموحدة إلى فلسطين واستقرارها في الأرض سواء بطريقة
سلمية أم بالفتح العسكري[1]. وبتعبير آخر فإن
إثنية هذه الجماعات لم تتشكل قبل استقرارها في الأرض، بل جاءت نتيجة
طبيعية للعيش المشترك على أرض واحدة على مدى قرنين أو أكثر.
ولكن ما الذي أدى
إلى إفراغ مناطق المرتفعات الفلسطينية من سكانها؟ وما هي العوامل التي
كانت فاعلة وراء تلك النهاية الفاجعة لثقافة عصر البرونز الأخير ودمار
مدنه، أو إخلائها، أو انكماشها واستمرارها في الحياة كظل باهت لماضيها
المزدهر؟
إن الولع التقليدي
للمؤرخين بتفسير انهيار الثقافات المتقدمة في العالم القديم بغزوات
الشعوب البربرية، كان وراء ترشيح شعوب البحر كعامل أساسي في القضاء على
ثقافة عصر البرونز الأخير واستهلال عصر الحديد. غير أن مجموعة من
الحقائق قد بدأت تتكشف لنا تدريجيًا خلال العقود الأخيرة من القرن
العشرين، جعلتنا ننظر إلى تحركات شعوب البحر باعتبارها نتيجة من نتائج
الأحداث المأساوية في ذلك العصر لا سببًا لها. فتلك الشعوب قد اقتُلعت
من مواطنها بسبب كارثة مناخية طالت النصف الشمالي من الكرة الأرضية،
وتجلت في أوضح أشكالها في منقطة شرقي المتوسط، فيما يُعرف الآن باسم
الجفاف الميسيني الكبير، نسبة إلى منطقة ميسينيا
Mycenea
على السواحل الجنوبية لليونان، والتي كانت بؤرة ذلك الجفاف وأول من
تضرر بنتائجه. إنه لفي حكم المؤكد الآن أن ذلك الجفاف الذي أخذت بوادره
بالظهور منذ بدايات عصر البرونز الأخير ووصل ذروته خلال القرن الثالث
عشر، كان وراء كل الاضطرابات الاجتماعية والحروب والتفكك السياسي في
منطقة الشرق القديم خلال الفترة الانتقالية من القرن الثالث عشر إلى
القرن الثاني عشر.
منذ ستينيات القرن
العشرين أخذت معلوماتنا عن التبدل المناخي العالمي تتخذ طابعًا أكثر
دقة وعلمية لاسيما فيما يتعلق بمناخ العصور القديمة. وفيما يتعلق
بموضوعنا فقد تبين لعلماء المناخ اليوم من دراساتهم لحلقات جذوع
الأشجار[2] في أميركا الشمالية
وأوروبا خلال سبعة آلاف سنة مضت، أن نصف الكرة الشمالي قد مر بفترة
تبدل مناخي تميزت بالجفاف وارتفاع درجات الحرارة، وذلك منذ بداية القرن
الرابع عشر قبل الميلاد وحتى أواخر القرن الثالث عشر. ثم أخذت موجة
الجفاف بالتراجع حتى زالت آثارها تمامًا نحو عام 1000 ق.م. وقد قام
العلماء بعد ذلك بمقاطعة هذه المعلومات المستمدة من جذوع الأشجار
بمعلومات أخرى مستمدة من دراسة مستوى مياه البحيرات الداخلية، وتحركات
الجموديات، والتبدلات في حالة التربة العضوية. وقد تم الحصول من آسيا
على معلومات تطابقت مع المعلومات المستمدة من أوروبا. ففي سلسلة جبال
الهيمالايا وسلسلة جبال قرقوم هنالك دلائل على ذوبان الجموديات في
أواخر القرن الثالث عشر، ودلائل أيضًا على انخفاض معدلات الأمطار
الموسمية في حوض نهر السند.
وهنالك معلومات من
منطقة الشرق القديم، فحلقات الأشجار القديمة في الأناضول تشير إلى وقوع
جفاف حاد في أواخر القرن الثالث عشر. وفي بلاد الرافدين تشير الدراسات
التي جرت على قوة دفق النهرين خلال ستة آلاف عام مضت، إلى أن ماء دجلة
والفرات قد تباطأ دفقه في أواخر القرن الثالث عشر. وفي مصر بدأ مستوى
الماء في نهر النيل بالانخفاض منذ مطلع القرن الثالث عشر وحتى مطلع
القرن الثاني عشر، وهذا ما أثر على الفيضان السنوي للنهر وقلص من مساحة
الأراضي المروية. وبسبب قلة تدفق المياه إلى فرعي النيل في منطقة
الدلتا، فقد تملحت أراضيها وذوت معظم مدنها الرئيسية بما فيها مدينة بي
– رمسيس عاصمة رمسيس الثاني التي رحل السكان عنها تدريجيًا إلى أن فرغت
من سكانها وتهدمت في أواخر القرن الحادي عشر[3].
