فلسفة المقاومة اللاعنفية: هنري ديفيد ثورو أنموذجًا 1
د. حسن كامل إبراهيم
استهلال
بدأ الأدب الأمريكي
Amerrican literature
بداية متواضعة، ثم ما لبث أن أخذ مركزه بين الآداب
الأولى في العالم. ومن إيجابياته أنه يمجد: المثل العليا، وصفات
الاعتماد على النفس، والاستقلالية، واحترام الإنسان، والتأكيد على
الديمقراطية، وحب الطبيعة والخروج على التقاليد الأدبية من أجل كل
إبداع جديد.
وتعد الفكاهة عامة، والساخرة بخاصة، من الخصائص المميزة لهذا الأدب.
وقد شهد تطور الأدب الأمريكي عدة مراحل هي: أدب المستعمرات (1765 –
1608م)، وعصر الازدهار الأول (1765 – 1850م)، ثم ظهرت أشكال أدبية
جديدة بعد الثورة الأمريكية
American Revolution.
فقد أشعل الاستقلال السياسي رغبة قوية للاستقلال في فن الأدب، ولأول
مرة انفصل أدباء أمريكا عن ماضيهم الأوروبي. ويبدو ذلك بوضوح في
كتاباتهم عن السياسية وتحرير العبيد، وما لبث الأدب الأمريكي أن بلغ
مرحلة النضوج عام (1850 - 1900م).
وإلى جانب هذا النوع من الأدب الأمريكي "الأبيض" إذا جاز التعبير – كان
يوجد نوع آخر من الأدب الأمريكي هو الأدب الأمريكي "الأسود" الذي يدور
حول مكافحة العبودية، والمناداة بالحرية والمساواة، والحق الكامل في
المواطنة على قدم المساواة مع الأمريكي الأبيض. وهذا النوع الأخير من
الأدب كافح بدوره في تحقيق كافة حقوق المواطن الأمريكي الأسود.
ومن المذاهب الفلسفية التي ظهرت بين هؤلاء الأدباء: التعالي،
والبرهمية، والكنفوشيوسية وغيرها من المذاهب الفلسفية. وظهرت مجموعة من
الأدباء أطلق عليهم "المتعالون"
Transcendental.
والمتعالون مجموعة من كتَّاب نيوإنجلاند
New Engalnd
أكدوا على أن بصيرة الإنسان بفطرته وحواسه تسمو على
المعرفة التي تأتي عن طريق المنطق أو الاستنتاجات. وكان رالف والدو
إمرسون (Ralph
Waldo Emerson
(1803-1882 متحدثًا باسم أنصار الفلسفة المتعالية
في كتاباته. أما هنري ديفيد ثورو (Henry
David Thoreau
(1817-1862 صديق إمرسون فقد طبَّق نظريات الفلسفة
المتعالية فعاش عامي (1845 – 1847م) حياة بسيطة في والدن بوند
Walden Pond
بولاية ماساشوسيتس
Massachusetts
وسجَّل تجربته في كتابه والدن، وهذا الكتاب
يغوص في عمق الطبيعة وأسرار النفس البشرية وماهية الحياة.
لقد عاش ثورو في كوخ على الشاطئ الشمالي لبحيرة والدن بوند من أعمال
الكونكورد
Concord،
وألَّف هناك: أسبوع على نهري الكونكورد وميريماك
Merrimack Rivers Concord and،
وقصته والدن أو وحي الغابة. وهذا الكتاب الأخير اشتهر
شهرة كبيرة بل يعده البعض من أفضل ما كتب في تاريخ الأدب الأمريكي
عامة. تكلم في هذا الكتاب عن فلسفته المتعالية إلى جانب وصفه لما يوجد
في البحيرة التي كان يقيم فيها من سهول، وحشرات، وحيوانات، وأسماك،
وطقس، وفصول السنة، وأشجار... الخ.
أسَّس المتعالون مجلة دايل
Dial
(1840-1844م) التي نشروا فيها أفكارهم. ومن هذه
الأفكار أنهم يجدون الإله في كل شيء: في الإنسان، والطبيعة... الخ. لقد
كانت الطبيعة كتابهم المقدس كما يزعمون. وانقسم المتعالون إلى قسمين:
الأول: الذين اهتموا بالإصلاحات الاجتماعية، أما الثاني: فيضم أنصار
إمرسون وثورو الذين اهتموا كثيرا بالإنسان الفرد. وكان بينهما قواسم
مشتركة عديدة جعلت ثورو يعيش في بيت إمرسون مدة عامين، وكان يوجد أيضًا
تشابه كبير بين أفكارهما، ولكنهما بمرور الزمن اختلفا وافترقا.
حركة التسامي التي جسَّدها كاتبا المقالات إمرسون وثورو كانت بمثابة
ردة فعل ضد المذهب العقلاني
Rationalisme
الذي كان سائدًا في القرن الثامن عشر في أوربا،
وارتبطت بوثوق مع الحركة الرومانسية
The Romantic movement.
وقد ترافقت عن كثب مع كونكورد بولاية مساتشوستس، وهي بلدة تقع بالقرب
من بوسطن
Boston
– غربي الولايات المتحدة الأمريكية - حيث عاش
إمرسون وثورو ومجموعة من الكتاب الآخرين.
مقال ثورو الذي حمل عنوان العصيان المدني
Civil Disobedience،
المتضمن نظرية حول المقاومة السلبية في مخالفة القوانين غير العادلة،
شكَّل مصدر إلهام للكاتب الروسي ليو تولستوي
Aleksey Nikolayevich Tolstoy
(1828 – 1910م) ويبدو ذلك واضحًا في كتابه مدينة
الرب بداخلك.
كما أثَّر مقاله أيضًا على حركة استقلال الهند التي قادها المهاتما
غاندي
Mohandas Karamchand Gandhi
(1869- 1948م)، وكفاح مارتن لوثر كنغ
Martin Luther King, Jr
(1929 – 1968م) للحصول على الحقوق المدنية
للأميركيين السود في القرن العشرين. وفي القرن العشرين انتقلت أفكار
تولستوي وغاندي إلى الولايات المتحدة وألهمت العديد من الأميركيين
الذين لم يعرفوا في معظم الأحيان أن كثيرًا من نظرية اللاعنف قد انطلقت
أصلاً من بلدهم.
لم يكن اهتمام ثورو منصبًا على اندماج الفرد في مجتمع قاس يفرض على
أعضائه ضريبة باهظة، وإنما كان اهتمامه منصبًا على كيفية صد الفرد
لمجتمع طفيلي، يتودد للمرء بلا مناسبة، ويتدخل في شئونه بلا موجب.
ولقد رفض البعض الحلول التي طرحها ثورو، ووصفوه بالمتهرب، والمتقاعس،
وقالوا: "إنه كان يجب أن يشارك بقية مواطنيه حياتهم بدلاً من الانسحاب
إلى مركز دفاعي، محصن يجمع بين صفات الصومعة وصفات الكمين". كذلك
اعترضوا قائلين: "إنه لم يخسر شيئًا عندما دخل السجن في كونكورد؛ لرفضه
أن يدفع ضريبة الرأس لحكومة يعتبرها غير عادلة، حيث إن صديقًا له دفع
الضريبة نيابة عنه، وحصل له على إفراج عاجل، استطاع بعده أن يتوجه
مباشرة إلى الحقول ليلتقط ويأكل من الثمار البرية الشبيهة بالتوت. وفي
ذلك أصدق الدليل على تواكله وتهربه من المسئوليات". وقالوا فضلاً عن
ذلك: "إنه لم يقم بعمل معجز أو بطولي عندما عاش لمدة عامين في كوخه
المطل على بحيرة وولدن، فقد كان بيت والدته من القرب منه بحيث تكاد
تصله رائحة الطعام التي تطهوه"[1].
إن من يتصفح الموقع الإلكتروني لـ وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة
العنكبوتية يجد عرضًا تاريخيًا للفكر اللاعنفي عبر صفحات التاريخ
الأمريكي، حتى إن المرء ليدهش من هذا التاريخ الطويل للفكر اللاعنفي
منذ إنشاء الولايات المتحدة الأمريكية بل يمكننا القول أن تاريخ
الولايات المتحدة وأيديولوجيتها تتمحور حول الفكر اللاعنفي. ولقد أشار
الموقع إلى كتاب اللاعنف الأميركي: تاريخ وفكرة لمؤلفته آيرا
تشيرنوس أستاذة الدراسات الدينية في جامعة كولورادو في بولدر، الذي
يحكي تاريخ اللاعنف الأمريكي. فهذا الفكر اللاعنفي انتقل إلى أمريكا من
أوروبا القرن السادس عشر ونضج وتطور في أمريكا، ومن هنا انتقل إلى آسيا
وأفريقيا.
وحقيقة ما حدث في أمريكا أن الشعب
People
همَّ بتغير الوضع الاجتماعي فكان أمامه إما أن
يستخدم العنف أو اللاعنف، ولكن الشعب قرر - رغم قدرته على استخدام
العنف - أن يستخدم اللاعنف. وانتقل ذلك إلى أمريكا عبر أوروبا في القرن
السادس عشر عندما نادوا بتجديد المعمودية، فقد كانوا منفصلين عن
المجتمع بكل مشكلاته وتجاذباته وصراعاته العنيفة ولذلك كانوا ينبذون
العنف.
