أسعد عرابي
التعبيري المسبوق بجمال متشنج
فاروق يوسف
تلتقيه رسامًا غير أن تلتقيه ناقدًا. ارتباك الرسام وقلقه لا يذكران
بثقة الناقد وقوة حيلته. في الحالين فإن أسعد عرابي يبدو متوترًا
ومشدودًا ومنضبطًا ودقيقًا في حركته كما في كلماته. وهو ما تعلَّمه من
الدرس الأكاديمي يوم درس الفلسفة.
من بردى إلى مدينة
الزجاج
رسام على قدر كبير من الغنائية الحزينة. وناقد يبحث في الأصول
الكلاسيكية عن أسرار الجمال الحي. لغته التعبيرية في الرسم تكشف عن
جرأة وحرية استثنائيتين في تناول الموضوعات الاجتماعية والسياسية
بالرغم من أنه يحن بين حين وآخر إلى التجريد الذي يضفي على نزعته
التعبيرية طابعًا تأمليًا هو أقرب إلى شطحات المتصوفة التي لم تقف بينه
وبين الالتفات إلى ما هو عابر ويومي وزائل من وقائع.
لوحاته مرويات دمشقية تمزج قوة الصورة بما يرافقها من همس عاشق.
هناك بلاد تتشكل على سطوح لوحاته كما في ذاكرته هي ما تبقَّى من حياة
عاشها على عجل قبل أن ينفتح على العالم بثقافته الشاسعة لينظر من شباك
شقته في ديفانس (الضاحية الباريسية) إلى العالم باعتباره مدينة من
زجاج.
ما أن يلقي المرء نظرة إلى لوحاته حتى يتأكد أنه ورث من المحترف الفني
السوري ما لم يرثه إلا القلة ممن تربوا في أحضان ذلك المحترف. صلابة في
البناء التصويري وشاعرية في التعبير الحر.
ما لم يختره أسعد عرابي أن يكون سوريًا بالرغم من أصوله اللبنانية. "ما
الفرق؟" سيتساءل البعض. الفرق يظهر حين يكون المرء فنانًا. أما أن يكون
ذلك المرء أسعد عرابي فإن شبهة التخلي ستلاحقه. فالمحترف الفني
اللبناني لا يمتُّ بصلة إلى المحترف السوري. هما محترفان مختلفا المزاج
والأفكار والرؤى والأساليب.
كان عرابي مخلصًا لما تعلَّمه في دمشق. لا على مستوى التقنية بل وأيضًا
على مستوى النظر إلى الحياة. تراه اليوم دمشقيًا أكثر من أيِّ زمن مضى،
بالرغم من تلك الأربعين سنة الباريسية التي تفصله عن دمشق.
الفنان الذي هو
آخر دائمًا
"كما يهرب الناس من وحدتهم، فقد قُدر لي أن أهرب من المكان الذي أتعلق
به. هذا هو شأني مع مدن الوجدان، دمشق وصيدا" يقول أسعد عرابي الذي ولد
في دمشق عام 1941 في عائلة لبنانية.
بالنسبة إليه ليس هناك شيء مؤكد، حتى سنة ولادته. غير أن ذكريات طفولته
الدمشقية تعود إلى ما قبل عام
1948
حين عاش في كنف عائلة أمه التي تنتسب إلى (البهلول)
الأخ الزاهد والمتصوف للخليفة العباسي هارون الرشيد.
في سن الخامسة عشرة اكتشف الرسم الذي سلَّمه إلى عالم لا يزال يتوارى
بمقتنياته خلف حجب من ضباب. عام 1966 أنهى دراسة الرسم في جامعة دمشق،
ليتوزع وقته بين التدريس في الجامعة نفسها والتنقل بين صيدا وبيروت،
حيث أتيحت له فرصة العرض في "غاليري وان" والقرب من الشاعر يوسف الخال.
عام 1976 سيشد الرحال إلى باريس في بعثة لإكمال دراسته الفنية. ومنذ
ذلك الحين وهو يقيم هناك. بالرغم من حصوله على شهادة الدكتوراه في علم
الجمال وفلسفة الفن فإنه عمل قليلاً في التدريس الجامعي وأحيانًا كان
يتعاون مع مؤسسات نشر ولا يزال ينشر مقالاً أسبوعيًا عن الفن، غير أنه
في المقابل رسم كثيرًا. بل يمكنني اعتباره واحدًا من أكثر الرسامين
العرب غزارة في الإنتاج وتنوعًا في الأساليب. لقد فضَّل عرابي أن يتفرغ
للفن، بالرغم من صعوبة ذلك الخيار على المستوى المادي.
حرص الفنان بحكم دربته في الكتابة وتمكُّنه من الدرس الفلسفي على توثيق
خبرته في الفن من خلال كتاباته، إن في الصحف أو في مؤلفاته التي يقف
كتابه وجوه الحداثة في اللوحة العربية الذي صدر في الشارقة عام
1999.
