الجماعات المتخيلة – تأملات في أصل القومية وانتشارها
إميل جعبري
أسئلة
عديدة تكشف الغطاء عنها أنهار الدماء التي تحفر عميقًا وجه بلاد لم
تنجح بعد في الوصول إلى إنجاز بنية، سياسية تاريخية اجتماعية متماسكة،
عصيَّة على صنوف الأخطار الوجودية التي تعصف بها. وقد لا تتكشف الإجابة
عن معظم هذه الأسئلة إلا من خلال سعي الإنتلجنسيا والقوى الوطنية إلى
مشروع يبدو أنه سيظل يبتعد ما لم تقدم على وضع مقدساتها فوق طاولة
التشريح وتُعمِل الأدوات المفهومية اللازمة فيها، والتي يمكن أن يشكل
هذا الكتاب وأمثاله من الدراسات المنهجية العميقة جزءًا رئيسيًا منها.
عوامل عديدة فكرية وتاريخية، في مضمونه وفي المرحلة، تجعل كتاب
الجماعات المتخيلة، موضوع العرض، مهمًا للغاية ويمكن النظر إليها من
ثلاث زوايا:
-
الأولى: جرأته اللافتة على الخوض في مسألة على درجة عالية من التعقيد
والاختلاف وأحيانًا التقديس. وقد أشار المؤلف في مقدمته إلى هذا الأمر
وبعض تجلياته عند المفكرين القوميين والماركسيين والليبراليين.
-
الثانية: مقدرة الكاتب على تطبيق منهج متماسك إلى درجة كبيرة، منذ
بداية الكتاب حتى نهايته، ربط من خلاله بين التحليلات الاقتصادية
والتاريخية والاجتماعية والثقافية، بدقة مكنته من تتبع مختلف الفروقات
الجوهرية في نشوء القوميات الحديثة بين منطقة وأخرى.
-
أما الزاوية الثالثة: فهي حاجتنا إلى بحث واستقصاء كافة الأفكار التي
يمكن أن تضيء لشعوبنا سبل عبور هذه المرحلة بأقل الخسائر وبأقصى ما
يمكن من جدوى، ولو اضطر الأمر إلى تجاوز الصيغ القائمة والقديمة من
البنى الاجتماعية والسياسية. ومن هذه الزاوية بالتحديد يمكن القول إن
هذا الكتاب يفتح أبواب التجرُّؤ على الأفكار السائدة ويفككها بشجاعة.
يشكل خطان رئيسيان سداة هذا الكتاب، الأول خط زمني معقد ينظم كل عامل
من العوامل التي يراها المؤلف فاعلة أو مؤسسة في نشوء القوميات، متموج
صعودًا وهبوطًا لا يلبث بعد أن يبدأ مع بداية تطور صناعة الطباعة
بوصفها واحدًا من أبكر أشكال المشروع الرأسمالي نهاية القرن الخامس عشر
وبداية القرن السادس عشر، أن يعود إلى بدايات ولادة اللغات المحلية
ونموها البطيء والراسخ منذ ذلك الانصهار اللغوي الذي أطلق اللغة
الانغليزية الباكرة أواسط القرن الثالث عشر، وصولاً إلى ما بعد الحرب
العالمية الثانية.
أما الخط الثاني فهو خط مكاني أو جغرافي، يلاحق الخصوصيات المختلفة
لأماكن الولادات الأولى للشعور القومي وللجماعات القومية. ومن ثم
التعبيرات السياسية لهذه الجماعات أي الدول/الأمم القومية الحديثة، من
غرب أوروبا إلى وسطها وشرقها ومن شمالي أمريكا إلى جنوبها، وأخيرًا في
جنوب شرق آسيا. مع تعريج على بعض المناطق الأخرى كالمنطقة العربية
وأفريقيا، اتسم بالمرور السريع بسبب عدم دراسة شرطها التاريخي بشكل
مفصل كما يعترف الكاتب بذلك.
ويصنعُ لُحمتَه، المنهجُ الذي اتبعه المؤلف في ملاحقة العوامل المختلفة
وتحليلها ونبشها، وهو مشترك بين المنهج المادي التاريخي أولاً والمنهج
الاجتماعي الثقافي ثانيًا.
عبر رحلة شديدة التكثيف يندر أن تجد فيها جملة قليلة الأهمية أو يمكن
لنزعها ألا يؤثر على السياق العام أو على الحجَّة التي يحاول المؤلف
استكمال التحليل عبرها، وفي خط سير لولبي ومتعرج بين التواريخ والوثائق
والإحصاءات والشواهد الأدبية والفكرية والمراجع السياسية والتاريخية
..إلخ يقسم المؤلف كتابه إلى أحد عشر فصلاً بما فيها المدخل الذي يتضمن
المفاهيم والتعريفات التي يرى الكاتب أن القومية راوغتها وأعيت مفكريها
أو على الأقل اختلفوا حولها، حيث يرى أندرسون رغم أن "كل ثورة ناجحة
منذ الحرب العالمية الثانية فصاعدًا عرفت ذاتها بمصطلحات قومية" إلَّا
أنَّ "..الأمة، والهوية القومية، والقومية أثبتت جميعًا أنها عصية على
التعريف، ناهيك عن التحليل. وبالتعارض مع النفوذ الهائل الذي مارسته
القومية على العالم الحديث، فإن هزال النظريات التي تتناولها لا يزال
واضحًا وجليًا. وها هو الليبرالي هيوسيتون واتسون مؤلف أفضل وأشمل نص
حول القومية في اللغة الإنجليزية ينساق بحزن إلى استنتاج مفاده أن "من
غير الممكن تدبر أي تعريف علمي للأمة مع أن الظاهرة كانت موجودة ولا
تزال".
وفي السياق ذاته يختلف الكاتب مع المؤرخ الماركسي توم نايرن مؤلف كتاب
تفكك بريطانيا الذي لاحظ أن "نظرية القومية تمثل إخفاق الماركسية
التاريخي الكبير". معتبرًا إياه إقرارًا مضللاً وأن من الأدق اعتبار
القومية قد مثلت شذوذًا مزعجًا للماركسية، نظرية الطبقات العالمية. وما
يهدف إليه الكتاب هو تقديم بعض الاقتراحات غير النهائية بغية التوصل
إلى تأويل أكثر إقناعًا لما تمثله القومية من "خروج على القياس".