لقد بدأ استخدام فكرة اللاعنف في أمريكا عندما انخرط الأمريكيون في
مقاومة الاستعمار البريطاني قبل إعلان الاستقلال، فقد تكونت جماعة
الأصدقاء التي عرفت باسم الكويكرز
Quakers
الذين رفضوا دفع ضرائب الحرب، والرق، واضطهاد
الهنود الحمر. إن
نقطة التحوُّل الكبرى جاءت في العشرينات والثلاثينات من القرن التاسع
عشر، عندما بدأت مجموعة تنتمي إلى خلفيات دينية متنوعة تطالب بإلغاء
الاسترقاق في الولايات المتحدة. كان هؤلاء المطالبون بالإلغاء جميعهم
تقريبًا من المسيحيين، ولم يكونوا جميعهم ملتزمين السعي وراء أهدافهم
بوسائل لاعنفية.
لكن الملتزمين منهم شكلوا أول مجموعة حول هدف التغيير السياسي
الاجتماعي ثم اختاروا اللاعنف كوسيلة لهم. كانوا يؤمنون بالإله الحاكم
الأسمى للكون. لذلك قالوا إنه: لا يجوز مطلقًا لأي إنسان أن يمارس سلطة
على إنسان آخر. وعلى هذا الأساس شجبوا الاسترقاق. لكن لما كان العنف
دائمًا هو الطريق لممارسة السلطة، فقد انقادوا بصورة منطقية إلى نبذ
العنف أيضًا. وفي هذا الجو من الفكر اللاعنفي ظهر ثورو الذي قعد ومارس
الفكر اللاعنفي في مواجهة الحكومة
Government
سواء حكومة الدولة
State
أو حكومة الولاية، لقد آثر حريته وفرديته على ما عداها، وآثر ضميره
الفردي على قانون الحكومة. ويبدو ذلك واضحًا في العديد من مقالاته؛
بخاصة مقالته عن العصيان المدني التي كتبها عام 1849 م[2].
*
إدارة الدولة
المبحث الأول: من يدير الدولة:
يطرح ثورو في مقالته عن العصيان المدني عدة قضايا، ومن القضايا
الرئيسية في المقالة: دور الحكومة الكائنة في دولة ما في إدارة شئونها؟
ويفتتح ثورو مقالته بأن أفضل عمل ضروري أن تقوم به الحكومة أن لا تدير
شئون الدولة. ولبيان هذا ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: خير للحكومة أن لا تحكم
يفتتح أرسطو
Aristotles
(322 - 384 ق. م.) كتابه الأخلاق بتوضيح أن
الخير في كل شيء أن يؤدي الوظيفة المنوطة به، فكل الفنون، وكل الأبحاث
العقلية، وكل أفعالنا، وجميع سلوكياتنا تهدف إلى بلوغ شيء من الخير.
وهذا الخير الجزئي يصب في الأخير في الخير الأقصى الكلي الذي يرنو إليه
الإنسان، والخير الأقصى يعني سعادة الإنسان[3].
ويسير ثورو على منوال أرسطو فيشير إلى أن خير الحكومات هي الحكومة التي
تؤدي وظيفتها، وحدد وظيفة الحكومة بأنها الحكومة التي لا تعمل. يقول:
ما فتئت أقبل عن حماسة مبدأ: "خير الحكومة ما حكم أقل"؛ ووددت لو أني
رأيته معمولاً به على نحو أسرع وأكثر منهجية. فبإنفاذه يؤول أخيرًا إلى
المقولة التالية التي أومن بها هي الأخرى: "خير الحكومة ما لا يحكم
إطلاقًا". وعندما يكون البشر مستعدين له فذلك نوع الحكومة الذي سيحصلون
عليه[4].
هذا ما يراه ثورو أو ما يزعم أنه دور الحكومة وهو أنها لا تحكم، وهذه
نظرة فردية متطرفة تؤدي إلى تحويل المجتمع إلى غابة. ولكن الواقع غير
ذلك فدور الحكومة أن تدير شؤون الدولة والشعب. إن كلمة "حكومة =
government"
مشتقة من الفعل "حكم"، و"حكم بالأمر" أي: قضي به وفصل. ويقال يحكم
البلاد، أي يتولي تسير شؤونها وإدارتها. وبالتالي الحكومة هي من يحكم
الدولة، إن الحكومة هي الهيئة الحاكمة المؤلفة من أفراد يقومون بتدبير
شئون الدولة كرئيس الدولة، ورئيس الوزراء، والوزراء، ومرءوسيهم. إذًا
الحكومة: جهاز سياسي يتكون من عدة وزراء يسيرون شؤون الدولة ومرافقها
في شتى المجالات. وتطلق الحكومة الآن على هيئة الوزارة في الدولة.
والحكومات ثلاث: جمهورية، وملكية، واستبدادية. ومن أنواع الحكومات:
الانتقالية، والاتحادية، والظل، والنيابية، والمركزية، تكتل، ذات
صلاحيات محدودة، والائتلافية. إن الحكومة كلمة ومصطلح سياسي يستخدم
لوصف حكومة اليوم. وتضم مجموعة من السياسيين الذين يحتلون مناصبهم
كأعضاء للحزب الحاكم. فالحكومة:
-
مجموعة أشخاص لديهم سلطة لاتخاذ قرارات.
-
الآلية التي تحدد القيم في جماعة.
-
الإدارة التي توجه وتتحكم في الشئون العامة لوحدة سياسية.
-
الأنشطة أو العمليات المتصلة بالحكم أي ممارسة الضبط على الآخرين أو
توجيههم للقيام بأنماط سلوكية معينة.
وتوجد حكومات في المجتمعات المعقدة كهيئات للضبط الاجتماعي في مقابل
أشكال الضبط غير الرسمية والتقليدية في المجتمعات البسيطة أو غير
المتمدنة. إن الحكومة نظام إدارة الدولة أو أداة السلطة على الشعب
وتصريف أموره وتوجيه جهوده وتنظيمها وضبط سلوك أفراده وجماعاته عن طريق
القوانين التي يضعها صاحب السلطة في الجماعة. ويتولى تنفيذها مستعينًا
بالقوة المادية عند الاقتضاء. وتطلق في المصطلح السياسي على مجموع
الهيئات الحاكمة في الدولة، فتشمل بذلك السلطات الثلاث التشريعية
والتنفيذية والقضائية. كما تستعمل بمعنى أقل شمولاً وهو السلطة
التنفيذية وحدها. والحكومات فيما يتعلق بالتمييز بين وظيفتي الدولة
التشريعية والتنفيذية تتخذ أشكالاً ثلاثة: نظام اندماج السلطات أو
الحكومة الرئاسية، ونظام فصل السلطات، ونظام تعاون السلطات[5].
وعلى الرغم من الدور الكبير الذي تلعبه الحكومة في إدارة شؤون الدولة
أي دولة فـ ثورو يرى أن الحكومة الأمريكية حكومة برجماتية، حكومة تبحث
عن منفعتها، حكومة قد تحيد عن تحقيق إرادة الشعب
The will of the people،
وإذا كان الأمر كذلك إلا أنه ليس بالضرورة أنه ينطبق على كل الحكومات.
يقول عن حكومته الأمريكية:
ليست الحكومة، في أحسن الأحوال، غير وسيلة يتذرع بها إلى حين تيسيرًا
للمصلحة؛ لكن معظم الحكومات عادة، وكل الحكومات أحيانًا، لا ييسر
المصلحة. والاعتراضات المقدمة ضد جيش قائم – وهي عديدة وذات وزن وتستحق
أن تعمم – قد تقدم أيضًا في المآل ضد حكومة قائمة. فالجيش القائم ما هو
إلا ذراع للحكومة القائمة. والحكومة نفسها، التي هي الكيفية الوحيدة
التي اختارها الناس لإعمال إرادتهم، معرضة بالمقدار نفسه للشطط في
الاستعمال وللشذوذ قبل أن يستطيع الناس العمل من خلالها[6].
ويستشهد ثورو على جنوح الحكومة الأمريكية المنتخبة من قبل الشعب، الذي
يريد من هذه الحكومة أن تعبر عن آماله وطموحاته، لكنها ورطت الشعب
الأمريكي بالحرب في عام 1846 م. مع دولة المكسيك المجاورة لأمريكا.
فهذه الحرب دخلتها الحكومة الأمريكية بتحريض من أفراد يستخدمون الحكومة
لتحقيق أطماعهم. ولو أن الحكومة استفتت الشعب على ولوج هذه الحرب ما
وافق الشعب عليها.
والحرب المكسيكية الأمريكية (1846 - 1848م.) هي حرب اندلعت بين
الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك نتيجة خلافات تراكمت لمدة عقدين
من الزمان.
