مسامرات مع الشيطان 2
كاري الجويني
ألفيته
ذات ليلة يخاطب نفسه كمن كان ينطق على لسانه الوحي وهو شارد:
"كل لحظة وعي وانتباه هي خلق جديد لك. اليقظة تجعلك تنتبه للكون من
حولك وتندمج فيه حد الانصهار. تتخلى عن وهم أنك مركزه الأوحد. بل أنت
سعيد أن تكون جزيئًا واعيًا فيه. اليقظة تفتح بصيرتك أنك تنتمي للكون
حين تتحرر من أغلالك الوهمية الضئيلة تلك التي تغشي فهمك، أنك لست
جنينًا سابحًا في مياه أمه إنما خلية حية واعية تحب وتنتقي وتنفتح
وتستقبل وتتفاعل وتتولد بعثًا جديدًا وتتكور وتنقسم وتتحول وتمنح
بدورها وجودًا لكينونات متسقة الذات والإرادة حية بدورها لامتناهية
الانشطار كذلك. كل هذا اللامتناهي أنت. افتح قنوات جديدة في التعامل مع
الكون. كن إلهًا عظيمًا في عطائه، وافرًا في منحه وحبه وكريمًا لا
لئيمًا، لا يبالي للصغائر. اعشق تفاصيلك الصغيرة. تأملها حد الدهشة
والبلاهة. أحبب نفسك بجميع تفاصيلها المرهقة والتي طالما اعتبرتها ومن
حولك مقرفة ومخزية ومخجلة. شارك الكون تفاصيلك الصغيرة تنعم بإحساس
الانتماء للطبيعة. وأنت يا حواء..." - فاجئني استطراده بغتة كمن كان
منتبهًا لوجودي منذ البداية- "فيك ابتدأ الكون وإليك المنتهى فلا
تترددي أكثر على عتبة العصور وتقدمي خطوتك بكل جسارة نحو الصدارة من
جديد. تدفقي. ارمي بخصلاتك في البحر. تخيلي شعرك حرًا طليقًا رائعًا
كالأمواج التي تمنحك مدًا طويلاً بعد زجر مرهق. ادفني دمائكِ المقدسة
المباركة في التراب لا ترمها كأنها قرف تتخلصين منه بطرق العالم
الاسفلتي الميت الروح والإحساس. تلك الدماء كانت ستلد مخلوقًا جديدًا
وجزيئة أخرى في الكون تغذي روحًا جديدة تحملينها في رحمك وتكونين إلهة
بدورك تمنح الحياة. كيف لدماء بهذه القداسة والطهر أن تكون رجسًا
وقذارة تخجلينها وتتحرجين منها وترفضينها وتتخلصين منها على عجل. اليوم
لم تصبحي مانحة للحياة لكنك لا تزالين أنثى مليئة بها ودمائك مقدسة
ومباركة أينما حلت، فقومي بمراسمها وادفنيها بعناية لتمنح بركتها للأرض
التي منها ولدتي. اعيديها إلى رحم الطبيعة الأم لتشارك في رحلة جديدة
للكون. انتشري حتى وإن كنتِ سجينة هذا الجسد. علميه أنك روح تلبسه وليس
سجنًا يحبسها. علميه أنك أوسع من أن يكون هو ماهيتك وعلميه أنه يصبح
لامحدودًا متى عرفت روحك التحرر والانتشار.
كل ما ستقرئينه أنت تعلمينه حق العلم متى سمحت لروحك بالكلام وأخرست
العقل. تعلمي الصمت واغرقي فيه بروحك لا بدافع فضول عقلك للتجربة.
ستعرفين يومها كل كلام المعلمين وتجاربهم من أي وحي أنزلت. ستجدين نفسك
تطبقين التعاليم بتلقائية وعفوية كأنك حفظتها عن ظهر قلب من كتاب ما.