محاولاً أن يبين أن القومية والهوية القومية والانتماء إلى أمة، هي
نتاجات ثقافية من نوع محدد، وأن خلق هذه النتاجات حوالي نهاية القرن
الثامن عشر كان الخلاصة العفوية التي نجمت عن تقاطع معقد بين قوى
تاريخية متعددة [ص 51] ولكي نفهمها كما ينبغي نحتاج أن نمعن النظر في
كيفية بروزها إلى حيز الوجود التاريخي.
في فصل المفاهيم والتعريفات:
قبل أن يقدم الكاتب تعريفه الخاص للقومية-الأمة يطرح ثلاث متناقضات
ارتبك أمامها منظرو القومية:
1-
حداثتها الموضوعية في عين المؤرخ مقابل قدمها الذاتي في أعين القوميين.
2-
الكونية الشكلية التي تتسم بها الهوية القومية، حيث لا بد لكل فرد في
العالم الحديث أن تكون له هوية قومية، مقابل الخصوصية العضال التي تتسم
بها تجلياتها الملموسة.
3-
القدرة السياسية التي تتمتع بها مقابل فقرها الفلسفي، إلى درجة أن توم
نايرن اعتبر القومية مرض التاريخ التطوري الحديث، حيث لا مفر منها
شأنها شأن العصاب لدى الفرد.
وفي الرد على كل هذا التناقض والتشوش يقدم أندرسون، بروح اعتبرها
أنثروبولوجية، تعريفه للأمة بأنها:
جماعة سياسية متخيَّلة، حيث يشمل التخيل أنها محدَّدة وسيدة أصلاً.
وهو حين يقدم تعريفه هذا يناقش محاولات التعريف التي قام بها منظرون
آخرون شارحًا تعريفه كلمةً كلمة، فهي متخيلة لأن جميع أفرادها يتصورون
تشاركهم رموزَها ومعظمهم لا يعرف بعضهم بعضًا. وهي محدَّدة لأن لجميع
الأمم مهما كبرت حدودها النهائية. وسيِّدة لأنها ولدت في عصر أطاح فيه
التنوير والثورة بشرعية المملكة السلالية التراتبية المفروضة إلهيًا،
لمصلحة الدولة السيدة التي هي رمز الحرية ومقياسها.
ويرى الكاتب أنها جماعة لأنه يتم تصورها كعلاقة رفاقية مهما يكن انعدام
المساواة والاستغلال، مما يخلق أخوَّة في النهاية، مكَّنت ملايين البشر
خلال القرنين الماضيين من أن تَقتُلَ وتموت راضية في سبيل هذه
التخيلات، مع أن التحليل الأخير يشكل مثار اختلاف، حيث أن الملايين قد
لا تقتل وتموت في سبيل الأخوة فقط إنما مرغمة في الغالب، ولأسباب تتعلق
بالصراع الطبقي والاجتماعي، وبالدولة وانقسامها إلى حكام ومحكومين،
وبضرورات البقاء، الأمر الذي يعود الكاتب ليؤكده في فصول لاحقة.
الجذور الثقافية للقومية الحديثة:
هي ما يفرد لها المؤلف الحيز للقراءة في الفصل الثاني من الكتاب،
مبتدئًا بمسألة الموت والخلود وعلاقتها بالرؤى الدينية التي أخذت تدخل
زمن أفول مع تقدم القرن الثامن عشر قرن التنوير والعلمانية العقلانية.
وبزوغ فجر القوميات التي قدمت نمطًا آخر للخلود، عبر طرح ذاتها كأشياء
موغلة في القدم ومنزلقة في الوقت ذاته إلى مستقبل لا حدَّ له. وينوه
الكاتب أنه لا يقصد بذلك أن القومية تبطل الدين بل أنه لا يجب أن تفهم
عبر ربطها بالأيديولوجيات السياسية المتبناة بوعي، بل عبر ربطها
بالمنظومات الثقافية الكبرى التي سبقتها والتي ظهرت إلى الوجود
انطلاقًا منها وضدها في آن معًا. ويتناول الكاتب لغرض بحثه اثنتين من
المنظومات الثقافية هما الجماعة الدينية والمملكة السلالية.
- كانت الجماعات الدينية الضخمة ذات الامتداد الإقليمي الشاسع، كأمَّة
الإسلام والعالم المسيحي والمملكة الوسطى (الأمة الصينية)، تتخيل ذاتها
بقدر كبير عبر وسيط اللغة المقدسة، والنص المقدس المدوَّن، أي أن جماعة
كبيرة خُلقت عبر علامات اللغة، وكانت كل جماعة منها تتصور أنها في مركز
الكون ومرتبطة بنظام قوة فوق أرضي عبر هذا الوسيط المقدس. وعلى الرغم
من كل عظمة الجماعات الكبرى المتخيَّلة دينيًا وقوتها، فإن تماسكها غير
الواعي راح يضعف باطراد بعد أواخر العصور الوسطى، يشدد الكاتب على
اثنين من أسباب تدهورها يتعلقان بقداسة هذه الجماعات: الأوَّل هو أَثَر
عمليات استكشاف العالم غير الأوروبي التي عملت على توسيع الأفق الثقافي
والجغرافي وبالتالي توسيع تصور البشر لأشكال أخرى ممكنة من الحياة.
- والثاني هو تدني شأن اللغة المقدسة ذاتها على نحو تدريجي، فمثلاً كفت
اللاتينية عن أن تكون لغة الإنتلجنسيا الأوروبية الراقية، حيث كتب
شكسبير أعماله باللغة المحلِّية وفولتير كذلك كتب جميع مراسلاته بلغته
المحلية، وهكذا انخفض بشكل كبير عدد الكتب المكتوبة باللاتينية وازداد
عدد تلك المكتوبة باللغات المحلية، وكان ذلك مثالاً لسيرورة أكبر تجلت
عبر تشظي الجماعات التي قام تماسكها على لغات مقدسة قديمة، وتعددها
وتمايزها تدريجيًا إلى جماعات مكانية.
- كذلك يتعارض الحكم المَلَكي السُّلالي من نواح أساسية مع جميع
التصورات الحديثة عن الحياة السياسية. ففي حين تنظم المَلَكيَّة كل شيء
حول مركز رفيع لرقعة جغرافية غير واضحة الحدود، تبسط الدولة الحديثة
سيادتها تامَّة ومتساوية على كامل مساحة إقليم له حدوده القانونية
الدقيقة. وفي حين تستمد الملكيَّة شرعيتها من السماء، تستند الدول
الحديثة إلى شرعية تستمدها من السكان الذين هم مواطنون لا رعايا. هذا
الانتقال من الحق السلالي إلى الشرعية القومية تحقق بشكل انهيار بطيء
مع تتالي الثورات وتقدم التنوير في أوروبا وصولاً إلى نهاية الحرب
العالمية الأولى مترافقًا مع تغير في طرائق إدراك الزمن من زمن إلهي لا
يربط بين بدايته ونهاية العالم "الوشيكة دومًا تبعًا للتصور الديني" أي
تسلسل تاريخي أو سببي، إلى زمن جعلته عوامل التطور مترابطًا يتقدم
بثبات ويمشي معه العالم إلى الأمام. ومن أهم هذه العوامل اثنان، هما
الرواية والصحيفة، ازدهرا في أوروبا القرن الثامن عشر ثم في أمريكا
اللاتينية وفي آسيا، جعلا تخيُّل الأمة أمرًا ممكنًا عبر طرح أحداث
وشخصيات ووقائع متزامنة لجماعة مؤلفة من ملايين البشر. وذلك من خلال
انتاجهما صناعيًا كسلعتين وبأعداد كبيرة تُنتَج إنتاجًا جماهيريًا
ضخمًا.
في هذا الموضع يجمل الكاتب أطروحاته الأساسية بأن إمكانية تخيُّل الأمة
لا تنشأ تاريخيًا إلا حين تفقد ثلاثة تصورات ثقافية جوهرية، بالغة
القدم جميعًا، سطوتها البدهيَّة على عقول البشر:
1-
أوَّلها أن لغة مدونة بعينها مكَّنت أتباعها من النفاذ إلى الحقيقة
الأنطولوجية، وأنها جزء لا يتجزأ من تلك الحقيقة.
2-
والتصور الثاني أن المجتمع منظَّم حول مراكز أرفع من بقية البشر
كالملوك يحكمون من خلال حق إلهي.
3-
أما التصور الثالث فهو تصور الزمن على ذلك النحو الذي لا يمكن التمييز
فيه بين الكوزمولوجيا (الرؤية الكونية الشاملة) وبين التاريخ.
أدى الانهيار البطيء والمتفاوت لهذه اليقينيات في أوروبا ثم في غيرها
بتأثير التغيرات الاقتصادية والاكتشافات العلمية والاجتماعية وتطور
وسائل الاتصال السريعة إلى البحث عن طريقة جديدة للربط على نحو ذي معنى
بين الأخوة والقوة والزمن. وكان لرأسمالية الطباعة القدر الأكبر في
التعجيل بهذا البحث وجعله أكثر خصوبة، مما مكن أعدادًا متنامية من
البشر من التفكير بأنفسهم والارتباط بآخرين بطرق جديدة تمامًا.
أصول الوعي القومي
في حين كانت المعرفة المتأتية من المخطوطات نادرة وغامضة فإن المعرفة
الناجمة عن الطباعة صارت منتشرة ومتزايدة حيث أن مئتي مليون كتاب كانت
قد أنتجت من المطابع حتى عام 1600 الأمر الذي غيَّر وجه العالم وحاله،
سيما أن صناعة النشر كانت واحدًا من أبكر أشكال المشروع الرأسمالي
شاركته كل ما اختبره من خلق وبحث دؤوبين عن السوق، كان من أبرز
تجلياتهما الاندفاع الثوري الذي أبدته الرأسمالية في التحول إلى اللغات
المحلية. بعد أن أُشبِعت السوق الصغيرة المكوَّنة من النخبة، قارئة
اللاتينية إلى جانب لغتها المحلية.
اندفاع الرأسمالية هذا استمد زخمًا من عوامل خارجية أخرى أسهمت في نشوء
الوعي القومي، أوَّلها ابتعاد اللاتينية بنصوصها المدوَّنة الغامضة عن
الكنيسة والحياة اليومية، واقترابها من انتلجنسيا ضيقة ذات ذائقة
نخبوية (أرضية) وجدت الغموض في اللغة ذاتها، ما أفسح المجال لانتشار
أوسع للغات المحلية.
والعامل الثاني تأثير الإصلاح الذي يدين بدوره، إلى رأسمالية الطباعة
بكثير من النجاحات، فقبل عصر الطباعة كان من اليسير على روما أن تكسب
كل حرب تخوضها ضد الهرطقة في أوروبا، أما حين علَّق مارتن لوثر
أطروحاته على باب الكنيسة في ويتنبرغ عام 1517 وطبعت بترجمة ألمانية
وانتشرت في كل أنحاء البلاد في غضون خمسة عشر يومًا،.. وبعيدها مئات
الطبعات من الكتاب المقدس، صار اسمه في معركة كسب العقول مدعاة ليتبعه
الكثيرون، واتخذت البروتستانتية موقع الهجوم الدائم مستفيدة من توسع
سوق الطباعة الذي خلقته الرأسمالية.
أما العامل الثالث فكان انتشار لغات محلية محدَّدة بشكل بطيء كأدوات
للمركزة الإدارية استخدمها بعض الملوك. وسَبَقت ولادة هذه اللغات
المحلية كلاً من الطباعة والانقلاب الديني في القرن السادس عشر، مما
جعلها عاملاً مستقلاً في البداية في تفتيت الجماعة المتخيَّلة
المقدَّسة، دون وجود ما يشير إلى أية دوافع أيديولوجية أو قومية
بدئيَّة وراء هذا التحول إلى اللغات المحلية. وهذا كان ما وقع في
إنكلترا ثم فرنسا وألمانيا وغيرها.