ففي عام 1835 م. تمردت منطقة تكساس على الحكومة المكسيكية وأعلنت
جمهورية تكساس في عام 1836م. وبعد أن صارت تكساس إحدى ولايات الولايات
المتحدة الأمريكية، طالبت بأن تكون حدودها الجنوبية الغربية عند نهر
ريو جراندي، ولكن المكسيك رفضت ذلك الطلب، ورفضت كذلك دفع التعويضات
للمواطنين الأمريكيين
U.S. citizens
أو التنازل عن أي أراض أخرى عوضًا عن الدفع. ادعت الحكومة الأمريكية
بأن الحدود الجنوبيةَ لتكساس كانت ريو جراندي التي أبقتها المكسيك لكي
تكون نهر نيوسز. وأعلن الكونغرس الأمريكي الحرب في 13 مايو عام 1846 م.
وردت المكسيك فأعلنت الحرب في 23 مايو. أغلب القتال الرسمي انتهى
عمليًا في أكتوبر 1847 م. مباشرة بعد أن اقتحم الجنرال وينفيلد سكوت
وقواته المكسيك. قامت قوات الولايات المتحدة بغزو المكسيك واحتلت مدينة
المكسيك (مكسيكو سيتي) العاصمة. وبموجب معاهدة جوادالوبي هيدالجو،
اشترت الولايات المتحدة من المكسيك أراضي: كاليفورنيا ونيفادا ويوتا
ومعظم أراضي أريزونا ونيومكسيكو وبعض أراضي كولورادو وويومينج. ولكن
كثيرًا من المؤرخين يعتقدون أن الحرب كانت هجومًا غير مبرر على دولة
ضعيفة[7].
نستفيد من ذلك أن الحكومة الأمريكية قامت بعملية سلب ونهب لأرض المكسيك
وتوسعت على حساب هذه الدولة المجاورة لها رغم أنها دفعت المال مقابل
هذه الأراضي، فحكومة المكسيك وافقت على هذه الصفقة المشبوهة تحت تهديد
السلاح. وما تزال الحكومة الأمريكية تمارس القرصنة والسلب والنهب في
صور جديدة – على سبيل المثال لا الحصر – ما جرى من استعمار للعراق وما
صاحبه من عمليات سلب ونهب بعد احتلال الجيش الأمريكي له في عام 2003.
وهذا الاعتراض على حرب أمريكا ضد المكسيك من قبل ثورو كرره من بعده
كثير من الفلاسفة والمفكرين والأدباء والشعراء. فالفيلسوف الفرنسي جان
بول سارتر
Jean-Paul Sartre
(1905 – 1980 م.) أبدى رفضه ومقته لاستعمار وطنه
فرنسا لدولة مجاورة لها هي الجزائر. فكتب سارتر مؤلفه عارنا في
الجزائر ليعبر فيه عن خطر هذا الاستعمار، ليس على الجزائر فحسب بل
وعلى فرنسا نفسها. يقول:
هذا ما أود أن تتعرفوا عليه فيما يتعلق بالجزائر، التي هي مع الأسف
العميق أبلغ مثال وأبرزه للنظام الاستعماري – يقصد الفرنسي -. أريد أن
أوقفكم على قسوة هذا النظام الذي لابد أن ينتهي إلى هذه النهاية
المفجعة. وكيف أن أخلص النيات إذا ولدت وترعرعت في داخل هذه الدوائر
الجهنمية استحالت إلى فساد مجسم... فليس هناك مستعمرون صالحون وآخرون
طالحون، بل هناك مستعمرون فحسب. ونحن إذا ما عرفنا ذلك حق المعرفة
أدركنا من فورنا لماذا كان الجزائريون على حق في هجومهم على بناء هذا
النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وكيف أن تحريرهم بل تحرير فرنسا
ذاتها لن يتحقق إلا إذا قضي على الاستعمار قضاء مبرمًا[8].
ويصف ثورو هذا النوع من الحكومة البرجماتية، التي تبحث عن مصلحة ثلة من
الأفراد كما يأتي:
-
تسعى إلى تصوير نفسها لمن يأتي بعدها أنها كاملة، ولكنها رغم ذلك الزيف
تفقد كل لحظة رصيدًا من كرامتها.
-
ليس لها حيوية ولا قوة فرد من أفراد الشعب، بل في إمكان رجل من الشعب
أن يطوعها لمصلحته.
-
على الرغم من ضرورتها إلا أنها في نظر الشعب نموذج على السلاح الخشبي
أي أنها حكومة ضعيفة لا تستطيع تلبية مطالب الجماهير أمام أطماع القلة
التي تدعمها.
-
على الشعب أن يبحث عن وسيلة ناجعة يوصل بها صوته لهذه الحكومة حتى تنفذ
أوامر هذا الشعب.
-
تعرقل أي مبادرة لإصلاح الدولة ما لم تكن هذه المبادرة ترمي إلى تحقيق
أهداف الأفراد الذين يدعمون هذه الحكومة.
-
لا تهتم بالحفاظ على حرية الدولة، ولا تخطط للمساهمة في حل مشاكل
الغرب، ولا تهدف إلى تربية الجماهير.
-
لم تقدم إنجازًا حقيقيًا للشعب الأمريكي بل الشعب هو من حقق كل ما نراه
من انجازات للدولة الأمريكية، وكان من الممكن تحقيق مزيد من الانجازات
لولا العراقيل التي تضعها أمام طموحات هذا الشعب.
-
يشبه هذه الحكومة بجماعة من الأشقياء الذين يضعون العراقيل أمام قضبان
السكك الحديدية، وهذا يدل على أن هذه الحكومة تقف منحازة لمجموعة من
الأفراد ضد مصلحة الجماهير.
-
هذه الحكومة يجب أن ترحل وتأتي حكومة أفضل[9].
المطلب الثاني: طبيعة حكم الأغلبية:
ينادي ثورو بحكومة أغلبية
majority government
في مقابل حكومة الأقلية
Minority government
التي تحقق أطماع جماعة من الأفراد، ويرى أن حكومة
الأغلبية أو الأكثرية أفضل من حكومة الأقلية البرجماتية التي تبحث عن
مصالحها على حساب آمال الجماهير. يقول:
إن السبب العملي، بعد كل اعتبار، إذا ما آل السلطان إلى أيدي الجماهير،
في السماح للأكثرية بالحكم، وبالاستمرار فيه لفترة طويلة، ليس على
الأغلب لأنها على صواب، ولا لأن هذا يبدو الأنصف في نظر الأقلية، بل
لأنها الأقوى. لكن حكومة تحكم فيها الأكثرية في كل الحالات لا يمكن أن
تتأسس على العدل، حتى في حدود فهم البشر له[10].
إن ثورو يقبل بحكم الأغلبية رغم أن الأغلبية لن تحكم بالعدل
Justice،
فهل ذلك يعني أن حكم الأغلبية من وجهة نظره لا يعني الديمقراطية
Democracy
التي تنشدها كل فئات المجتمع؟! وهل يعني أيضًا أن
ثورو مضطر لقبول حكم الأغلبية رغم أنها لن تعطي الأقليات حقوقها؟! وهل
ذلك يعني أن حكم الشعب - أي الديمقراطية - مسألة غامضة؟ يشير غرين
Green
إلى أن حكم الشعب - أي حكم الأغلبية - مقابل حكم
الأقلية هو الديمقراطية بعينها، وعلى الرغم من ذلك فإن غرين يرى أن هذا
القول يعتريه الغموض كما يعتري مصطلح الديمقراطية الغموض أيضًا. إذ إن
المحافظين في الولايات المتحدة يعارضون برامج العمل الإيجابية باسم
الديمقراطية – أي حكم الأغلبية. أما الليبراليون فيؤيدون البرامج نفسها
باسم الديمقراطية – أي الحقوق المتساوية للأقليات[11].
لكن الديمقراطية الحقيقية في الواقع تضع في اعتباراتها الأكثرية
والأقلية فلا يمكن "طبخ" الديمقراطية دون الاعتماد على ميزان الأقلية
والأكثرية، صحيح أن الديمقراطية ليست نظام 100%، ولا نظام 99,99%
بالمائة، ولكنها نظام 50+1 في أبسط تجلياتها عن حكم الأكثرية، فـ "نصاب
الثلثين" هو الميزان الحقيقي للأكثرية؛ ولذلك تصدر أغلب القوانين
والتعديلات الدستورية والاستفتاءات بهذه النسبة لكي تعبر عن رأي
الأكثرية في المجتمع[12].
وحكم الأغلبية مقبول من كل الجماهير لأنها تضع في حسبانها احترام حقوق
الأقلية، وهذه هي الديمقراطية الحقيقية. أما حكم الأقلية - أيًّا كانت
صورها - وإن توشحت برداء الديمقراطية فهو نظام حكم مرفوض لأنه لا يحترم
حقوق الأغلبية. ولذلك يمكننا القول أن حكم الأغلبية نظام حكم حقوقي
مقابل حكم الأقلية فهو نظام حكم غير حقوقي. بعبارة أخرى حكم الأغلبية
يقوم على إعطاء كل ذي حق حقه مقابل حكم الأقلية الذي يقوم على إعطاء كل
الحقوق للأقلية. ذلك يعني أن حكم الأغلبية حكم القوانين مقابل حكم
الدكتاتورية أي الأقلية هو حكم أشخاص[13].
