هكذا تكلم غريغوار حداد

 

غريغوار حدَّاد

 

الواقع الأليم هو أن سياسة الأشخاص تصبح هدفًا في ذاتها. فيُستهلك المرشحون للنيابة أو الوزارة أو الرئاسة - أية كانت - وتستهلك الأحزاب كل طاقاتها البشرية وإمكاناتها المادية في التهيئة للمعارك وخوض المعارك للوصول أو الإيصال إلى السلطة... فيصبح هذا الوصول هو الهدف، والبرامج الاجتماعية الاقتصادية هي الوسيلة الديماغوجية. ومتى يتم الوصول، تظل المعارك وذيول المعارك وآثار المعارك تشغل الذين وصلوا والذين أوصلوهم، فتصبح السياسة بالسين الصغيرة أصغر فأصغر حتى الصغائر الصغائر.

رجل الدين عليه أن يلتزم سياسًا، ولكن مع إزالة الالتباسات والأخطار من التزامه. عليه أن يلتزم بسياسة القضايا (السين كبيرة)، لأن عدم التزامه بوضوح، هو التزام ضمني بالوضع القائم، فإن كان هذا الوضع ظالمًا، متخلفًا، اشترك بهذا الظلم والتخلف، ومن ثم كان سببًا لآلام المظلومين والمتخلفين.

المسيحي لا يمكن أن يكون مسيحيًا حقًا إلا إذا كان ملتزمًا اجتماعيًا وسياسيًا وملتزمًا بقضايا مجتمعه.

الرهبان وخدمتهم هي الشهادة لأولية الروح في عالم الجسد. هي ليست الهرب من العالم ومن الجسد، كما ظن ويظن البعض، إنما التأكيد "أن المولود من الروح هو روح، والمولود من الجسد هو جسد"، وأنه "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه"، و"أنه من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن أهلك نفسه لأجل المسيح فذاك يخلصها". و"إن ملكوت الله في داخلنا"، منذ الآن، وإن "مملكة المسيح ليست من هذا العالم". مع العلم أن المسيح صلى، لا "لكي نخرج من هذا العالم، ولكن لكي نُحفظ من الشرير".

الكل يرحب أن يكون الرهبان قد اشتركوا "بأول ثورة شعبية لبنانية ضد الإقطاعيين"، لأن تحرير الإنسان من كل استغلال أو ظلم في منطق الالتزام بقضايا الإنسان في كل أبعاده الروحية والزمنية. والكل يود لو شارك اليوم أيضًا جميع الرهبان في تحرير الإنسان اللبناني من كل العبوديات التي يرزح تحتها.

القاتل بالسيف.. بالسيف يُقتل

الحالة ولا شك استثنائية في لبنان. وكل مواطن له حق بل واجب التدخل. والرهبان مواطنون لا يمكن لأحد أن يأخذ منهم هذا الحق وهذا الواجب.

أن يظن الناس، لا سيما المسيحيون، أن الرهبان يتخذون موقفهم الوطني من انطلاقات مسيحية. أن يظنوا أن هذا الموقف هو الموقف المسيحي الوحيد أو أن هذا الموقف هو الموقف اللبناني الوحيد. وأن الدفاع الحقيقي عن لبنان يتم بالتسليح والميليشيات. الشيء الوحيد الذي أحب أن أسجله: أن كثيرين من المسيحيين لا يزالون يؤيدون القضية الفلسطينية، وأن التباسات لا تزال قائمة هنا أيضًا: بين المسيحيين واللبنانيين، فالمسيحيون الذين لا يؤيدون لا يقفون ذلك الموقف بسبب إيمانهم المسيحي، بل بسبب انعكاسات القضية الفلسطينية على لبنان، أو على مصالح اللبنانيين. بينما أغلبية المسيحيين الذين يؤيدون القضية الفلسطينية ينطلقون من إيمانهم المسيحي الذي لا يرضى أن يظل الظلم قائمًا في هذه القضية الكبرى المطروحة على ضمير العالم أجمع.

الله على مسافة واحدة من جميع الأديان. يمكن القول إذًا، انطلاقًا من موقف إيماني، لا من موقف شك أو لامبالاة:

-       إن المسيحيين والمسلمين هم مؤمنون لا أدريون.

-       إن المسيحيين لا أدريون في عقائدهم، وبالوقت ذاته مؤمنون بها.

-       وإن المسلمين لا أدريون في عقائدهم، وبالوقت ذاته مؤمنون بها.

الله الخالق والعادل والمحب، لا يمكنه إلا أن يكون على مسافة واحدة من جميع الناس فردًا فردًا، ومن جميع الديانات التي كانت منذ بدء علاقة الإنسان بالله، ومن جميع الديانات الموجودة حاليًا في العالم.

يمكننا أن نؤمن الإيمان العميق بمتطلبات ديانتنا التي ولدنا فيها، وبالوقت ذاته علينا أن نقبل أن الله قابل بباقي الديانات، ويتعامل مع المؤمنين بها من دون أي تفرقة أو تمييز أو امتياز.

لا شعب خاصًا بالله، ولا حزب خاصًا بالله.