وبذلك كان ما جعل الجماعات الجديدة قابلة للتخيل مجموعتان من العوامل،
سلبية تمثلت في قصر اللاتينية على فئة قليلة إلى جانب الإصلاح الديني
والتطور العشوائي للغات محلية إدارية، وإيجابية عبر عنها تفاعل يكاد
يكون عارضًا غير أنه انفجاري بين منظومة علاقات إنتاجية رأسمالية،
وتكنولوجيا اتصال (الطباعة) وقَدَرٍ متمثل بالتعدد اللغوي البشري.
وما عملته الرأسمالية من خلال الطباعة أنها وحَّدت عدة مجموعات من
اللغات المحلية المنطوقة (الانكليزيات، الفرنسيات، الاسبانيات،
الألمانيات... إلخ) ضمن حدود معينة وحولتها إلى لغات طباعية قابلة
للاستنساخ الآلي وقادرة على الانتشار في السوق مُرسيَةً ضروب الوعي
القومي عبر ثلاث طرق مميَّزة:
-
أولاً إدراك مجموعات ضخمة من البشر إمكانيتها على التفاهم عبر الطباعة
والورق بلغة واحدة ينتمون إليها كإخوة وزملاء قراءة، شكل هؤلاء
المرتبطون ببعضهم من خلال الطباعة بخفائهم، المرئي، المحدَّد،
العلماني، جنين الجماعة القومية المثخيَّلة.
-
ثانيًا أضفت رأسمالية الطباعة على اللغة ثباتًا جديدًا، أسهم على المدى
الطويل في بناء صورة القِدَم التي تحتل مكانة مركزية في فكرة الأمة عن
ذاتها.
-
وثالثًا خلقت رأسمالية الطباعة لغات سلطة مختلفة عن اللغات المحلية
الإدارية القديمة وقامت بتنحيتها والارتقاء إلى مصاف جديدة من السمو
السياسي-الثقافي.
وفي الوقت الذي تمتلك فيه أمم اليوم الحديثة - والدول الأمم - لغات
طباعية قومية فإن كثيرًا منها يتقاسم هذه اللغات كمجموعة الدول الأمم
في أمريكا التي تتحدث لغة واحدة هي الاسبانية، أو تلك التي تنتمي إلى
اللغات الأنغلوساكسونية، ومنها تلك التي لا تستخدم لغتها القومية في
الحديث أو على الورق سوى نسبة ضئيلة من السكان، مثل الكثير من الدول
المستعمرة سابقًا خاصة في أفريقيا. أي أن تشكل الدول الأمم المعاصرة لا
يتطابق بالضرورة مع المدى الذي تبلغه لغات طباعية معينة. الأمر الذي
استدعى من المؤلف بحثًا مقارنًا للنماذج المختلفة من الكيانات السياسية
الجديدة التي بزغت في غير مكان من العالم والتي راحت تشير إلى ذاتها
بوعي على أنها أمم، ملتفتًا بداية إلى تلك المجموعة التي ظهرت في
الأمريكتين بين 1776 و1838، لما اتسمت به من أهمية وتميُّز أفرد لهما
الفصل الرابع من الكتاب بعنوان:
روَّاد كريوليُّون
الكريوليُّون هم الأشخاص ذوو الأصول الأوروبية النقية المولودون في
المستعمرات الأميركية، التي غدت دولاً اشتملت على عاملين خاصَّين،
الأول أن من شكَّلها وقادها أناس لم تكن اللغة العنصر الذي فرق بينهم
وبين المتروبولات الامبريالية التي استعمرتهم، بل شاركوا من قارعوهم
لغة ومحتدًا مشتركًا. والثاني أن "الطبقات الوسطى التي شكلت في أوروبا
رافعة للحركات القومية، حاولت مع القيادة الفكرية استنهاض ما لدى
الطبقات الشعبية من طاقات وتوجيهها نحو مساندة الدول الجديدة" [ص 82].
هذه الطبقات الوسطى كانت بلا أهمية في أمريكا الجنوبية والوسطى ولم يكن
هناك ذلك القدر الكبير من الانتلجنسيا في أواخر القرن الثامن عشر. بل
كان أحد العوامل الأساسية التي حفزت في البدء دافع الاستقلال عن مدريد،
في حالات هامة مثل فنزويلا والمكسيك والبيرو ذلك الخوف من تعبئة
الطبقات الدنيا، أي الهنود أو العبيد أو الزنوج، وتحركها السياسي.
ثم حدثت تحولات اجتماعية داخل حركة الاستقلال القومية عن المتروبول
وغيَّر قادتها آراءهم "بدَّل بوليفار رأيه في العبيد مثلاً من اعتبار
تمرُّدهم أسوأ من غزو تقوم به اسبانيا إلى المطالبة بإصدار قوانين
لتحريرهم" وبقي التساؤل، الأحجية، قائمًا: لماذا طورت الجماعات
الكريولية تصورات عن انتمائها إلى أمة على هذا النحو الباكر جدًّا، قبل
معظم أوروبا بوقت طويل؟
يرى الكاتب أن العاملين الرئيسيين اللذان شاع ورودهما كسببين لهذا
التطور أي اشتداد عدوانية مدريد تجاه المستعمرات وانتشار الأفكار
التحررية ووصولها عبر الأطلسي إلى الأمريكتين، لا يكفيان وحدهما لتفسير
مقاومة ما اعتبر استعمارًا ولا ما جعل كيانات مثل تشيلي وفنزويلا
والمكسيك تبدو مقبولة وجدانيًا وقابلة للحياة السياسية.
تكمن بداية الإجابة برأي أندرسون في الواقعة اللافتة التي مفادها أن كل
جمهورية من الجمهوريات الأميركية الجنوبية كانت وحدة إدارية محددة
جغرافيًا لأسباب متعددة منذ القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر.
وبعد شرح مشوق لحجيج الموظفين ضمن هذه الوحدات الإدارية ودور ذلك في
ترسيخ خصوصية العلاقة المشتركة ضمن تلك الوحدات، وللدور المشابه لصناعة
الطباعة وللصحيفة، يصل الكاتب إلى فكرة ملفتة مفادها أن العداء بين
المركز الميتروبولي وبين الكريول مهما اشتد ما كان له أن يصل إلى حدود
الإبادة لسببين رئيسيين الأول أن الطبقة المالكة في المستعمرات كانت
تعرف جميع أساليب آبائها السياسية والثقافية والعسكرية اللازمة
للسيطرة، والثاني النسب المشترك الذي كان يقف حائلاً دون الوصول في
العداء مهما بلغ إلى مستوى ما فعله المستعمرون بالشعوب الأصلية من
إبادة واستعباد.
ولا يلبث الكاتب أن يعود في الفصل التالي لمناقشة وتأكيد دور اللغات
الطباعية في نشوء القوميات وتَشكُّل الأمة التي باتت تحتذى من خلال
عمليات قرصنة النموذج عبر العالم الذي أدت الاكتشافات العلمية
والجغرافية إلى إظهاره وبيان تطوره الحضاري وتعدده الإنساني المستقل عن
التاريخ الأوروبي، ما جعل من الممكن النظر إلى أوروبا على أنها مجرد
حضارة بين الكثير من الحضارات. وترافقت هذه الاكتشافات الثورية مع تطور
دراسة اللغات على أسس علميَّة حيث اعتبر هوبسباوم أنها "أول علم يعتبر
التطور جوهره ولبَّه" حتى صار القرن التاسع عشر كما عبر عنه
سيتون-واطسون، عصرًا ذهبيًا لواضعي معاجم اللغات المحلية التي كان لها
دور أساسي في تشكيل القوميات الأوروبية وتقدمها بجهود أولئك المؤلفين
الكادحين ومريديهم من طلاب المدارس والجامعات الذين صح عنهم قول
هوبسباوم "إن تقدم القوميات يقاس بتقدم المدارس والجامعات التي غدت
أوعى نصير لتلك القوميات." إذ تتابعت إنجازات الثورة المعجمية منذ عام
1770 حتى عام 1830 ممهدة الطريق في أوروبا ثم ما حولها في افريقيا
وآسيا لانتشار القوميات المختلفة، بما فيها القومية العربية التي كان
من أكبر المساهمين في انتشارها عبر اللغة الفصحى باحثون موارنة وأقباط
انطلاقًا من الجامعة الأميركية وجامعة القديس يوسف في بيروت.
إن زيادة التعليم الذي ساهمت فيه اللغات الطباعية إلى حد كبير، جعلت
إثارة الدعم الشعبي أسهل في كل مكان، حيث اكتشفت الجماهير مجدًا جديدًا
فيما حققته الطباعة من سموٍّ لتلك اللغات التي لطالما كانوا ينطقون بها
باتضاع ومذلَّة. فسارعت إلى تلبية الدعوة القومية التي أطلقتها
الإنتلجنسيا لينتشر الصدى أو تقرصن التجربة في غير مكان باعتبارها
نموذجًا يتعذر تجاوزه.
القومية الرسمية والامبريالية
يقف الكاتب في الفصل السادس عند ما أسماه القومية الرسمية، التي نشأت
من تحول الملكيات السلالية في روسيا وانجلترا وألمانيا وهنغاريا وغيرها
من انحاء أوروبا، إلى الاندماج بالهوية القومية الصاعدة للأمة لا
لأسباب أيديولوجية بل بقصد توحيد ممالكهم أوَّلاً ولمسايرة الهوية
القومية بوصفها ذلك التيار الصاعد والمغري والذي قد يكون جارفًا لمن
يتعالى عليه أو يقف في وجهه، ومعينًا لمن يركبه بغية الحفاظ على سيطرته
وتوسيعها لتشمل كافة أرجاء حكمه كما فعل الميجيون في اليابان، في
مقاومتهم للمد الامبريالي للقوميات الأوروبية، ثم مشاركته أسلوب التوسع
ومحاولات الانتشار.
والمفتاح في تحديد موقع القومية الرسمية هو أن نتذكر أنها ظهرت بعد
تكاثر الحركات القومية (اللغوية) الشعبية في أوروبا منذ عشرينات القرن
التاسع عشر وكردة فعل عليها وأنها كانت مستحيلة الظهور لولاها. وإذا ما
كانت هذه القوميات قد صيغت على نموذج التاريخين الأمريكي والفرنسي، فقد
غدت قوالب قياسية ونمطية بدورها.
الموجة الأخيرة
وصلت الحرب العالمية الأولى بعصر الملكية السلالية إلى نهايته، ومع
مجيء عصبة الأمم باتت الدولة الأمَّة هي المعيار الدولي الشرعي، حتى أن
القوى الإمبراطورية الباقية ذاتها أتت إلى عصبة الأمم مرتدية الزي
القومي وليس البزة الإمبراطورية، وبعد كارثة الحرب العالمية الثانية
بلغ مد الدولة الأمَّة أوجَهُ.
ولدى النظر في أصول "القومية الكولونيالية" الحديثة، نرى تشابهًا
أساسيًا مع القوميات الكولونيالية التي تعود إلى مراحل أسبق: ألا وهو
التناظر بين الامتداد الإقليمي لكل قومية وامتداد الوحدة الإدارية
الإمبراطورية السابقة. وثمة إقرار عام بمركزية الدور الذي لعبته
الانتلجنسيا في نشوء القومية في المناطق الكولونيالية، وإقرار مماثل
بأن ذلك الدور الذي لعبته الانتلجنسيا مستمد من تعلمهم ثنائي اللغة
أومن تعلمهم وثنائية لغتهم.
كان التعلم وقراءة المطبوعات قد مكنا من قيام الجماعة المتخيلة السابحة
في زمن فارغ متجانس، أما ثنائية اللغة فقد عنت توفير منفذ عبر لغة
الدولة الأوروبية إلى الثقافة الغربية الحديثة، بمعناها الواسع، وخاصة
إلى نماذج القومية، والانتماء إلى أمة، والدولة الأمة المنتجة في غير
مكان في مجرى القرن التاسع عشر.
وهناك سمة اتصفت بها الانتلجنسيا القومية البازغة في المستعمرات،
ميَّزتها عن نظيراتها القومية نصيرة اللغات المحلية في أوروبا، أنها
كانت مؤلفة من فتية يافعين على نحو يكاد أن يشكل صفة ثابتة. وتشير
الفتوة والشباب إلى الدينامية والتقدم والمثالية القائمة على التضحية،
والإرادة الثورية، بشكل عام أما في المستعمرات فكانت تعني الجيل الأول
الذي تلقى تعليمًا أوروبيًا فصله لغويًا وثقافيًا عن جيل آبائه، وهكذا
ظهرت الجمعيات القومية التي ارتبط اسمها بتعبير "الفتاة" كجمعية
إيرلندا الفتاة والجمعية العربية الفتاة.
كما يلتفت المؤلف إلى خطأٍ طبع طريقة بعض الإيديولوجيين القوميين في
تعاملهم مع اللغات بوصفها رموزًا للانتماء القومي مثل الرايات والأزياء
والرقصات الشعبية، في حين أن الأهم بكثير بشأن اللغة هو قدرتها على
توليد جماعات متخيَّلة وعلى بناء ضروب معينة من التضامن. فاللغة ليست
أداة إقصاء إنما هي أداة إدناء وجمع، ومن حيث المبدأ يمكن لأي كان أن
يتعلم أية لغة كانت، واللغة الطباعية هي من يبتدع القومية وليست لغة
محددة بحد ذاتها من يفعل ذلك.
يرى الكاتب أن لقوميات القرن العشرين طابع قياسي نمطي، فهي تستند إلى
قرن ونصف من التجربة الإنسانية القومية وإلى ثلاثة نماذج سابقة لها هي:
استخدام الأنظمة التعليمية المدنية والعسكرية على غرار أنظمة القومية
الرسمية، والانتخابات والتنظيمات الحزبية والاحتفالات على غرار
القوميات الشعبية في أوروبا القرن التاسع عشر، وفكرة جمهورية المواطنين
التي جاءت بها البلدان الأميركية إلى العالم.
ويرى أن قوميات الموجة الأخيرة ومعظمها في آسيا وأفريقيا الكولونيالية،
كانت ردًا على الامبريالية العالمية جعلته منجزات الرأسمالية الصناعية
ممكنًا، كما يقول ماركس "إن حاجة البرجوازية إلى سوق لمنتجاتها متوسعة
باطِّراد تطارد هذه البرجوازية في جميع أرجاء الأرض".
الوطنية والعنصرية
صارت الأمة تبعًا للسيرورات السابقة محل تخيل ثم محل اقتداء وتحويل
وتحوير مترافقًا مع تغيرات اجتماعية وأشكال وعي مختلفة، يجعلها الكاتب
مدار تساؤلات الفصل الثامن عما إذا كانت هذه التغيرات في المجتمع
والوعي كافية لتفسير الرابط الذي يشعر به البشر حيال مخترعات خيالهم أو
ما يدفعهم ليكونوا مستعدين للموت من أجلها.
ويستغرب ادعاءات من يسميهم المثقفين التقدميين، الكوسموبوليتانيين [ص
143] الذين يرون في القومية سمات مَرَضيَّة، تعود إلى جذورها الضاربة
في الخوف من الآخر وكراهيته، وإلى أشكال إلفتها مع العنصرية.
وقد تكون بعض تساؤلات الكاتب هنا بحاجة إلى المزيد من التحليل تمت
الإشارة إليها سابقًا كالاستعداد للموت والتضحية وما يصفه بالحب الذي
تلهمه الأمم والمنطوي على التضحية بالنفس، إذ يجب قراءة الجوانب الأخرى
للتضحية بما هي علاقة عنفية بين أطراف متعددة. حيث لا تغني الشهادات
الأدبية التي اعتمدها الكاتب للدلالة على الحب القومي رغم أهميتها عن
شهادات أخرى تلقي الضوء على الصراعات القومية العديدة عبر العالم
(روايات الحرب الوطنية االسوفييتية، وروايات القوميات المختلفة التي
قاومت الاحتلال العثماني، رواية الحرية والموت لكازانتزاكي مثلاً...
وغيرها).
مع الانتباه إلى أهمية الطرائق التي لفت الانتباه إليها والمتضمنة بعض
أسرار طبيعة الحب السياسي، التي تصف بها اللغة موضوعاتها باستخدام
مفردات القرابة (الوطن-الأم) أو باستخدام المفردات المتعلقة بالموطن،
كالأرض والماء، هذه المفردات التي تشير إلى أشياء يرتبط بها الإنسان
ذلك الارتباط الطبيعي.
كذلك لا يلبث المؤلف أن يعود إلى منهجه المادي التاريخي، حين يرى
العنصرية نتاجًا طبقيًا، شأنها شأن ادعاءات الألوهة بين الحكام،
وادعاءات النسل والدم بين الأرستقراطيات. ويرى أن أصل الأحلام العنصرية
هو في أيديولوجيات الطبقة وليس في أيديولوجيات الأمة.
ملاك التاريخ
يحاول الكاتب في هذا الفصل استنتاج العلاقات التي نجمت عن تتالي
الظهورات القومية في التاريخ الحديث مبتدئًا بنظرة توم نايرن في كتابه
تفكك بريطانيا حول العلاقة بين المنظومة السياسية البريطانية،
ومنظومات بقية العالم الحديث، القائلة: "وحدها المنظومة البريطانية
بخلاف سواها من المنظومات مثَّلت ذلك النمو التقليدي البطيء الذي كان
نتاج اختراع مدروس ناتج عن نظرية، أمَّا تلك المنظومات الأخرى التي
جاءت لاحقًا، فقد حاولت أن تستخلص بضربة واحدة تلك الثمار التي أسفرت
عنها تجربة دولة طوَّرت مؤسساتها على مدى قرون عدة."
لكن التكرار الفعلي أو المحاكاة الفعلية نادرًا ما يكونان ممكنين سواء
سياسيًا أم اقتصاديًا أم اجتماعيًا... لأن العالم يكون قد تغيَّر أصلاً
ذلك التغير الكبير عما كانت عليه العلَّة الأولى التي تُنسَخ. وهو ما
تم تسميته لاحقًا "التطور المشترك اللامتكافئ".