المطلب الثالث: من الذي يحكم: القانون أم الضمير؟[14]
قبل أن نتعرف على رأي ثورو في هذه القضية: من يحكم القانون
Law
أو الضمير:
Conscience؟
من الضروري أن نتعرف أولاً على المقصود بمصطلحي القانون والضمير.
بالنسبة للقانون هو: النظام، والشريعة، والأصل، ومقياس كل شيء. وهو أمر
كلي ينطبق على جميع جزئياته التي نتعرف أحكامنا منه. إنه مجموعة
الشرائع التي تنظم أحوال المجتمع السياسية والتجارية والجزائية وغيرها.
والقانون ظاهرة اجتماعية، إنه وسيلة هامة من وسائل الضبط الاجتماعي.
ويمثل القانون قمة التنظيم الاجتماعي للسلوك الإنساني حيث يحدد صراحة
ما يجب على الفرد عمله وما يجب عليه الامتناع عنه. يضاف إلى ذلك أن
القانون يحدد العقوبة التي تنزل بمن يخالف ما جاء به. القانون إذًا هو
الضابط الأكبر للحياة الاجتماعية وضامن "تعايش الحريات". ومهمته تأمين
النظام والسلام، وتحقيق مزيد من العدالة، وهي فضيلة قوامها إعطاء كل
فرد ما يستحقه. ويعكس القانون قواعد الأخلاق السائدة في المجتمع. وهو،
إذ يتداخل ويتفاعل مع الأعراف والعادات والتقاليد والمذاهب الشائعة،
فإنه، في بعض المجتمعات، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالدين.
إن القانون، باعتباره مجموعة القواعد التي تضبط علاقات أعضاء المجتمع
الواحد فهو في تطور مستمر. إنه في الواقع، يعكس علاقات القوى الكائنة
في المجتمع في مرحلة معينة. وتدخل في عداد القوى الصانعة للقانون
المصالح المادية، والمبادئ الدينية والأخلاقيات، والأيديولوجيات،
والمأثورات والعادات، والتأثيرات الخارجية، بل العواطف في بعض
الأحيان... ولما كان القانون تقنية من تقنيات تنظيم المجتمع، فهو ليس
حصريًا وليس كلي القدرة. فقد كان السفسطائيون
Sophistos
(إبان نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس
ق.م.)، انطلاقًا من الخلافات التي لاحظوها بين مختلف التشريعات، قد
خلصوا إلى نفي وجود مبدأ أعلى يوجه المشرع. فالتشريع - ولا شيء سواه -
هو ما يعبر عن القانون، والقوة هي التي تصنع القانون. أما سقراط
Socrates
(399 – 469 ق.م.) وأفلاطون
Plato
(347 – 428 ق.م.) وأرسطو، فقد اعتبروا - على عكس من
ذلك - أن القانون يجسد الأخلاق... علمًا بأن مفهوم القانون، في مطلق
الأحوال، معرض للتبدل وللتغيير[15].
وأما الضمير فهو شعور إنساني داخلي يجعل الإنسان يراقب أفعاله ويحاول
أن يوجهها إلى الخير ويبعدها عن الشر. إنه استعداد نفسي به يدرك
الإنسان الخير والشر، ويمكنه التمييز بينهما، وعليه يتكئ الإنسان في
قبول شيء أو رفضه. إن الضمير خاصية يصدر بها الإنسان أحكامًا مباشرة
على القيم الأخلاقية لأعمال معينة، وهو مصحوب بالقدرة على إصدار أحكام
أخلاقية مباشرة على قيمة بعض الأفعال الفردية. ويطلق أيضًا على الملكة
التي تحدد موقف المرء إزاء سلوكه، أو تتنبأ بما يترتب على هذا السلوك
من نتائج أدبية واجتماعية، فإن تضمن الضمير حكمًا على أفعال المستقبل
كان صوتًا داخليًا آمرًا أو ناهيًا، وإن تضمن الضمير حكمًا على الأفعال
الماضية كان مصحوبًا باللذة أو الألم. أما اللذة فهي شعور بأنه أتى
عملاً صالحًا مطابقًا للقواعد والمبادئ التي أقرها وسلم بخيريتها. وأما
الألم فهو الشعور بالندم والتأنيب والتبكيت، وهو ينشأ عن شعور الفاعل
بأنه خالف ما يجب عليه فعله. وقد عني به الحدسيون وعدوه قوة فطرية تدرك
الخير والشر حدسيًا من غير خبرة سابقة، وأنكر الطبيعيون ذلك ورجعوا به
إلى التجربة، وربطوا الحكم على أخلاقية الأفعال بنتائجها[16].
وإذا كان القانون قوة ضبط خارجية فإن الضمير في المقابل قوة ضبط
داخلية، ويرى ثورو أن الأخير وليس الأول هو المنوط به إقرار ما يجب أن
يفعله الإنسان أو لا يفعله. يقول:
ألا يمكن أن توجد حكومةٌ لا تقرر فيها الأغلبيات الحق والباطل، بل
يقررهما الضمير؟ حكومةٌ تقرر فيها الأغلبيات تلك المسائل فقط التي
تنطبق عليها قاعدةُ تيسير المصلحة؟ هل ينبغي أصلاً على المواطن للحظة،
أو في الحد الأدنى، أن ينزل عن ضميره للتشريع؟ علام لكل إنسان ضمير
إذن؟ أعتقد أننا يجب أن نكون بشرًا أولاً، وبعدئذ رعايا. إذ ليس من
المرغوب أن يحرص على احترام القانون بقدر ما يحرص على الحق. إن الفرض
الوحيد الذي يحق لي أن أُسأل عنه هو أن أفعل في أي وقت ما أراه حقًا.
لقد صدق إلى حد كبير من قال بأن الجمع لا ضمير له؛ لكن جمعًا من أصحاب
الضمائر هو جمع ذو ضمير. لم يجعل القانون البشر أعدل بمقدار ذرة؛
وبواسطة تهيبهم منه، يصير يوميًا ذوو النية الحسنة منهم حتى أدوات
للظلم[17].
يبدو واضحًا أن ثورو يقبل على مضض حكم الأغلبية ويظهر ذلك في اعتراضه
على أن تكون حكومة الأغلبية هي من يقرر الحق والباطل من خلال حزمة من
القوانين تسنها هذه الحكومة، ويزعم أن من يقرر ذلك هو الضمير أي: قوة
الضبط الأخلاقية المركوزة داخل الإنسان، تلك القوة التي ترشده إلى
التمييز بين الخير والشر. ثم نجده يقارن بين القانون والحق، والأعجب من
ذلك أنه يقرر "... أن الفرض الوحيد الذي يحق لي أن أُسأل عنه هو أن
أفعل في أي وقت ما أراه حقًا...". هذا ما يهدف إليه ثورو أعني أنه يفعل
ما يرى أنه حقًا بالنسبة له ويترك ما لا يراه حق بالنسبة له. وهذه
السفسطائية تعني: ما أرى أنه حق بالنسبة لي فهو حق بالنسبة لي، وأرى
أنه ليس حقًا بالنسبة لي فهو ليس بحق بالنسبة لي. وتلك السفسطائية
المقيتة تؤدي إلى تدمير الأخلاق، والدين، والقانون... الخ. وهذه فردية
متطرفة من قبل ثورو تؤدي إلى تخريب الشعوب والأوطان.
يبدو واضحًا أن ثورو يغالي في فرديته، وهذا المذهب الفردي المتطرف على
الرغم من أنه يعترف بكرامة الإنسان واستقلاله، وأنه له حقوق يجب عدم
التعرض لها، مما كان له أثر كبير في تحرير الإنسان الفرد من دكتاتورية
واستبداد الحكام، والاعتراف بالمساواة بين أفراد الشعب. ورغم ذلك يزعم
أنصار هذا المذهب العديد من المزاعم التي ليس لها نصيب من الحقيقة
والواقع، منها:
-
أن الإنسان عاش منفردًا ولم يعش في جماعة.
-
للإنسان حقوق يجب أن يطالب بها وليس عليه واجبات.
-
حصر الثروات في يد ثلة من الناس.
-
الصالح العام هو مجموع المصالح الفردية[18].
وهذه الفردية المتطرفة من قبل ثورو تعني أنه يؤمن بالبرجماتية المتوحشة
التي أسس لها وليم جميس
William James
(1842 – 1910 م.) متأثرًا بفردية بروتاجورس
Protagora
السفسطائي (420 – 490 ق. م.) ومن هذا المنطلق
يمكننا القول: إن ثورو هو البرجماتي وليس حكومة الأغلبية التي تسن
القوانين التي يحتكم إليها المواطنون. تلك الأغلبية التي تحترم وتقدر
وتثمن حقوق الأقليات، وهذه هي الديمقراطية الحقيقية.