ستجدين الشفاء داخلك كما كان الداء. كل لحظة في حياتك هي فرصة لتتعمقي
في الكون وتجددي معه العهد وتستثمري فيه وجودك أكثر. هو لا يطالبك إلا
بالحب ليمنحك بلا حدود. كل ما يحدث معك من فرص صغيرة تعتبرينها من حسن
الحظ ماهي إلا إشارة الكون أنه يعتني بك وينتقي لك ما يجعلك أروع
وأجمل. وكل ما يمكن أن يصادفك من حوادث صغيرة تعتبرينها من سوء الحظ
فإنها يد الكون تمتد لتحميك من شر أعظم أو تعلمك سرًّا مهمًا ودرسًا في
حب الذات".
تحولت عيناه المسلطتان عني وحدقتا في الفراغ خلفي كأنما عاد لمخاطبة
أحد آخر. إلا أنني أدركت أنه كان يخاطب نفسه كي يكتشف فتحًا جديدًا
يناجي به داخله ويعيد إلقاء درس لطالما أرهقه فك شفرته:
"افتح قلبك للكون وتقبل منه الحب وامنحه منك بلا عقد ذنب. اعرف أن ما
تأخذه تدفعه بطريقة أو بأخرى. وتعلم تسديد ما عليك بابتسامة واسعة. فكر
بطرق جميلة ورائعة لتسديد ديونك نحوه.
تعلم أن روح الكون معك متى كنت مع الروح في داخلك، متى حلمت حلمًا
ومنحته من روحك وقلبك وصدقته وأنكرت العقل لأن ثقتك بروح الكون أعظم من
حدود منطقه. ستراها تتفنن في تطريز خيوط حلمك بإبرتها الذهبية بإتقان
قد تسميه أنت بطئًا وتسميه هي حكمة الخبير. دعها تفكر في الألوان
المناسبة لحلمك. لا ترسم لها خطوطًا تحد إبداعها. فقط امنحها تقبلك
كقطعة القماش البيضاء وثقتك أنها ستجعل منها لوحة جميلة. لا تدع هواجسك
تقيد أحلامك. اسمعها تهمس داخلك. دع عنك التفكير فكل الدنيا تستطيع
الانتظار من أجل لحظة حب ولحظة حلم. أتعتل همًا وأنا أعلم ما لا تعلمه
أنت أيها الأحمق الصغير.
إن الكون هو الجنية الطيبة التي اعتنت بسندريلا وحولت حلمها إلى حقيقة،
واختارت لها بعناية أثوابها وسخَّرت القرعة مركبة والجرذان جيادًا
والصرصار حوذيًا للعربة، وجعلت من الثوب البالي القديم المرمي سحرًا
وروعة في التصميم لأنه يلائمها. نعم إنها ليست أسطورة وتحدث مع كل حلم
صغير يتحقق لك لكنك لا تدرك كل حركات العصا السحرية وبريقها هنا وهناك
لأجلك إلا حين تستيقظ من غفلتك.
وإن الكون سيطالبك بما طلب من سندريلا: العودة قبل منتصف الليل.
سيطالبك أن لا تتعلق كثيرًا بما أردت منه إعطائك. أن لا تملك الشيء
الذي أحببته. أن تتحرر من قيود رغبتك فيه، والتماهي معه. فإن قاومت
الإغراء كسندريلا وأنقذت نفسك في آخر لحظة، إن لم تستطع قبلاً، فالكون
طيب طيبة الجنية التي أعادت كل شيء إلى طبيعته الأولى إلا فردة الحذاء
البلوري. وفتحت لسندريلا نافذة حلم جديدة معها مكافأة لها. سيكافئك
الكون بما لا تتوقع أحيانًا. فقط أغمض عينيك وأنت واثق أنك تعيش كل يوم
حلمًا جميلاً.
التنوير ليس غاية إنه الرحلة في حد ذاتها.
إن لم تكن متيقظًا وواعيًا لكل خطوة تخطوها في دربك الروحي فلن تصل
أبدًا إلى شيء.
*** *** ***