ما هو الواقع؟
بعيدًا عن المخيال اللفظي!
محمد حسن
(تموز)
هو
أن تسرح بناظريك في الخُطى حتى الجدار، نتاج شبكات ثلاثية عشوائية. هو
شاب يرتدي التيشيرت وبجواره فتاةٌ تستتر خلف نقاب تبكي حظها العاثر
وجالسٌ عابر على كرسيٍ في حافلة يرقب ذاهلاً. طفلٌ يرتدي زي باتمان
وامرأةٌ تقود سيارة. إنه الكهل في بحر مكتبته. رُبَّان السفينة وحيدًا،
في فكره العالم.
إنَّه غياب الوعي واسترداده بمحاذاة طاولةٍ يحدها الفضاء...
إنها الحصى تعترض الخُطى فقط لأنها حصى وغبارٌ لا تكنسه عاصفةٌ قادمة
لأنها عاصفة غبار! وردةٌ تتمنى لو تعبر النهر فتأتي نحلةٌ تغني لها
أسرار الضفة الأخرى ومن ثم تأتي معزاةٌ تأكلها والنحلة تموت كمدًا
ناثرةً حبات الطلع في ميسم الهواء.
ما هو الواقع؟ إنه مركز ويبو دولي يَنظرُ عَقد تحكيم في شؤون الملكية
الفكرية، وقاضٍ ملَّ جدران غرفته وقرَّر أن يقفز عن قوسه، ومحامٍ
يستمهل لإجراء خبرة نسي كيف يقيم حديقة ورود بين أعماله المهنية وحياته
الشخصية.
إنه منزلٌ يغني كصاحبه الحُبّ لكنه يُسرق في الجوار والسارق في العلن،
لا أحد يشير بإصبعه.
إنه سَفرٌ مؤجل ويومٌ بين الحضور والغياب، خطوةٌ تضم باقي الخطوات. هو
صديقٌ يفك سيور حذاء وعدوٌ يحمل سكينًا كُتب عليها ميري كريسمس!
إنه عقلٌ لفوضى لا مستقر لها إلا الخراب. إنه شابٌ لا يؤمن بالغيب يسأل
شيخًا متدينًا عن شأنٍ مدني ويستقصي خطوبه ليغيب في حيراته.
وحادثٌ ناتج عن ارتطام دراجة بسيارة تبطئُ عابرةً، لا يبقى منه إلا
كسرٌ في الضلوع وتوجسٌ من القدر وحدسٌ لا يخيب!
ما هو الواقع؟ هو فيلسوفٌ يقتفي آثار سوسيير لكنه يؤكد عدم انتمائه إلى
البنيوية. إنه ألم في الرأس وتعبٌ في المخيَّلة. إنّه نقيض الأمكنة
الأخرى التي سماها ميشيل فوكو باليوتوبيات الفعلية.
فما هو الواقع.. هو كل ما ليس هو!
هو مسافرٌ في قاعة المطار يخاف الوداع في اقتحامه لمجهولٍ آتٍ. ومذياعٌ
بصوت مُتقطع لنغمةِ سوبرانو في حافلةٍ مُعطلة. إنَّه قُبلَة شَريدَين
في محطةٍ للقطارات يعبر أحدهما إلى هانوي والآخر إلى حلب.
ما هو الواقع؟ إنه الجهل يستخدم العلم والجهالة تمتطي السيارة. إنه
القتل باسم الحرية والاغتراب باسم التقدم إلى الهاوية. إنه تأسيس
ميتافيزيقيا الأخلاق وهدمها باسم سُلطةٍ تقترب من حفرةِ أتاوات لسماءٍ
انطفأت.
إنَّه كافكا يشغل مديرًا للعلاقات العامة في سلسلة مطاعم ماكدونالد.
إنَّه شاب يحمل العالم بين كفيه، في الصباح يُقبِّل براغ ويعانق سانتا
ماريا في المساء، متنقلاً كالمسحور بين عوالم ماتشو بيتشو لكنه لا
يبارح غرفته وسريره!
ما هو الواقع؟ إنه طَرفة بن العبد وردةُ حزنٍ تتناهبها السيوف، المتنبي
وطنٌ للرحيل كأنه عجيبٌ في زمن العجائب.
أيغريك الرحيل؟ إذن اسمع حاتمًا يقول لعبدٍ عنده:
أوقِد عسى يرى نارك مَن يمر إنْ جلبت ضيفا، فأنت اليوم
حُرُّ!
لماذا أسمعُ هنا صوتَ امرؤ القيس؟
إنه الواقع هوَّةٌ في الجدار، كذبٌ في العلن، حقيقةٌ في السرِّ. تعددٌ
في المفرد، تنوعٌ في النوع وعقلٌ مُختلق لفوضى عائمة على سطح نبتون!
*** *** ***