جميع المؤمنين إخوة. بل جميع المؤمنين وغير المؤمنين، "عيال الله".

يمكن تصوير العلاقة بين الأديان على شكل دائرة: محور الدائرة هو الله.

العروبة والإسلام: لا تزال ردة الفعل لدى بعض المسلمين التخوف من العروبة والقومية العربية على أنها جزئيًا ضد الإسلام. وعندما تقترن العروبة «بالعلمانية»، ويُنظر إلى العلمانية خطأ كأنها إلحاد، أو دعوة إلى التحرر من الدين، أو سبيل إلى النمط الغربي من المجتمع وتنظيم الحياة الفردية والجماعية، يتخوَّف هؤلاء المسلمون أكثر فأكثر على الدين، كل دين، وعلى الدين الإسلامي خاصة، ويحاربون العلمانية والعروبة معها. وكم رأينا من شعارات على جدران بيروت كهذا الشعار: "لا للطائفية، لا للعلمانية، نعم للإسلام".

صحيح أن الدين الإسلامي ليس دينًا روحيًا وباطنيًا وحسب، بل هو يتجسَّد في جميع شؤون الدنيا التربوية والاجتماعية والسياسية والثقافية والحضارية... ولكنه يتجسَّد فيها، ولا يصبح إياها. هو الروح في الجسد لا الروح أصبحت جسدًا.

وإذا كان حقًا "لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغِيِّ" (البقرة) ومن جوهر الدين الحرية، الحرية الذاتية، والحرية الموضوعية، يعني أن كل ما في المجتمعات الإسلامية، العربية وغيرها، يمنع الحرية ذاتيًا وموضوعيًا، كل إكراه بالعنف المادي، أو العنف المعنوي، الاقتصادي أو السياسي، كل ما يؤثر بغير المسلمين لتبديل "دينهم" (إلا إذا كان تبيان الرشد من الغي)، كل ذلك يصبح عاملًا ضد جوهر الإيمان الإسلامي.

عندئذ، بدلاً من هذه "المشاكل" التي لا تزال تعاني منها البلدان العربية منذ العصور الوسطى، يحل السلام الإيماني، والتفاعل الروحي، والتعاون الديني في سبيل خير البشرية جمعاء، لا سيما تلك التي فقدت إيمانها بالله بسبب حروبنا الدينية الكلامية والدموية.

الإسلام دين، والعروبة قومية، الإسلام دين وحَّد العرب، وجعل العروبة شأنًا كبيرًا بالتاريخ، وأسهم في الثقافة والحضارة العربية إسهامًا متمايزًا عن أي إسهام آخر.

ولكن الإسلام ليس العروبة، والعروبة ليست الإسلام.

إن الإسلام قيمة دينية إنسانية بحد ذاته، وليس بحاجة إلى العروبة لإضفاء قيمة عليه أو لزيادة قيمته.

وأن العروبة قيمة دنيوية إنسانية بحد ذاتها، أسهم فيها ويسهم حاليًا المسلمون والمسيحيون وغير المؤمنين بالله، وليست حكرًا على أحد.

إن استعمال المسيحيين للعروبة كسلاح ضد الإسلام والوحدة الإسلامية عقيم، وضارٌّ بالمسلمين والمسيحيين معًا، فالعروبة والوحدة العربية يجب أن تكون هدفًا لجميع القاطنين في البلدان العربية، لخدمتهم وخدمة الإنسانية.

وإن استعمال المسلمين للعروبة كغطاء للإسلام وسلاح ضد المسيحيين عقيم، وضارٌّ بالمسيحيين والمسلمين معًا، لأن العروبة هدف لا وسيلة.

وإن استعمال العروبيين للإسلام كسلاح لأغراضهم السياسية الدنيوية وأغراض مَن يساندهم من "الأعاجم" هو انتهاك لحرمة الإسلام وقيمته.

التمييز بين الإسلام والعروبة هو تعميق في فهم جوهر الإسلام وممارسته روحيًا واجتماعيًا، وفي فهم جوهر العروبة والسير بها نحو التكامل بين التيارات المختلفة حتى الوحدة الحقيقية التي تؤمِّن لا مصلحة الحكام، ولا مصلحة بعض الفئات، فتبقى ما دامت هذه المصالح، ولكن تؤمن مصلحة الجماهير العربية في كل الوطن العربي الموحَّد، بكل طوائفه السنية والشيعية والدرزية والعلوية والكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية والقبطية...

صحيح أن فهم جوهر الإسلام وجوهر العروبة لا يكفي لـ "معالجة" جميع المشاكل القائمة في البلدان العربية وغيرها... ولكن بدون هذا الفهم ستزداد هذه المشاكل تعقيدًا، وتصبح معضلات تستحيل معالجتها، وتضيع القضية العربية نهائيًّا لتحقيق مشيئة إسرائيل والدول الكبرى، وتضيع على الإسلام فرصة الحوار البناء مع باقي الديانات لتعميق الإيمان المشترك بالله الواحد الأحد الذي يحتاج إليه الإنسان كل إنسان، العربي والأعجمي، المسلم والمسيحي واليهودي والملحد.

*** *** ***

السفير

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني