تهويدةٌ لموت السّوسنة
علاء الدين عبد المولى
تناهتْ إلى جسدي برهةٌ من أنينِ
الكواكبِ
كان على القلب أن يدعَ الوقتَ سيّدَ أشغالهِ العبثيَّةْ.
تخفَّفْتُ من أثر الليل في شمعةٍ ناحلةْ
لأعثر بعد انسحاب الظلال على قمرٍ ميِّتٍ
صباح البياض عليكِ
صباح الرَّماد عليّ
تأخَّرتُ هذا النهار لأنَّ ورودًا وحلوى وفاكهةً
سوف أحضرها من صدىً مضمرٍ في الصخورِ
تعثَّرْتُ بالعشبِ في حلمي
انسحب النهر من ضفَّتيه
وأجَّلتِ الأرضُ عرسَ الندى المتقطِّر
من وردةٍ نسيتْ هي أيضًا صلاة الضحى
صباح البياض عليكِ صحا
صباح الرمادِ معي ذُبحا
هناك بيوتٌ وراء الجبال
وما لي هنا عتبةٌ لأموتَ
هناك مدائحُ في كتبٍ وأغانٍ
نسيتُ مقاماتها كلَّها
ولي ثغرةٌ تحت قرميدِ هذا الوجود
تهرِّبني نحو ماضٍ سيأتي قريبًا على خشب النَّعشِ...
... مشفى يعومُ على نكهة
الاحتضار
وللاحتضار نوافذُ حشرجةٍ في عروق المساء
له رِقَّةُ القلبِ مطحونةً برعاف الغناءِ
وفي الموت تستنفرُ العضلاتُ الهزيلةُ
علَّ الملاك الرَّحيم يضلِّله كائنُ اليأسِ عن يأسه
أو لعلّ نداءً رخيمًا يساعدُ في حملِ هذا الخرابِ
تأخَّرت هذا الصباحَ قليلاً
وضيَّعتُ سلَّةَ فاكهتي في الطريق إليكِ
عثرتُ على الروح تخفق، تعلو، وتخبطُ،
تَغرُبُ، تشرقُ، تذهب للمقبرةْ
بمفردها لتؤمِّنَ للجسدِ الرَّخوِ مترًا
وشاهدةً وترابًا يشيِّعُ بنتَ الترابِ
وما كنتُ أدركُ ما يبعدُ الوَردَ
في عيدِ ميلادكِ العدميِّ
لماذا تموتينَ هذا الصَّباحَ؟
وفي شهر تمّوزَ تختتم الرُّوحُ أقوالَها في معاشرةِ الطِّينِ،
من أربعين سنةْ
ولدتِ على طرف النور كالمئذنةْ
وعند اكتمالِ الأذانِ الوجوديِّ
عدتِ إلى الأرضِ حتى تضيفي قليلاً
من الآسِ في يومِ ميلادكِ المنكسرْ
كإبريقِ ماسٍ على كتف السّوسنةْ
ومن عادةِ الموتِ أن يتسلَّلَ
بين ثنايا العبادِ
لماذا إذًا جاءنا واستقرَّ طويلا
تمدَّدَ خلف الخزائنِ
شاركنا نومنا سنواتٍ عجافًا،
وشاركنا قدحَ البنِّ والشاي واليانسون
تربَّعَ فوقَ مساندنا وتدلَّى برجليهِ فوقَ السَّريرِ
عرفناهُ أكثر من حلمنا
رجوناهُ أن يتسلَّى ولكن بعيدًا عن البيتِ،
أن يتأنَّى قليلاً إذا اختارَ غفوته بيننا
غسلنا له شَعْرَه بالدموع
ورجليْه بالزَّنجبيلِ
رششنا عليه تمائمَ أعشابنا
تسلَّم منَّا مفاتيحَ أبوابنا
والبقيَّة من خمر أنخابنا
ولكنَّه لم يغيِّرْ مزاجا
ولمْ يُبْقِ في أيِّ ركنِ سراجا
ولم يسترحْ من مناكفةِ الروح كلَّ دقيقةْ
بعثناه صوب الحديقةِ
يبحث عن رزقه، فأبى،
وتدخَّلَ حتى بأصواتنا
حيث مالت إلى الاختناقِ بملح الكآبةْ
رشوناهُ بالياسمينِ وعطرِ القرنفلْ
أخذناهُ للحجِّ أو للكنيسةِ،
واعتادَ منَّا على لغةٍ تتخفِّفُ من تبعاتِ الكتابةْ
فآثرَ أن يرفض الماءَ من زمزمٍ
وصبَّ على الأرض زيتَ المسيحِ
تمرَّدَ، شقَّ ستائرنا
وتستَّر خلف شعاع الصباحِ
ولم يكترث لا لصوتِ الحمامِ ولا للنّواحِ
هو الموتُ لاعِبُنا في ممرٍّ من
الشَّوكِ
يقذفنا بكراتٍ من السَّرطانِ
يخلخلُ روح الزمانِ
ويتركنا دون دفنٍ بقبر الأغاني
لهذا ... وداعًا...
خذي الموتَ واستأنفي الفجر خارجَ
هذا الوجودِ المهانِ
خذي أمسكِ المتكوّم تحت الشراشفِ
شدِّي على كفنٍ بيديكِ
لئلاّ تطير الفراشاتُ ثانيةً وتعاني
أطيلي المقام هناكَ
فليس هنا أحدٌ
غير هذي القصيدةِ تكسر ظهري
وتجري ورائي مهشَّمةً كحصانٍ عجوزٍ
تضعضعَ ممَّا تجمَّع في روحه من ورمْ
وليس هنا غير ليلٍ صريعٍ
وحزنٍ رضيعٍ تمرَّس في مصِّ ثدي الألمْ
خذي بابَ قبركِ لا تفتحي للجرادِ
ولا تسمحي لبني آدمِ أن يعودوا إليكِ
لكِ الكونُ في صمتهِ
لكِ الصَّمتُ في كونهِ المتداعي
ولي أن أغيِّرَ بعدَ قليلٍ شؤونَ مخيِّلتي
لأعودَ إلى نسج قمصانِ حلمي
على مغزلٍ حجريٍّ بقبوِ الضَّياعِ.
لكِ الصَّمتُ في القبرِ، قبرِ
الوداعِ
20 تموز 2010 – 24 كانون الثاني 2011
*** *** ***