ويضرب ثورو مثالاً على النتائج الكارثية المترتبة على الانصياع
للقانون، فالجيش الأمريكي جنوده وضباطه لا يعلمون إلى أي منحدر
سينقلبون بسبب تنفيذهم للأوامر أو قل بالأحرى القانون. يقول:
إن النتيجة الشائعة والطبيعية للاحترام المفرط للقانون هو احتمال رؤيتك
رتلاً من الجند – عقيدًا ورائدًا وعريفًا وجنديًا عاديًا وغلام مدفعية
وغيرهم – يمشون في نظام يبعث على الإعجاب ويقطعون التلال والوهاد إلى
الحروب، رغمًا عنهم – أجل، ضد سليقتهم وضميرهم – الأمر الذي يجعل مشيهم
مشقة كبيرة فعلاً، ويسبب خفقانًا في القلب. لا ريب عندهم أن الأمر الذي
تورطوا فيه أمر بغيض؛ لكنهم يذعنون له مستكينين. أما وهذه هي الحال، ما
يكون هؤلاء؟ أهم بشر أصلاً؟ أم هم حصون ومخازن ذخيرة صغيرة متحركة في
خدمة رجل صاحب نفوذ لا يتورع عن شيء؟ زر رحبة السفن، فتملَّى جندي
بحرية، رجلاً كالذي وحدها حكومة أمريكية بوسعها أن تصنعه، أو ما يمكنها
أن تصنع من رجل بسحرها الأسود – تجد مجرد ظل للإنسانية وذكرى منها،
رجلاً معروضًا حيًا للفرجة وواقفًا، ومدفونًا سلفًا، إذا جاز القول،
تحت الأسلحة مع الموكب الجنائزي، مع أنه لم يسمع طبل، ولا نغمة
جنائزية، ونحن نعجل بجثته إلى المتراس؛ ما من جندي أطلق رصاصة وداع على
القبر الذي ووري فيه بطلنا[19].
إن جنود وضباط الجيش الأمريكي عبارة عن مجموعة من الآلات والماكينات
التي تدفع إلى الموت دفعًا دون أن يبدو رأيهم بكل حرية في هذا الأمر،
إنهم يشبهون التماثيل، إنهم قطع من الصلصال تنفذ الأوامر التي تأتمر
بها فحسب، هؤلاء قيمتهم من قيمة العتاد أو الجماد الذي يستخدمونه، إنهم
لا يميزون بحسهم الأخلاقي عما إذا كانوا يخدمون الدولة أم لا، إنهم
ينفذون الأوامر فحسب. وقلة هي من الصالحين والوطنين من يقاوم هذه
الأوامر، قلة ترفض أن تكون قطعة من الصلصال تأمر فتطيع. هؤلاء يرفضون
أن يكونوا معاونين للسلطة
Power.
ويطرح ثورو سؤالاً علينا مهمًا: كيف يتعامل كل مواطن مع هذه الحكومة؟
يقول:
أجيب بأنه لا يستطيع أن يكون على صلة بها بدون أن يجلله الخزي. لا
أستطيع برهة واحدة أن أعترف بذلك التنظيم السياسي حكومةً لي وهو حكومة
العبيد أيضًا[20].
ويزيد ثورو الأمر وضوحًا مبينًا مفهوم الاستعباد، فمن الطيش أن نقول إن
الاستعباد هو استرقاق العبيد فحسب، بل أنه قد يمتد إلى استرقاق أحدنا
نفسه. يقول:
وأني لأعجب أحيانًا أن يبلغ بنا النزق حدًا يكاد يجعلني أقول: إنا لا
نعني من الاسترقاق إلا بالشكل الخشن منه، ذلك الشكل الأجنبي البعيد عنا
نوعًا ما، والذي نطلق عليه اسم استرقاق الزنوج. فثم كثيرون من السادة
المتحمسين الأذكياء يبلغ بهم الخطل والمكر أن يسرقوا الشمال والجنوب
معًا، إنه لعسير على المرء منا أن يكون عليه رقيب من الجنوب يسيطر
عليه، وأسوأ من ذلك أن يكون هذا الرقيب من أهل الشمال، وأسوأ من هذا
وذاك أن تكون أنت نخاس نفسك تسترقها وتستعبدها.
وهكذا يعتبر ثورو استعباد المرء لنفسه من أسوأ صور الاستعباد حتى أنه
أسوأ من استعباد الأمريكان للزنوج[21].
مما سبق يتضح أيضًا أن الجنود والضباط الذي يعملون في الجيش الأمريكي
لا قيمة لهم، بل أنهم مجرد أدوات وآلات تأتمر بأوامر حكومة ظالمة يطلق
عليها ثورو حكومة العبيد
Government slaves.
ويمكن رد ذلك إلى العقيدة القتالية الخاصة بالجيش الأمريكي[22].
وتظهر هذه العقيدة في الاحتلال الأمريكي للعراق، فقد كان جيش الاحتلال
الذي غزا العراق في عام 2003 بقيادة أمريكا - بدون قرار مسبق من مجلس
الأمن الدولي - يضم حوالي خمسين دولة في مقدمتها أمريكا، وكان عدد
الجنود الأمريكيين في هذا الغزو هو الأكبر كمًا وكيفًا.
ويشير د. محمد أحمد النابلسي في مقاله سيكولوجية الجندي الأمريكي في
العراق إلى طبيعة الجندي الأمريكي والدوافع التي دفعته دفعًا
للانخراط في هذه الحرب. فهؤلاء الجنود يوصفون في بلادهم على أنهم فرق
معدة للاستعراض العسكري وليس للحروب. ومناظرهم جميلة وكاملة التجهيز
لكنهم غير مقاتلين. والكلام لجنرالات وكتاب أمريكيين.
أما عن العقيدة القتالية لهؤلاء فهي مستمدة من سيطرة مبدأ الرخاء على
مجتمعهم وهي بالتالي عقيدة ربح. وهم يظنون بأن الآخرين لا يجرؤون على
قتلهم أو حتى قتالهم. فإذا ما حدث فهم شديدو الثقة بتفوقهم العسكري
التقني. فالمقاتل الأمريكي في العراق يسير وهو يحمل معدات بقيمة 30 ألف
دولار ليقاتل جائعًا محاصرًا لا يملك سوى سلاحه الخفيف.
يترسخ جنون العظمة هذا عند الجندي الأمريكي عبر تصريحات رسمية قالها
أحدهم: لقد خسرنا 70 قتيلاً مقابل 700 عراقي من مدينة الفلوجة
العراقية. لكن استمرار مقاومة المظلومين يحول جنون العظمة إلى جنون
احتقار للذات وقدراتها. فالجندي الأمريكي يريد الهروب من العراق. إذ
فوجئ أن الحرب في العراق ليست رحلة صيد لقتل بعض البشر. فقد تحول
العراق إلى مصيدة للقتل.
الجندي الأمريكي يتذكر اليوم ما سمعه من روايات عن حرب فيتنام ويتفهم
سبب هروب الرئيس الأمريكي بوش الابن وكبار مسئوليه من تلك الحرب وهم
يريدون بدورهم الهروب. لذلك تم رصد:
-
حالات الانتحار الوبائية بين الجنود الأمريكيين.
-
ما عرف بالنيران الصديقة.
-
تضخم السلوك الغريزي (أفعل كل شيء قبل أن أموت).
-
سيطرة الغرائز البدائية. ومن هنا تفجر الشذوذ والانحرافات الأخلاقية
ذات الطابع الوحشي لدي الجندي الأمريكي.
-
تنامي مخاوف الموت والرغبة في الهروب من العراق.
-
الهروب من الخدمة فبعضهم يسلم ويتزوج عراقيات ويختبئ.
-
عدم الجهوزية القتالية.
-
غياب العقيدة القتالية لدى الجندي الأمريكي حيث أن الجيش الأمريكي لا
يملك عقيدة قتالية تدفعه للتضحية بحياته.
وهذه الوقائع يجب أن تثبت للأمريكيين أنهم يملكون جيشًا مؤذيًا ومدمرًا
لكنهم لا يملكون بحال جيشًا مقاتلاً، وليس أدل على ذلك من محاولات
الرئيس الأمريكي بوش الابن المستميتة للهروب من العراق. ولو بثمن طلب
الغوث الصهيوني ودفع ثمنه المستحيل. فشراكة الكيان الصهيوني الغاصب
لفلسطين العربية في الورطة الأمريكية تحول الولايات المتحدة من دولة
عظمى إلى رئيسة عصابة دولية يتحكم فيها الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين
العربية وتفرض الإتاوات على العالم عبر القوة الأمريكية[23].
المبحث الثاني: لا للدولة:
هكذا دولة، من وجهة نظر ثورو، لا يمكن أبدًا السكوت على ما ترتكب من
مذابح وكوارث ومصائب، ولأجل ذلك يعلن صراحة ودون أدنى مواربة أنه يرفض
هذه الحكومة المتوحشة التي تدافع عن أقلية مغتصبة للسلطة ولا تعمل
لصالح الجماهير، وبيان هذا فيما يلي:
المطلب الأول: رفض الولاء للحكومة
يؤشر جون لوك
John Locke
(1632 – 1704م.) على أن الدور المنوط من الحكومة أن
تلبي مطالب وآمال جماهيرها. يقول:
أعتقد أن السلطة السياسية تتمثل في وضع القوانين التي تنص على عقوبة
الإعدام وجميع العقوبات الخفيفة الأخرى، وتنظيم الملكية والمحافظة
عليها، واستخدام قوى المجتمع لتنفيذ هذه القوانين، وحماية ثروة البلاد
من أي خطر خارجي، وكل ذلك من أجل صالح الجمهور[24].
