تأملات الحب 2
محسن السراوي
كم أنطقت وجداني الصامت وأسمعت صبري الأصم.
وجعلت قلبي لساني، وعيني بياني، ونشرتني صفحة تكتب فيها أفواه العذل
وتتلوها عيون الوشاة.
فلو أن قولاً يكلم الجسم قد بدا... بجسمي من قول الرجال كلوم.
وكم سخرت بهذه النفس الحكيمة، وقمت بين أخوتك من عوائد الأخلاق وحكام
القلوب تريها إنك العادة الواحدة التي تأمر في كل نفس، وتتحكم في كل
قلب، ويستوي عندها الأمير والحقير، والصغير والكبير، تعاليت في ملكوتك
وتنزهت في قدرتك.
ألست أنت ذاك...
وأنت الذي كلفتني دلج السري... وجون القطا بالرقمتين جئوم
تلك عقبى ظلمك أيها الحب. ظلمت الناس فظلموك. وبدلتهم فبدلك. وصرت معنى
شائعًا في المخلوقات كل ذي حاجة عاشق وكل ذي نزوة محب.
لا ألوم ظليلك فالبادي أظلم ولكن لا أعذر هذا الناس الجاهل الذي جعل
مهبطك في غير القلب وأسكنك في غير مأواك.
إن العاطفة التي تخضع النفوس الكبيرة لأحكام الجمال الإنساني ليست إلا
عاطفة شريرة تعتري الجسم ولا تتصل بالروح.
وقليل ما يطهر الحب إذا لم يجز أحد الروحين الواقفين على حد واحد من
العفة النادرة.
الحي هو الذل مع الكمال، لا حب بلا عفة، ولا عفة لحيوان:
الحب جزء من أجزاء الروح بل الروح جزء منه فإنه هو الإيمان الكامل الذي
لم يهتد إليه مخلوق، ولم تتعده المهابة والخشوع.
وأنى لهذا الحيوان الذي نما عوده من هذه النطفة القذرة أن يرتفع إلى
منازل الملائكة المطهرين فيقال أنه "أحب". إن أسلافنا المجانين الأبرار
من القائلين:
وإني لأستحييك حتى كـــــــــــــــــــــــــــــأنما على بظهر الغيب
منك رقيب
وأهابك إجلالاً وما بك قــــــــــــــــــــــــــــــدرة علي ولكن
ملء عين حبيبها
وبتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى يلفنا الشوق من فرع إلى قدم
وبات بارق ذاك الثغر يوضــــــح لي مواقع اللثم في داج من الظلم
وبيننا عفة بايعتها بيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدي على
الوفاء بها والرعي للذمم
ليتألم رفاتهم المستحيل مع الذر إذا عصفت به هذه السطور، ولكنني أقف
أمام آثار أهله الإعفاء، وقفة الناسك بالمعبد يخلع بردة الذنوب عند
عتبته حتى يخرج فيلبسها وقد يكون هؤلاء هم النادرون، فهم أقرب منا إلى
آدم وآدم أقرب البشر إلى الروح:
الحب ليس مسكنه القلب كما يقولون، فالقلب مادة لا يتسع حجمها لهذا
الفضاء الذي تسبح فيه الخيالات والحقائق، وإنما مسكنه الروح الطائر
المحلق في كل سماء، ولكن أخطأ الناس.
ما هذا الخفقان المتدفق بالاضطراب في جانبي؟ إنه شعاع تسلط من الروح
على الجسم فلم يحسه إلا هذا العضو اللطيف... القلب.
لا أثر لك عندي أيها الحب إلا وقوفي خلال التاريخ أندب شبابي الضائع،
وهل أنا لا أعود من ذلك النبات الذي تنميه الأيام ويحصده الحمام.
لقد شمت بك أيها الحب قبل أن تشمت بي. فقدمت أنت قبلي بل هويت من
السماء ومن حلقة الملائكة فسقطت على تلك الصخرة المتحجرة من عواطف
الخلق فانتثرت كقطع الزجاج الراسبة في قاع النهر. منها المضيئة التي
أعراها الماء. ومنها المظلمة التي لبسها الطين.
وقفة في كل بقعة من الأرض بين هذه القبور العطرات - لا قبور الأموات -
ولكن القبور المخطوطة في كل شبر من الفضاء، والماء، والهواء، تلك مدافن
غرام، ومصارع أقوام. إذا مر بها العاشق المعمود نشق أخلاط الطبيب
المنبعثة من معانيها الدفينة الشائعة في نفس الزمن ورأي هذه الآية
مكتوبة بدم القتلى الأبرياء (بالموت يكمل الغرام) وتذكر قول أخيه
المجنون:
مَنَازلُ لو مَرَّتْ عَلْيها جِنَازتِي لقالَ الصَّدَى: يا
حَامِلَيَّ انزِلا بيا
أفاق إلي قول هذا السالي:
إن ربًا بدأ الحب بكم قادر يختم بالسلوى الغرام
دفن الحب وأهلوه معاً فعلى الحب وأهليه السلام
أجل مات الحب وما بقي إلا العواطف اللئيمة ومآرب الحياة الغادرة
المحلاة بالرياء.
والحب من عبث الشباب
والألم، هو
الحب كذبتنا الصادقة...
*** *** ***