يقول عرابي "أسعى جهدي ما استطعت ألا أسلك طريقًا كنت قد طرقته سابقًا"
وهو ما يعني أن الفنان الذي عرفته في أوقات سابقة هو ليس الشخص نفسه
الذي التقيته آخر مرة في غربته الباريسية التي صارت وطنًا.
مزاج نضر وجمال
متشنج
غير مرة وقف عرابي أمام الموت وجهًا لوجه. وهو ما جعله يتأمل تجربته في
الحياة باعتبارها مجموعة متلاحقة من الوقائع التي لا تتكرر. "أبتدأ
اللوحة من حدث تشكيلي صدفوي عابر يقترح المرحلة الثانية بالتداعي قبل
أن أتوقف عند المحطة الأبلغ احتدامًا". وهو ما يعني أن الفنان يبدأ
تأسيس لوحته على قاعدة شكلية منضبطة تقع خارج ما ينوي التفكير فيه
شكليًا، ثم يأخذ كل شيء مجراه في اتجاه الموضوع الذي يشغل حيزًا من
خياله في مرحلة رسم تلك اللوحة.
الموضوع هو ما لا يتكرر لدى عرابي. فلكل مرحلة موضوعها، غير أن بنية
لوحته تظل واحدة. وهي بنية تنتمي إلى المرحلة التي لم تفك فيها الحداثة
علاقتها بالأصول الحرفية للرسم. لا يزال هناك الشيء الكثير من بول
سيزان في لوحات عرابي، على الأقل على مستوى البناء الرصين والمحكم،
بالرغم من أن خبرة الفنان بالموت جعلته يقبل بشيء من التشظي الذي لا
يقع خارج سيطرته.
ولأن عرابي يرى لوحته من موقعين، من داخل الرسم ومن خارجه، فإن حرصه
على متانة البناء الشكلي لا يتعارض كثيرًا مع رغبته في الهروب من قواعد
الرسم. وهو ما منح أعماله قوة تعبيرية صادمة. أليس ذلك كفيلاً بتفسير
قدرة رسومه على أن تبقي جمالياتها نضرة في تأثيرها، متشنجة في
انفعالها؟
تأملته وهو يقف أمام أبطاله النازحين في آخر سلسلة من أعماله مثل طفل
لا يملك أجوبة على الأسئلة التي تتدفق من عينيه مبتلة بالدموع. شعرت
أنه يفتح طريقًا جديدة للوحته بعد أن لوح لأولئك الهاربين من الجحيم
السوري بيده. لم تخدش الحرب مرآة شغفه المطلق بالحياة. لقد تعلم من
الموت أن يكون أقوى مما يتوقع.
كائنات قادمة من
وقائع منسية
في أقصى تجريدياته صفاء يظل أسعد عرابي ممسكًا بخيط رفيع يقود إلى
الإنسان. وفي المقابل فإن رسومه التشخيصية تغصُّ بالمساحات التجريدية
التي يختبر الرسام من خلالها سبل معالجته لموضوعاته. في الحالين ينتقل
عرابي بخفة واسترسال كما لو أنه يفعل الشيء نفسه. فالفنان الذي يجد
حرية في أن يمد يده إلى إرث الفن الحديث كله باعتباره إرثه الشخصي، وهو
محق في ذلك لا يجد أن المسافة التي تفصل بين التجريد والتشخيص ممكنة
النظر. فعرابي بكل ما تنطوي عليه صوره من متعة بصرية ليس رسام معان،
بالرغم من أنه يجازف في الكثير من صوره في القبض على العلاقات
الإنسانية من جهة ما تشكِّله من أبنية جاهزة، يمكن اتخاذها أساسًا
لبناء الصورة.
ولأن عرابي يستلهم في ما يرسم وقائع حية، قد يكون جزء منها متخيلاً،
بالرغم من أن ذلك الجزء كان قد التحق بالذاكرة واندس بين ثناياها، فإنه
يحرص على أن يستحضر انفعاله وتوتره لحظة الرسم كما يفعل الرسام
الانطباعي وهو يراقب التغيُّر السريع الذي يطرأ على المرئيات بتأثير
مباشر من قوى الطبيعة.
قوة الرسم لدى هذا الفنان تكمن في تقلب مزاجه، فربما لا تكون حاضرة في
ذهنه كل تلك الانقلابات قبل أن يمارس فعل الرسم. بالنسبة إلى عرابي فإن
الرسم يفعل ما يشاء وليس على الرسام سوى أن يقتفي أثره. كائنات عرابي
المسكونة بمصيرها تشبه رسامها الذي يسعى إلى وصف تيهه الشخصي.
*** *** ***
العرب اللندنية