هذا هو الدور الطبيعي لكل حكومة منتخبة ديمقراطيًا من قبل الجماهير.
ولكن ماذا إذا انحرفت هذه الحكومة عن تلبية حاجات الشعب؟ هل يحق
للجماهير الثورة على هكذا حكومة دكتاتورية ومستبدة لا تلبي طموحاتها؟!
هذا السؤال طرحه أحد المشاركين في الفوران الجماهيري الذي حدث في تونس
نهاية 2010 بداية 2011، والذي شارك ونظَّر لهذا الزلزال الجماهيري
أثناء هذا الفوران وبعده. يقول عبد الرحمن النوضه:
هل يحق للشعب أن يغير النظام السياسي الذي يحكمه؟ نعم، لأن الغاية من
وجود النظام السياسي هي خدمة الشعب! فإذا انقلبت الأمور، وغدا الشعب
مسخرًا لخدمة النظام السياسي القائم، أصبح حق الشعب أن يثور، وأن
يتحرر، لإقامة نظام سياسي يكون في خدمة الشعب[25].
وهذا ما يراه ثورو فالشعب أمام هذه الحكومة الدكتاتورية المستبدة التي
تظلمه وتنهب خيراته، وتفرض عليه ضرائب باهظة، عليه أن يتمرد
revolt
ويثور عليها، خاصة أن هذه الحكومة أعلنت الحرب على
دولة المكسيك الضعيفة. يقول:
البشر جميعًا يعترفون بحق الثورة؛ أي الحق في رفض الولاء للحكومة والحق
في مقاومتها عندما يصير استبدادها أو تقصيرها عظيمًا أو لا يطاق[26].
وهذا نفس ما يراه جون لوك، ففي معرض حديثه عن عدم المساواة
Inequality
بين الجماهير، يؤكد على أن عدم المساواة هذه سترجع
بنا إلى قانون الغابة أي البقاء للأقوى. يقول:
أما الرعايا الذين لا يملكون قانونًا غير إرادة سيدهم، وهذا السيد لا
يتبع سوى عواطفه وأهوائه، فقد اختفت مبادئ المساواة بالنسبة إليهم من
جديد. وكان هذا بمثابة الرجوع إلى قانون الأقوى، وبالتالي إلى طبيعة
جديدة تختلف عن الحال الأولى، فتلك كانت في نقائها الأول، أما هذه
فنتيجة فساد ضرب أطنابه واستشرى. وهناك اختلاف بين الحاكمين في نواح
أخرى، وقد انفرط عقد الحكومة على يد الطغيان، فالطاغية هو السيد الوحيد
مادام هو الأقوى. فإذا جاء الانبعاث الشعبي ليضع نهاية لهذا السلطان
فإنه يكون قانونيًا وشرعيًا، فطالما كان يستند إلى القوة وحدها، فإن
القوة أيضًا هي التي تلقيه إلى الحضيض. وهكذا تعود الأمور إلى مجراها
الطبيعي، ومهما يكن من الآثار التي تختلف عن الثورات، فليس لأحد أن
يشكو من ظلم آخر[27].
إذ الثورة على حكومة طاغية ومستبدة يعد عملاً قانونيًا وشرعيًا، الخروج
على هذه الحكومة يكون بالقوة طالما هي تستند في نهبها للسلطة على
القوة. ولكن كارل بوبر يرى عكس ذلك: أن الثورة على حكومة ذات طبيعة
استبدادية واستبدالها بحكومة ديمقراطية يجب أن يكون دون سفك دماء.
يقول:
تكون الدولة حرة من الناحية السياسية إذا جعلت مؤسساتها السياسية
بإمكان مواطنيها تغيير حكومة قائمة دون سفك دماء متى ما كانت الأغلبية
راغبة. أو بصورة أخرى مختصرة: نحن أحرار إذا كان بإمكاننا التخلص من
حكامنا دون إراقة الدماء[28].
ولكن واقع الثورات يختلف عن ما يراه بوبر فلا تخلو ثورة من سفك دماء.
المطلب الثاني: أصحاب رأس المال هم من يعارض الإصلاح
قبل أن نشير إلى موقف ثورو المعارض لأيديولوجيات أصحاب رؤوس الأموال
البرجماتية يجب أن نعرض للثورة التي جرت في بوسطن. ورد في الموقع
الإلكتروني لوزارة الخارجية الأمريكية، وفي مواقع إلكترونية أخرى،
كثيرًا من المعلومات عن الاستقلال الأمريكي عن الاحتلال البريطاني.
نوجز هنا ما ورد في هذه المواقع عن ما فعله الأمريكيون ضد الاحتلال
البريطاني حتى يحصلوا على الاستقلال. لقد عرف الأوروبيون الأراضي
الأميركية على أنها العالم الجديد، بلاد المال والثروة، وبدؤوا موجات
متتالية من الهجرة إليها منذ اكتشفها كريستوفر كولمبوس
Christophorus Columbus
(1451 – 1506 م.)، وكان أكثر المتوافدين على هذه
البلاد الجديدة الإنجليز الذين دخلوا في معارك شديدة قضوا فيها على
الهنود الحمر، السكان الأصليين للبلاد، في مذابح مازالت تمثل عارًا
للغرب.
المستوطنون الإنجليز الذين غادروا الوطن الأم إلى أميركا الوطن البديل،
التي كانت مستعمرة إنجليزية، بحثًا عن حياة أفضل وأكثر ثراء وحرية لم
تكن لديهم رغبة في إبقاء الصلة ببلادهم التي جاؤوا منها، لذلك كان
الصدام بين المهاجرين وبريطانيا محتمًا والثورة ضرورة... فصنعوا الثورة
الأميركية لتخرج من رحمها دولة قوية وإمبراطورية مسيطرة على العالم
الآن.
بدأت إرهاصات الثورة عندما خرجت إنجلترا منتصرة في حرب السبع سنوات
(1756 – 1763 م.) بعد أن تمكنت من هزيمة فرنسا وطردها من مستعمراتها في
العالم الجديد خصوصا كندا، وهو ما اعترفت به فرنسا في معاهدة باريس
1763 م، وتحول المحيط الأطلسي إلى بحيرة إنجليزية بامتياز... عندها
قررت رفع سقف المعونات العسكرية والمالية المفروضة على المستعمرات
البريطانية، وهو ما أثار حالة من الاستياء ضد السياسة الملكية
المستبدة. ومنذ أن تولى الملك جورج الثالث (حكم 1760-1820 م.) مقاليد
الحكم، وهو يحاول تدعيم السلطة المركزية في أرجاء الإمبراطورية. وكان
طبيعيًا أن يزيد من حجم القوانين التي تقيد المستعمرات البريطانية في
أميركا الشمالية.
مما أدى إلى موجة عارمة من الاستياء العام ضد الإدارة المركزية في
لندن، فتحدى المستوطنون القرار الظالم من جهة. فقد أجبر كل من يريد
التجارة مع الهنود من المستوطنين على أن يحصلوا أولاً على رخصة من
السلطات البريطانية، كما منعوا من شراء الأراضي من الهنود...
وأثار ذلك غضبهم وقاموا بالتوسع غربًا متجاوزين الحد الفاصل الذي عينته
الإدارة البريطانية، فلم تكسب لندن من هذا القانون إلا المزيد من
العداء مع المستوطنين.
ولما كان اقتصاد بريطانيا في حاجة إلى موارد جديدة، فلم يجد رجال
الاقتصاد أفضل من فرض الضرائب على المستعمرات كعلاج سريع للأزمة التي
ضربت ميزانية الدولة. وكان أول هذه القوانين قانون السكر 1764 م، الذي
قضى بعدم استيراد العسل الأسود إلا من المناطق الواقعة تحت السيطرة
الإنجليزية ثم فرضت الضرائب على العسل والنبيذ والحرير والبن والعديد
من المنتجات، فيما قررت السلطات البريطانية التشدد في تنفيذ هذه
الإجراءات المالية ومكافحة أعمال التهريب. كما أن القانون جاء في صيغة
يفهم منها أن الهدف منه ليس الارتقاء بالمستعمرات التي جمع منها
الضرائب والرسوم، ولكن لخدمة المملكة، وهو ما جعلهم يشعرون بأنهم
مواطنون من الدرجة الثانية.
يضاف إلى ذلك قانون العملة الذي سلب الصفة القانونية للأوراق المالية
المتداولة في المستعمرات، وقانون التمرد الذي طبق على المستعمرات كلها
وهو أشبه بقانون التجنيد الإلزامي لكن لغرض قمع التمردات في
المستعمرات.
