قلب سكيب
حسن شوتام
آه يا
أحمد، كم نحن محبوسون في أجسادنا وعقولنا.. إننا دائمًا نعطي الآخرين
صفاتنا، وننظر إليهم من خلال مضيق من آرائنا وتفكيرنا، نريدهم أن
يكونوا "نحن" ما وسعنا ذلك، نريد أن نحشرهم في جلودنا، أن نعطيهم
عيوننا كي ينظروا بها، وأن نلبسهم ماضينا، وطريقتنا في مواجهة
الحياة... ونضعهم داخل أطر يرسمها فهمنا الحالي للزمان والمكان.
غسان كنفاني
كل
شيء في عينيه يتلوَّن، يتلفَّع احتفاء بالجحيم، عزاؤه الوحيد قدرته على
الرؤية بعيون الآخرين، يشقى ويسعد بنسقه وتنظيمه الخاص للمجال والمحيط
الذي ما فتئ يتنفس ويعيش أسئلته الملحَّة. هادئ كعادته، اجتماعي رغم
انتصاره للاستقلالية والتفرُّد، وعزوفه عن العلاقات الحميمية، فحتمية
الافتراق ما هجرت يومًا ذهنه. إنه لا يخشى موته حزنًا أو كمدًا بقدر ما
ترعبه نهاية مجانية، وذكراه التي ستطمر وتخضَّب بالنسيان... من دون شك،
الزمن غريمه الوحيد، والبطء في السير في نظره، يصيِّره مثل الغرين.
فكرة الزمن، تمتصها لبعض الوقت شجَّة مطرية... جسده يراقص حزن السماء،
سياطها الغاضبة. لا يعدو طلبًا للاختباء، ولا تربكه نظرات الاستغراب
وهو يمشي مرحًا، تيَّاهًا، مزهوًا... شاخصًا بعينيه المغسولتين إلى
السحاب، يرجوه مزيدًا من التشحيل والصفاء. كم ودَّ لو كمَّ الأفواه
المشرعة والعيون المحملقة، وفدَّ في غير كياسة: ويْكم... أتخشون أسرار
السماء، وأنتم لها متبتلون صبح مساء، أم قلتم حسبنا فتاتًا نقتات منه؟
كيف غابت عنكم الآفاق والمدى، وصرتم عبيدًا لجدب وقحط ومسلَّمات حيرى؟
هاهي ذي قطرات الخلاص تغسل قبحي، تجدِّد وجودي المنمَّق. فأرجوكم...
أرجوكم ثلَّ الأبواب وسدفها... دعوا العواصف والشمس والأمطار والنجوم،
دعوها تُعرِّي أحزانكم، هلمّوا قبل أن أُصلب بصمتكم!
ما إن يسحَّ المطر، ويتسلل إلى جسده لاحسًا غبنه، حتى ينخرط في حواراته
ومناجاته، وقد يحصل أحيانًا أن يُشغِّل خياله، فيحرِّك الشفاه
المتخشبة، والعقول الجامدة.. يتعزَّى متأملاً نفسه بعيون الآخرين: كم
يبدو غريبًا، بل أحمق، وكأن السماء ستشحُّ ولن تعاود البكاء أو الأنين.
ما أصغرك يا رجل وأنت تعاند العاصفة هلمَّ واقنع بسويعات من الدفء، فلن
تخرق الأرض أو تبلغ الجبال طولا.
كلمات كهذه، ما ثنت جسده يومًا عن مراقصة المطر. العواصف أيضًا لم
تُذللـه قط، أو تجبره على الاستسلام لهذر البشر.
عالمه الخاص لا يثير في رأيه الدهشة، ولا شيء فيه ينضح بالغرابة. إنه
فقط يعيش ذاته، يريد أن يكون هو وليس الآخرين، أن يقبر أي فعل منمق أو
إخفاء مبتذل.. "هي ذي طبيعتي المنحسرة، هوذا حزني وشقائي، شاهد قبري
المرتقب، وفنائي المحقق.. فلم نهرب إلى النفاق والخديعة، ونخشى
الحقيقة؟ هلا اعترفنا بوهننا والبؤس الذي يسكننا! لم لا نكون نحن بكل
صفاتنا الأزلية!".
عظيمة أسئلته التي تسبق هطول المطر، فإن بدأ استغنى عن الإجابات
مكتفيًا بإيقاع ملائكي، منتظم لقطراته، ونظرة شزراء لأكياس آدمية تهاب
الضجر. وجهته هذه المرَّة كل الدروب والأزقة الموغلة في الوحل. من دون
شك سيشم به جسده وهذه النوافذ الصغيرة، الكئيبة، الموصدة. سيخرُّ
لطهارة المطر، ويرجوه الاحتفاظ بوشمه. عار أزقتنا ودروبنا وحتى شوارعنا
الرئيسة. ترقُّ السماء لابتهالاته فيعانقه رذاذ خجول عناق النحل لرحيق
الزهر. تدبُّ الحياة في الأكياس، تتحرك، تنفض عنها غبن الأيام، وتفتح
الأذرع مرحبة بمطر خفيف، ونسمات دافئة، وجوٍّ ربيعي، وطلٍّ وردي.
تترجَّى الأكفُّ السماء دوام الحال. تطلب، تتوسَّل، تتضرَّع، فتستجيب
السماء لنقيض الدعاء! الرذاذ الرقيق يستحيل مطارق تدك الرؤوس الطرية،
خيوط المطر سياطًا تجلد الظهور المقوَّسة... والبرد يمتص دفئهم الزائل
الوقتي، إنهم هاربون من جديد وعاشق المطر يتوسط شارعهم الرئيس، يكركر
ويكركر. يتملَّى المشهد بغير دهشة، فقد ملَّ الرؤية بعيونهم، وتعوَّد
انسحابهم الذليل، وتكدُّسهم تحت سدف الدكاكين والمتاجر. يستشيط غضب
السماء، يومض البرق، يقصف الرعد، وعاشق المطر يستنزل المزيد والمزيد.
يتحرك بؤسه ويكبر عذابه، تضنيه وحدته في باحة الطريق، هكذا يُسيِّج
وجوده الضروري، لا زمان، لا مكان، ولا وطن يحمي انهياره اليومي. كم
ودَّ لو كمَّ الأفواه المشرعة والعيون المحملقة، وفدَّ في غير كياسة:
ويْكم.. أتخشون أسرار السماء، وأنتم لها متبتلون صبح مساء، أم قلتم
حسبنا فتاتًا نقتات منه؟ كيف غابت عنكم الآفاق والمدى، وصرتم عبيدًا
لجدب وقحط ومسلَّمات حيرى؟ هاهي ذي قطرات الخلاص تغسل قبحي، تجدِّد
وجودي المنمق. فأرجوكم... أرجوكم ثلَّ الأبواب وسدفها. دعوا العواصف
والشمس والأمطار والنجوم، دعوها تُعرِّي أحزانكم، هلموا قبل أن أُصلب
بصمتكم!
أزيز الرعد صمَّ أذنيه، ففات أوان الزعقة أو التنبيه، كان عناقًا حارًا
بين الموت وأخيه، بين حافلة من حديد، وعاشق أيقن نهايته كأي متمرِّد
شريد، كفنه السماء والرصيف. جسده هامد، ساكن، مسجى بِسَكْب متواصل.
مؤكد يا عاشق المطر، ما انتظرت تضميد الجراح أو وقف النزيف. اسمح لي
سيدي أن أرى بعينيك: خليق بي كرع دمائك التي يجرفها هذا الغدير... أليس
كذلك أيها الأمير؟!
*** *** ***