ويمكن بقدر ما من الإزاحة النظر إلى الثورات التي تلت الثورة الفرنسية
التي لم يقم بها، كما رأى هوبسباوم، حزب منظَّم أو حركة منظَّمة
بالمعنى الحديث، غير أنها وبفضل رأسمالية الطباعة باتت نموذجًا يحتذى
ويُتَعَّلَمُ منه بأشكال مختلفة، وهذا ما كان الحال مع الثورة البلشفية
التي خطط لها الثوار الروس وصنعوها لتكون أول ثورة ناجحة تقوم، يقودها
حلم تجاوز الرأسمالية في بلد لم يكد يدخل عهد الرأسمالية الصناعية،
وغدت بدورها نموذجًا لثورات القرن العشرين اللاحقة التي قرصنت براءة
الاختراع الماركسية، وقامت في مجتمعات أكثر تخلفًا من روسيا مثل الصين
وكوبا وغيرهما.
كذلك وعلى نحو مشابه لمسيرة الثورات، خضعت القومية منذ نهاية القرن
الثامن عشر لسيرورة تعديل وتكييف، تبعًا لاختلاف المناطق والأنظمة
السياسية والاقتصاديات والبنى الاجتماعية. وتمثَّلت النتيجة بانتشار
"الجماعة المتخيَّلة" إلى كل مجتمع معاصر يمكن تصوُّره.
ومن المهم هنا الإشارة إلى الملاحظة اللافتة التي يوردها المؤلف،
(والتي قد تفيد أولئك الميَّالين إلى تقديس التجارب)، حول الدفاع
الفيتنامي الفخور عن اسم "فيت نام" الذي اخترعه الملك المانشو الصيني
في القرن التاسع عشر وقصد به الازدراء، الذي يُذكِّر بقول رينان "لا بد
أن تكون الأمم قد نسيت أشياء كثيرة"، ويذكِّرنا أيضًا بما تتميز به
القومية من قوة خيال.
ويلفت الكاتب عقب تحليله للحروب التي قامت بين الدول "الاشتراكية"
الصين، كمبوديا، فيتنام، إلى ضرورة التخلي عما يسميه "الخرافة التي
تقول إن الماركسيين كماركسيين ليسوا قوميين" أو إن القومية مرض من
أمراض التطور التاريخي الحديث، والذهاب إلى التعلم من تجربة الماضي
الواقعية والمتخيلة، في المسير الذي تدفع به عاصفة التاريخ المجتمعات
نحو المستقبل رغم مثول ماضيها التاريخي خلفها.
التعداد الخارطة المتحف
يدرس الكاتب في الفصل العاشر سياسات الدول الكولونيالية في مستعمراتها
حيث كانت تلك الدول في العادة مناهضة للقومية وغالبًا ما كانت تلك
المناهضة عنيفة، غير أنه حين ينظر المرء تحت الإيديولوجيات والسياسات
الكولونيالية إلى القواعد التي كانت تستخدمها، منذ أواسط القرن التاسع
عشر، فسيجد بلا شك أن خط النسب بين العوالم المستعمَرة في آسيا
وإفريقيا وبين الدول المستعمِرة، يتضح مزيدًا من الوضوح من خلال قواعد
استخدمتها ثلاث من مؤسسات السلطة هي التعداد، والخارطة، والمتحف. صاغت
الدول الكولونيالية من خلالها مجال نفوذها وسلطاتها بشريًا وجغرافيًا.
التعداد الذي حدد الجماعة البشرية الموجودة في المستعمرة، إثنيًا
ودينيًا وقبليًا، وبنيتها الطبقية والقوة البشرية اللازمة للتجنيد
والعمل اقتصاديًا وعسكريًا.. إلخ وصهرها في جماعة متخيلة ضمن حيز حددته
الخارطة التي باتت ضرورية لآليات الإدارة الجديدة للجيوش كي تؤكد ما
تدعيه من حقوق.
ولأن الخارطة-اللوغو يمكن تمييزها على الفور وتُرى في كل مكان، فقد
اخترقت عميقًا الخيال الشعبي وباتت رمزًا قويا للقومية الوليدة
المناهضة للكولونيالية، شأنها شأن المتحف الذي ولد على أيدي الدول
المستعمِرة كدليل على عمق علاقتها بجميع ما يخص مستعمراتها مهما أوغل
في القدم، ليكمل وظيفته في الدولة المستقلة بوصفه علامة من علامات
الهوية القومية.
هكذا تحول طموح الدولة الكولونيالية، أن تخلق تحت سيطرتها منظرًا
بشريًا واضحًا تمامًا وبشكل ناجح بتأثير تكنولوجيات الإبحار، والفلك،
وقياس الزمن، والمراقبة والتصوير والطباعة، وذلك الدور الكبير للقوة
الدافعة العميقة التي هي قوة الرأسمالية، إلى قيام بنى متخيلة جديدة هي
الدولة القومية.
الذاكرة والنسيان
في الفصل الأخير من الكتاب يعرج المؤلف على ثلاث سمات للبزوغات القومية
تربطها بأسلافها هي: المكان والزمان والأخوَّة.
المكان حديثًا وقديمًا
لقد بدأ الأوروبيون منذ القرن السادس عشر تلك العادة الغريبة المتمثلة
بتسمية الأماكن النائية، في الأمريكتين وإفريقيا أولاً، ثم في آسيا
وأستراليا وأوقيانيا، على نحو يشير إلى أنها طبعات جديدة من أسماء
أماكن قديمة لاتزال قائمة في بلدانهم الأصلية، نيو أورليانز، نيو يورك،
نيو زيلاند... لتتزامن معًا.
إذ إضافة إلى الأعداد الضخمة من المهاجرين إلى الأمريكتين التي ملأت
البلاد الجديدة، قام عاملان آخران على ضمان الحفاظ على تماسك المجتمع
الجديد الثقافي وصعوده السياسي المحلي، هما التفوق العسكري والاقتصادي
والتكنولوجي الكاسح في مواجهة السكان الأصليين، وامتلاك المتروبول
الإمبراطوري أجهزة بيروقراطية وإيديولوجية هائلة، أتاحت لهم طوال قرون
أن يفرضوا سيطرتهم على الكريول.
الأمر المهم الذي يستنتجه أندرسون هنا هو أن هذه الشروط الثلاثة مجتمعة
كانت من الجِدَّة والفاعلية لتفسر بزوغ القومية في العالم الجديد
أوَّلاً، الأمر الذي لم يحدث في العالم القديم، حيث الهجرات (العربية
والصينية مثلاً، المعاصرة لتلك الأوروبية) التي لم يخطط لها متروبول
فعلي، ونادرًا ما ارتبطت بعلاقات خضوع مستقرة، لم تؤدِّ إلى إقامة
جماعات متماسكة تعي ذاتها، ولم يشهد العالم نشوء بصرة جديدة أو مسقط
جديدة.
الزمن قديمًا وحديثًا
من الصعب أن نعيد في الخيال اليوم خلق ذلك الشرط الحياتي الذي كان
يُشعَر فيه أن الأمة شيء جديد تمامًا كما كان الأمر في تلك الحقبة التي
أعلن فيها الاستقلال الأمريكي عام 1776 والذي لم يُشِر مطلقًا إلى
كريستوف كولومبوس، أو الآباء الحجاج، كأن إنجاز القطيعة الجذرية مع
الماضي بات أمرًا محسومًا واسمًا تلك الحقبة، مُكرَّسًا بانفجار الثورة
الفرنسية في العالم القديم بعيد ذلك بثلاثة عشر عامًا في العام 1789.
هذا التزامن الكوني عبر المحيطات لم يعد أمرًا مفهومًا فحسب، من خلال
التصنيع وتلاحق الصحف بأعدادها المتسلسلة وانتشار الرواية بما تملكه من
إمكانيات بارزة في تمثيل أفعال متزامنة، بل بات يقتضي نظرة دنيوية
متسلسلة إلى السببية الاجتماعية، جعلت من التاريخ فرعًا رسميًا في
الجامعات الكبرى كجامعة برلين والسوربون، وصارت القطيعتان الثوريتان
لعامي 1776 و1789 تُصوَّران على أنهما سابقتان تاريخيتان أو نموذجان
تاريخيان.
وبما أنهما كذلك صار لزامًا الحديث عن الموتى السابقين لفتح الطريق
أمام الأصالة تلك الصفة المهمة والضرورية لأي قومية، الأمر الذي فعله
نابشو الأمجاد القديمة للأمة وبُناتها، قوميّو الجيل الثاني في البلدان
الأمريكية وسواها.
وهو ما عبَّر عنه رينان في عمله ما الأمة بقوله: "والحال أن
جوهر الأمَّة يتمثل في امتلاك جميع الأفراد أشياء مشتركة وفي أن لديهم
أشياء ينسونها..".
أما ما هو مطلوب نسيانه فهو تلك الأحداث القاسية من صراعات ومجازر،
التي بات نسيانها ضروريًا باعتبارها مآسٍ يجب على الدوام تذكُّر (كذا)
أنها وقعت بين إخوة، أبناء أمة واحدة.
ومن الضروري الانتباه أن هناك صناعة تعليمية هائلة في الغرب تعمل دون
توقف على تحقيق هذه المهمة عند الشباب خصوصًا (وذلك باختلاف مذهل عما
تقوم به آلة صناعة العداء "الدينية والطائفية والعرقية" بين الإخوة في
المشرق وفي افريقيا).
وما تُبيِّنه بوضوح تخيُّلات الأخوَّة التي شهدها القرن التاسع عشر
والتي بزغت في مجتمع مزقته العداوات العرقية والطبقية والمناطقية، هو
أن القومية كانت تمثل شكلاً جديدًا من الوعي الذي نشأ حين لم يعد
ممكنًا عيش الأمة أو اختبارها على أنها جديدة في لحظة الذروة من التمزق
والقطيعة إلا عَبْرَهُ.
سيرة الأمم
في الفقرة الأخيرة من الفصل الأخير يفسِّر الكاتب تلك السيرة المعكوسة
لرواية الأمة حيث ما من تغيُّر عميق في الوعي إلا ويجلب معه بحكم
طبيعته ذاتها، ضروبًا مميزة من النسيان، تنبع منها في ظروف تاريخية
معينة روايات وسرديات. وكما هو الحال مع الأشخاص المحدثين كذلك هو
الحال مع الأمم، فإدراك الانغماس في زمن علماني متسلسل، مع كل ما ينطوي
عليه ذلك من تواصل واستمرار وكذلك من نسيان لتجربة الاستمرار هذه تولد
الحاجة إلى سرد الهويَّة.. غير أن هناك فارقًا أساسيًا في رسم الحبكة
بين سرد الشخص وسرد الأمَّة. ففي قصة الشخص العلمانية ثمة بداية
ونهاية، أما الأمم فليس لها تلك الولادات التي يمكن تحديدها بصورة
واضحة، وميتاتها، إن كانت تحدث على الإطلاق، ليست طبيعية قط.
ولأنه ما من مُنشئٍ فإن سيرة الأمة لا يمكن كتابتها على النحو الإنجيلي
"نزولاً في الزمن" عبر سلسلة توالدية طويلة، والبديل الوحيد هو صياغتها
"صعودًا في الزمن" باتجاه إنسان بكين، وانسان جاوة والملك آرثر. غير أن
هذه الصياغة موسومة بميتات تبدأ في عكس مثير للجينالوجيا، أو الأنساب
التقليدية من حاضرٍ هو الأصل والمنشأ، هكذا تنجب القوميات الحديثة
سيرتها.
في النهاية يتقدم إلى واجهة المسرح السؤال التالي: إلى أي شيء ينتمي
أبناء حيِّز أو بنية ما، مُسَمَّاةٍ ومُحدَّدَةٍ، حين يتصارعون بأقصى
ما يمكن من عنف وشراسة وتدمير؟؟ وألا تجب إعادة النظر في ادعاءات
انتمائهم، والسعي لخلق انتماء جديد يستطيع متخيِّلوه ممارسة صراعاتهم
الحتميَّة بأشكال بنائيَّة بدلاً من أن تكون تدميريَّة؟
عنوان الكتاب:
الجماعات المتخيلة – تأملات في أصل القومية وانتشارها
تأليف: بندكت أندرسون
ترجمة: ثائر ديب
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
*** *** ***