أثار المتضررون ضجة كبيرة مضادة لذلك القانون أثرت في الرأي العام
الرافض أصلاً لسياسة التدخل البريطاني في شؤون المستعمرات، وأخذت ولاية
فرجينيا زمام المبادرة في رفض هذا القانون. ثم حذت مساتشوستس
Massachusetts
حذوها، التي أرسى مجلسها التشريعي قاعدة قانونية
مهمة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية عندما قرر أنه ليس من حق
البرلمان البريطاني فرض أي ضرائب على المستعمرات لأنها غير ممثلة في
برلمان المستعمرة فـلا ضريبة دون تمثيل.
لم تلبث روح المعارضة أن انتشرت في كل أنحاء المستعمرات، وتشكلت جماعة
أطلقت على نفسها اسم "أبناء الحرية" وأخذت تدعو لمقاومة الضرائب
الجديدة بشكل منظم، وقاموا بأعمال التهديد وحرق هذه الطوابع وأجبروا
موظفي الطوابع على الاستقالة.
انتصر المستوطنون في أول مواجهة لهم مع بريطانيا العظمى، وهي معركة بلا
سلاح حقيقي لكنها فاقت في نتائجها معارك البارود، فقد شعر المستوطنون
بقوتهم وتأكدوا من ضعف الحكومة البريطانية أمام قدرتهم الاقتصادية
المتصاعدة التي أجبرت التجار البريطانيين على الضغط على الحكومة من أجل
التراجع، لذلك كانت مسألة الثورة من قبل المستوطنين مسألة وقت ليس
أكثر. في حين اعتبرت بريطانيا أن الجولة الأولى قد انتهت فقط وأن هناك
العديد من الجولات التي ستنتهي بضرورة إخضاع جميع المستعمرات لإرادة
لندن، لذلك وبين انتشاء المستوطنين بانتصارهم ورغبة بريطانيا في المزيد
من القيود كان لابد من الصدام من جديد.
مذبحة بوسطن
قرر مجلس رئاسة الوزراء في بريطانيا تنفيذ سياسة الملك الهادفة لإخضاع
المستعمرات، لذلك أصدر في عام 1767 م. أوامره لمستعمرة نيويورك بحل
المجلس التشريعي فيها الذي رفض الموافقة على قانون الإسكان، وكان يهدف
إلى جعل تلك المستعمرة الصغيرة عبرة لمن يعتبر في بقية المستعمرات، فرض
المجلس أيضًا ضرائب على استيراد المستعمرات الشاي والورق والرصاص، على
أن تستخدم حصيلة هذه الضرائب لدفع مرتبات الحكام والموظفين الإنجليز في
المستعمرات، كما أنشأ إدارة جديدة للجمارك وأعطاها السلطة القانونية
الكافية لمنع عمليات التهريب. رفضت جميع المستعمرات القوانين الجديدة
ولم تجد الجماهير الغاضبة التي لم يكن ينقصها الحماس إلا رجال الحامية
البريطانية في بوسطن لتفريغ شحنة الغضب من الإدارة البريطانية فهاجموا
مقر الحامية، أطلق الجنود النار على المتظاهرين فسقط ثلاثة قتلى من
المتظاهرين في حين أصيب آخرون فيما عرف باسم "مذبحة بوسطن" 5 مارس 1770
م.
أمام هذا الرفض الشعبي وانخفاض صادرات بريطانيا إلى المستعمرات
الأميركية إلى النصف، تراجع البرلمان البريطاني وألغى ضرائب مجلس رئاسة
الوزراء ما عدا ضريبة واحدة.
لكن تيار الاستقلال كان يشتد تحت سطح العلاقات الهادئة وأثناء ذلك
استمر النضال في سبيل إلغاء ضريبة الشاي الممثل الأخير لمبدأ حق
البرلمان البريطاني في فرض الضرائب، وقد تجاوب الأميركيون جميعًا مع
دعوة مقاطعة الشاي الإنجليزي وأقبلوا على شراء الشاي المهرب من
المستعمرات الهولندية، لإظهار تحديهم صراحة لرغبة ملك بريطانيا في
التدخل في شؤون المستعمرات.
حفلة شاي بوسطن
Boston Tea Party
قررت الحكومة البريطانية من جانبها أن تعطي شركة الهند الشرقية في عام
1773 م. حق احتكار بيع الشاي في المستعمرات، ولضرب حركة تهريب الشاي في
المستعمرات الأميركية عمدت إلى تخفيض سعر الشاي ليصبح أرخص من سعر
الشاي المهرب وهو ما هدد تجارة الشاي المحلية بالتوقف، وجعل تجار الشاي
يغضبون من هذا الاحتكار الذي كان احتكارًا لصالح شركة بريطانية في
الأساس، وانضموا للناقمين على السياسة البريطانية، وشجعوا على استعمال
القهوة والشوكولا بدلاً من الشاي، ورفضوا تسلم شحنات الشاي التي جاءت
بها الشركة.
وأمام إصرار حاكم بوسطن الإنجليزي على تفريغ حمولة شاي جاءت بها ثلاث
سفن، بادرت فرقة من الوطنيين متنكرين بزي الهنود إلى دخول السفن وإلقاء
حمولتها من الشاي في البحر، وكان ذلك في ليل 16 ديسمبر سنة 1773 م، وهي
الحادثة المعروفة في التاريخ باسم "حفلة شاي بوسطن"، وهكذا ألقى
المستعمرون الأميركيون بالقفاز في وجه الملك البريطاني الذي لم يطالب
باسترجاع نفوذه المتداعي في شرق الأطلسي فحسب، بل باسترجاع كرامته
المهدرة في المقام الأول. أثار هذا العمل العنيف موجة عارمة من
الاستياء والغضب في الأوساط البريطانية، ولم يعد هناك مفر من المواجهة
فالملك ومعه الحكومة والبرلمان أصبحوا في موقف حرج. واتخذ الملك المزيد
من الإجراءات العقابية ضد مستعمرة ماساتشوستس وبدلاً من أن تساهم هذه
الإجراءات في إخضاع المستعمرات الأميركية كما كان يأمل السياسيون في
لندن إذا بها تؤدي إلى رفع راية العصيان، فلم تخضع مستعمرة ماساتشوستس
بل ووقفت بجانبها مختلف المستعمرات. وأمام هذا التشدد من جانب الملك
أخذت المستعمرات في التسلح، ففي ماساتشوستس بدأت تظهر عمليات المقاومة.
فبادر الوطنيون إلى طرد حكام المستعمرات التابعين لبريطانيا واستلموا
إدارة الأمور للدفاع عن بلدانهم.
وفي 10 مايو سنة 1775 م. تبنت المستعمرات المختلفة الجيش الصغير في
بوسطن باعتباره جيشًا أميركيًا يخص كل المستعمرات، وقد عينوا لقيادته
جورج واشنطن، وأطلق على الجيش الموحد اسم "جيش القارة الأميركية".
أصبحت الكرة الآن في ملعب الملك والإدارة البريطانية فكان بإمكانها
بمزيد من المرونة أن تستوعب مثل هذه التظاهرات بمزيد من التخفيف
الضرائبي مع الاعتراف بالأشكال التنظيمية التي بدأت تظهر في
المستعمرات، إلا أن الملك رفض الطريق السهل وقرر قبول التحدي ورفعه إلى
مستوى أعلى فقد أصدر في 23 أغسطس سنة 1775 م. تصريحًا أعلن فيه أن
المستعمرات الأميركية في حال عصيان، رافضًا في الوقت ذاته مقابلة رسول
المستعمرات الذي حمل مشروعًا للسلام. وهو ما رد عليه الثوار بتنفيذ
هجوم في ربيع 1776 م. على مدينة بوسطن بقيادة "واشنطن" نفسه أسفر عن
تحرير المدينة وطرد القوات البريطانية منها. بذلك دخلت العلاقة إلى
النفق المظلم، ولم يعد هناك ما يقال، فقد أعلنت الثورة الأميركية على
السيادة البريطانية وبدأت حرب الاستقلال الأميركية[29].
ويستشهد ثورو بما جرى في ثورة في ماساتشوستس على أن من يقاوم الإصلاح
هم أصحاب رؤوس الأموال، أي: أصحاب المصالح البرجماتية المتوحشة في
مواجهة الجماهير المستعبدة. ما حدث في ماساتشوستس ثورة أطلق عليها
"حفلة شاي بوسطن". يقول:
ليس المعارضون للإصلاح في ماساتشوستس مئة ألف سياسي في الجنوب، بل هم
مئة ألف تاجر ومزارع هنا، همهم التجارة والزراعة أكثر من الإنسانية،
وليسوا مستعدين لإنصاف العبد والمكسيك، مهما كلف الأمر. لست على خصام
مع الأعداء البعيدين، بل مع القريبين في الوطن الذين يتعاونون مع أولئك
البعيدين ويزايدون عليهم، القريبون الذين بدونهم يكون البعيدون مأموني
الجانب. لقد اعتدنا أن نقول بأن جمهور البشر غير مستعد؛ غير أن التحسين
بطيء لأن الصفوة ليسوا ماديًا أوفر حكمة أو أفضل من الجمهور. فليس من
الأهمية بمكان أن يعادلك الكثيرون خيرًا، بقدر ما يهم أن يوجد خير مطلق
ما في مكان ما[30].
لقد عنون بارنتي الفصل الثالث من كتابه ديمقراطية للقلة بـ
"ثقافة الطبقة الغنية الحاكمة المؤسسات والإيديولوجيات"، وهذا العنوان
يعبر عن هيمنة قلة من الأغنياء أو قل من الشركات الغنية على الدولة
الأمريكية وهذا مركوز في كل المؤسسات الحكومية والمدنية. ويعبر الكاتب
عن ذلك في صدر هذا الفصل بقوله:
لا تمثل الرأسمالية الأمريكية مجرد نظام اقتصادي، بل هي نظام ثقافي
واجتماعي شامل. إنها حكومة أغنياء، ونظام للحكم يمارسه الأغنياء في
غالب الأحوال ويستهدف تحقيق مصلحتهم. ويتم تنظيم الجامعات، ودور النشر،
والمجلات واسعة الانتشار، والصحف، ومحطات الإذاعة والتلفزيون، والفرق
الرياضية المحترفة، والمؤسسات، والكنائس، والمتاحف الخاصة، والمنظمات
الخيرية والمستشفيات على هيئة شركات كبرى تحكمها مجالس إدارة، تتكون من
مديرين أو أمناء أو أعضاء جلهم من رجال الأعمال. وتصدر هذه المجالس
الأحكام النهائية فيما يخص الأمور المتعلقة بكل من تلك المؤسسات[31].
ويؤكد ثورو على أنه يوجد الكثيرون ممن يرفضون الرق والحرب ضد المكسيك
ولكن نادرًا ما نجد منهم من يفعل شيئًا لإلغاء الرق الذي هو ضد الحرية
وإيقاف الحرب العدوانية ضد دولة مجاورة.
المطلب الثالث: التصويت تلاعب بالحق والباطل
يعد التصويت أمام صناديق الاقتراع أحد أدوات الديمقراطية ومظهر من
مظاهر المشاركة السياسية، المشاركة السياسية التي ترتبط بالوعي. فلا
يمكن
أن يشارك المواطن في مجال السياسة وهو في حالة استرخاء، فعلى الفرد
الذي يدلي بصوته في الانتخابات التوقيع على بطاقة الانتخابات وكتابة
خطابات، والتوجه إلى مكان الاقتراع فالفرد إما أن يدلي بصوته أو لا
يدلي وإما أن يرسل خطابًا أو لا يرسل خطابًا، وإما أن يذهب إلى مكان
الاقتراع أو لا يذهب إلى مكان الاقتراع، فالمواطنون يقومون بنشاط، أي:
بعمل وبعبارة أخرى فإن من يدلون بأصواتهم على وعي بأنهم يدلون
بأصواتهم، وأعضاء المنظمات على وعي بعضويتهم ومن يقومون بالحملات
الانتخابية على وعي أنهم يقومون بحملات انتخابية ومن ثم يمكن اعتبار
المشاركة مرتبطة بالوعي على أساس أن الأفراد لابد أن يكونوا على وعي
بالنشاط الذي يقومون به سواء كانت هذه الأنشطة عقلانية أو لا ولكنها
أنشطة واعية[32].
المهم أن يشارك ويعبر عن رأيه في مشاركة سياسية على مستوي الدولة حيث
يشارك كل المواطنين، والأهم أن المواطن ينبغي أن يكون على وعي تام بما
يقوم به.
وعلى الرغم من ذلك فإن ثورو يرى أن المشاركة السياسية بالتصويت في
الانتخابات غير حقيقية وغير واقعية. يقول:
كل تصويت فهو ضرب من اللعب، مثل الدَّامة والنرد، عليه مسحةٌ خفيفة من
الأخلاق، فهو تلاعب بالحق وبالباطل، تلاعب بالمسائل الأخلاقية؛ وهو
يترافق بالطبع مع الرهان. إن طبع المصوتين ليس موضع رهان. أدلي بصوتي،
ربما، لصالح ما أظنه حقًا؛ لكني لست معنيًا حيويًا بأن يسود الحق. أوثر
أن أفوض الأمر إلى الأكثرية. لذا فإن التزامها لا يتعدى الالتزام
بتيسير المصلحة. وحتى التصويت لصالح الحق لا يفعل من أجله شيئًا. إنه
تعبيرك للناس تعبيرًا واهنًا عن رغبتك في سيادته، ليس إلا. أما الرجل
الحكيم فلن يترك الحق لرحمة المصادفة، كما لن يتمنى له أن يسود عبر
سلطان الأكثرية. ليس في عمل جماهير البشر إلا القليل من الفضيلة. وإذا
اتفق للأكثرية أن تصوت أخيرًا على إلغاء الرق فسيكون ذلك لأنهم غير
مكترثين بالرق، أو لأنه لم يبق إلا القليل من الرق يلغيه تصويتهم. وإذ
ذاك لن يكون من عبيد سواهم. وحده من يؤكد بصوته على حريته هو يستطيع
صوته أن يعجل في إلغاء الرق.
التصويت في الانتخابات لا يؤدي إلى حكومة رشيدة تقوم بتحقيق مطالب
الجماهير وآمالهم، ولا يقضي على العبودية، ولا يحقق الحرية والعدل
والحق. هذه هي نظرة ثورو إلى الديمقراطية الأمريكية، أنها تخيب آمال
الجماهير وطموحاتهم. وهذا يتعارض مع ما تنشره وزارة الخارجية الأمريكية
– على سبيل المثال لا الحصر – حول لعبة الديمقراطية. فمن يطالع الصفحة
الإلكترونية لوزارة الخارجية الأمريكية يجد أحاديث مطولة عن
الديمقراطية، أحاديث تمتدح الديمقراطية الأمريكية. ومن ذلك:
-
الانتخابات الحرة والمنصفة ضرورة أساسية للحصول على موافقة المحكومين
التي تشكل بحد ذاتها حجر الأساس للسياسات الديمقراطية. وتعتبر
الانتخابات الآلية الرئيسية لترجمة تلك الموافقة إلى سلطة حكومية.
-
الانتخابات الديمقراطية ليست مجرد عملية رمزية... إنها انتخابات
تنافسية، دورية، شمولية، ونهائية، يتم خلالها اختيار صانعي القرارات
الرئيسيين في الحكومة من قبل مواطنين يتمتعون بحرية واسعة في انتقاد
الحكومة، وبنشر انتقاداتهم، وتقديم البدائل.
-
الانتخابات الديمقراطية دورية. لا تنتخب الأنظمة الديمقراطية حكاما
ديكتاتوريين أو رؤساء مدى الحياة. إذ يخضع المسئولون المنتخبون
للمساءلة من جانب الشعب ويجب أن يرجعوا إلى الناخبين في فترات محددة
إما لضمان استمرار تفويضهم أو لمواجهة خطر خسارة مراكزهم من خلال نتائج
التصويت.
-
الانتخابات الديمقراطية نهائية. إنها تحدد قيادة الحكومة لفترة زمنية
مقررة. يتولى ممثلون منتخبون شعبيًا زمام الحكم، ولا يكونون مجرد رؤساء
صوريين أو قادة رمزيين.
-
الانتخابات الديمقراطية ليست، في النهاية معركة للبقاء بل منافسة
للخدمة.
*** *** ***
[2]
للمزيد من التوضيح انظر: أدب الولايات المتحدة الأمريكية،
مرجع سابق، ص 164. وأيضًا: بيتر هاي، موجز تاريخ الأدب
الأمريكي، ترجمة هيثم على حجازي، دراسات نقدية عالمية (8)،
منشورات وزارة الثقافة 1990م، سورية – دمشق، ص 49 – 55.
[5]
للمزيد من التوضيح انظر:
كلمة الحكومة في الموقع الإلكتروني: حكومة=www.almaany.com/home.php?language=arabic...name...word
قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية: إنجليزي – عربي، د. مصلح
الصالح، ط 1، 1420 هـ / 1999 م، دار عالم الكتب للطباعة والنشر
والتوزيع، المملكة العربية السعودية – الرياض، ص 238 – 239.
الموسوعة الميسرة للمصطلحات السياسية (عربي – انجليزي )، د.
إسماعيل عبد الفتاح عبد الكافي، بدون، ص 186.
معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية: انجليزي – فرنسي – عربي، د.
أحمد زكي بدوي، مكتبة لبنان – بيروت، ص 180.
الموسوعة السياسة، د. عبد الوهاب الكيالي وآخرين، راجعها
ونقحها رشاد بيبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت –
لبنان، ج 2، ص 567 – 568.
[12]
د. نبيل ياسين، تاريخ الديمقراطية: حكم القوانين لا حكم
الأشخاص، مركز البحرين للدراسات في لندن، 2012، ص 4.
[18]
للمزيد من التوضيح ينظر:
www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/1709.
[29]
للمزيد من التوضيح انظر:
www.thirdpower.org/index.php?page=read&artid...،
[32]
العصيان المدني،
مرجع سابق.