إذا جمعنا هذه
المعلومات بخصوص التبدل المناخي في منطقة الشرق القديم إلى ما لاحظه
علماء الآثار من حدوث تدهور تدريجي لثقافة عصر البرونز الأخير، وما
أفادتنا به سجلات الشرق القديم من حدوث اضطرابات اجتماعية وحروب وهجرات
واسعة، لتوصلنا إلى نتيجة منطقية وهي أن عصر البرونز قد انهار بتأثير
كارثة مناخية شاملة، أما العوامل الأخرى بما فيها تحركات شعوب البحر
فلم يكن لها سوى آثار ثانوية، لقد كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. إن
تباعد التواريخ التي حددها علماء الآثار لدمار المدن السورية
والفلسطينية أو لهجرانها في تلك الفترة الانتقالية من عصر البرونز إلى
عصر الحديد، ليدل على تعدد الأسباب المباشرة على الخلفية العامة لذلك
التدهور الشامل. فلقد فقدت هذه المدن مقدرتها على الاستمرار بفقدانها
لمصادر ثروتها بعد جفاف المناطق الزراعية من حولها ورحيل المزارعين
عنها بحثًا عن وسائل جديدة لتحصيل العيش. بعض هذه المدن قد جرى هجرانه
تدريجيًا حتى خلا وتهدم بفعل العوامل الطبيعية، وبعضها تعرض للتخريب
على يد جماعات عسكرية منظمة بينها شعوب البحر، وبعضها دمرته الزلازل
ولم يكن بمقدور سكانه المفقرين ولا بنيته السياسية المتآكلة إعادة
بنائه، وهذا ما نرجح أنه حصل لمدينة أوغاريت.
وقد تلقت المنطقة
الفلسطينية نصيبًا وافرًا من فواجع الجفاف الميسيني. فخلال القرن
الرابع عشر هُجرت المناطق الزراعية الأكثر حساسية للجفاف مثل مناطق
المرتفعات وبئر السبع وما حولها، ثم تبعتها معظم المناطق الزراعية التي
تحول أهلها إلى الرعي المتنقل. ومع العودة التدريجية للمناخ الرطب
والبارد ابتداءً من مطلع عصر الحديد الأول، أخذ الاستيطان البشري
بالعودة إلى مناطق المرتفعات على شكل قرى صغيرة، وقد جاء هؤلاء
المستوطنون الجدد من مصادر متنوعة، فبعضهم كان من سكان هذه المناطق ثم
تحول إلى الرعي المتنقل، وبعضهم الآخر جاء من مناطق فلسطين الكبرى،
وبعضهم كان من أشباه البدو المتجولين في البوادي الجنوبية والشرقية.
وفي هذا السياق نستطيع أن نتصور وصول جماعة من العابيرو الذين خرجوا من
مصر بعد أن استغنت السلطات عن خدماتهم كعمال مأجورين، وأمضوا ردحًا من
الزمن يعيشون على الرعي المتنقل في سيناء. وفي هضبة شرقي الأردن نستطيع
ملاحظة هذه الدورة نفسها من الفراغ السكاني الناجم عن الكارثة المناخية
في عصر البرونز الأخير، ثم عودة الاستيطان في عصر الحديد الأول، على ما
أظهره المسح الأركيولوجي لمناطق عمون ومؤاب وآدوم. وفي الحقيقة فإننا
نستطيع أن نأخذ وصفًا من أحد التقارير الأثرية لإحدى قرى المرتفعات
الفلسطينية النموذجية غربي الأردن باعتباره وصفًا لقرية مؤابية في شرقي
الأردن دون أن نغير فيه شيئًا. فقد عاش هؤلاء المستوطنون شرقًا وغربًا
في نمط البيت نفسه واستخدموا الفخاريات نفسها وعاشوا بالطريقة نفسها في
شتى مجالات حياتهم[4].
كل هذا يقودنا إلى
القول بأن ما يُدعى بطلائع الإسرائيليين في المرتفعات الفلسطينية، لم
يكونوا إسرائيليين أو عبرانيين بالمعنى التوراتي للكلمة. وفي هذا
الموضوع يقول عالم الآثار الإسرائيلي إسرائيل فنكلشتاين:
إذا كان علم الآثار قد أطلعنا على أن قصص الآباء والخروج من مصر ما
هي إلا ملاحم تم تدبيجها في عصر متأخر، وإذا كنا لا نملك شاهدًا مقنعًا
على غزو عبراني موحد لفلسطين بقيادة يشوع، فما الذي نستطيع قوله بخصوص
الادعاء التوراتي عن انتساب الإسرائيليين إلى أمة واحدة؟ إن علم الآثار
يقدم لنا الآن بعض الإجابات المفاجئة. فالتنقيبات في مواقع تلك القرى
الأولى وما كشفت عنه من بيوت وفخاريات ومخازن حبوب وما إليها، قد
ساعدتنا على إعادة تصور الحياة اليومية لسكانها وروابطهم الثقافية.
فهؤلاء على ما نستنتج مخلفاتهم المادية لم يكونوا إلا كنعانيين محليين
طوروا تدريجيًا هوية إثنية يمكن أن ندعوها بالإسرائيلية[5].
وفنكلشتاين يدعو هذه
الجماعات هنا بالإسرائيلية لا لأنهم أدركوا أنفسهم كإسرائيليين بالمعنى
التوراتي، وإنما لأنهم كانوا بمثابة الخميرة للذخيرة السكانية التي
شكلت فيما بعد دولة إسرائيل – السامرة. وها هو يلقي مزيدًا من الضوء
على هذه المسألة في موضع آخر من كتابه:
عندما فُتحت المناطق الهضبية الفلسطينية أمام المنقبين الإسرائيليين
بعد عام 1967، ترافق ذلك مع ظهور جيل جديد من علماء الآثار الذين
استبدلوا أسلوب التنقيب في مواقع متباعدة عن بعضها بأسلوب المسح
الميداني. وهذا الأسلوب يعتمد تمشيط مناطق متصلة بكاملها سيرًا على
الأقدام. وقد أدى هذا إلى اكتشاف أكثر من 200 قرية في منطقة الهضاب
المركزية ظهرت تباعًا في سياق عصر الحديد الأول، وكانت من صغر الحجم
بحيث أن مساحة الواحدة منها لم تتجاوز الأكر (= 400م2)، وتحتوي وسطيًا
على مئة نسمة. وقد بلغ منحى هذا الاستيطان ذروته عام 1000 ق.م. وعلى
عكس المدن الكنعانية في السهول والأودية، فإن قرى المرتفعات لم يوجد
فيها قصور ولا أبنية إدارية ولا معابد، كما لم يوجد فيها أثر لاستخدام
الكتابة. ويتجلى فقر هذه المواقع في عدم وجود بضائع مستوردة فيها، أو
حلي وممتلكات شخصية فاخرة. وكانت البيوت متشابهة ومتماثلة في الحجم وفي
الأثاث، ويتسع الواحد منها لأربعة أو خمسة أشخاص فقط. وعلى النقيض من
حالة الحرب التي تصفها المرويات التوراتية، والتي كانت قائمة في عصر
القضاة بين الإسرائيليين وأعدائهم، فإن السلم كان مستتبًا خلال تلك
الفترة، لأن تلك المواقع لم تكن مسوَّرة ولم يُعثر فيها على أدوات حرب
مثل السيوف والرماح والدروع وما إليها. كما لم يلاحظ المنقبون آثار
تدمير مفاجئ أو حرائق مما يمكن أن تُخلِّفه الغارات العسكرية. لقد كان
صراع هذه الجماعات مع الطبيعة لا مع الجماعات البشرية الأخرى. وفيما
عدا ذلك فقد عاشوا في هدوء وسلام متباعدين عن بعضهم بعضًا في حالة
اكتفاء ذاتي اقتصادي، وبعيدين عن طرق التجارة الإقليمية والدولية.
ولكن من أين جاء هؤلاء السكان؟ إن الإجابة على هذا السؤال تقدمه
بقايا أكبر هذه المستوطنات والتي تكشف عن تنظيم في اصطفاف البيوت غير
مألوف. فالبيوت هنا لا تتجمع بشكل عنقودي وإنما تصطف على حزام بيضوي
الشكل يحصر في داخله فناءً واسعًا، فيما يشبه اصطفاف خيام البدو في
مضاربهم المؤقتة، حيث تنتظم الخيام المنصوبة بشكل بيضوي مشكِّلة باحة
داخلية لإيواء الماشية وحمايتها. وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج بأن
قسمًا كبيرًا من المستوطنين الأوائل للهضاب المركزية كانوا في الأصل
رعاة متنقلين، وإن قراهم الأولى هذه تُعبِّر عن مرحلة وسيطة بين حياة
الرعي وحياة الزراعة، وقد استلهموا في بنائها النموذج الأسبق للمعسكر
البدوي المؤقت.
ولكن الرعاة أيضًا يأتون من مكان ما. فمن أين أتى رعاة الهضاب
المركزية هؤلاء؟ إن قسمًا لا يستهان به من الجماعات التي استقرت في
مناطق الهضاب خلال عصر الحديد الأول جاءت من أصل محلي، وقد كانوا
سابقًا سكانًا زراعيين مستقرين قبل أن تقتلعهم الكارثة المناخية التي
حلت بالمنطقة وتحولهم إلى حياة الرعي المتنقل. لقد كان على سكان الشرق
الأوسط عبر التاريخ أن يتعلموا كيف يتحولون بسرعة وكفاءة عالية من حياة
الاستقرار الزراعي إلى حياة الرعي المتنقل عندما تغدو الأحوال المناخية
غير متلائمة، ثم العودة ثانية إلى الاستقرار عندما تعود الأحوال
المناخية سيرتها الأولى. إن دورة الاقتلاع والعودة هذه هي التي تحكمت
بأصول إسرائيل في مناطق المرتفعات الفلسطينية[6].
*** *** ***
[3]
المعلومات
التي أوردتها أعلاه عن التغيرات المناخية العالمية والجفاف
الميسيني تستند إلى بحث وليم. هـ. ستيجنع:
William H. Stieging, Climate and Collapse. in Bible Review,
Angus, 1994.