أطوار صورة الله
في التوراة 3: عندما دعا إبراهيم إلهه إلى مائدته
فراس السواح
على
الرغم
من أن آلهة إنسان الشرق القديم كانت تعيش في عالم ما ورائي غير منظور،
إلا أن الحد الفاصل بين عالمها وعالم البشر كان على درجة من المرونة
تسمح للآلهة بدخول عالم البشر ولبعض البشر بدخول عالم الآلهة. ففي
أسطورة آدابا البابلية، نجد الإنسان الأول المدعو آدابا (= آدم) يعيش
في متَّصَل زماني – مكاني مع إلهه إيا الذي خلقه، فكان قيِّمًا على
معبده في مدينة إريدو يخبز الخبز لإلهه ويصطاد له السمك في مركبه، وكان
الاثنان يتحاوران وجهًا لوجه. ثم إن آدابا صعد بعد ذلك إلى السماء
ومَثُلَ في حضرة كبير الآلهة آنو. وفي أسطورة إنانا والبستاني السومرية
نجد الإلهة إنانا وقد آوت إلى بستان لتستريح فيه من عناء السفر، ثم
أغفت، وبينما هي نائمة رآها البستاني ففتنه جمالها وضاجعها دون أن تشعر
به. مثل هذا الاتصال الجنسي بين البشر والآلهة كان ينجم عنه ولادة
أشخاص نصفهم من طينة البشر والآخر من طينة الآلهة، كما هو حال الملك
جلجامش الذي ولدته الإلهة ننسون بعد أن نام معها الملك السومري لوجال
بندا. وفي ملحمة أقهات الأوغاريتية نجد الإله كوثر – حاسيس يقوم بزيارة
لحاكم المدينة وقاضيها المدعو دانيال، فيجلس على مائدته ويأكل من
الطعام الذي أعدته دانتيه زوجة دانيال.
هذه المرونة في الحد
الفاصل بين العالمين، نجدها أيضًا في القصص التوراتي الذي ينتمي إلى
المنظومة الأدبية المشرقية نفسها. ففي بداية الأزمان عاش الإله يهوه في
متَّصل زماني-مكاني مع البشر في الجنة التي غرسها على الأرض في عدن
شرقًا وخلق الإنسان "ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها" (التكوين: 2)،
مثلما خلق الإله إيا الإنسان آدابا وجعله قيِّمًا على معبده في إريدو.
وكان يهوه يلجأ إلى جنة عدن ليرتاح فيها ويتمشى بين أفنائها، مثلما
لجأت إنانا إلى البستان حيث أغفت تحت إحدى أشجاره. وفي الجنة كان يهوه
يتحدث وجهًا لوجه مع آدم وحواء، وعندما لا يجدهما تحت ناظريه كان يبحث
عنهما ويناديهما بأعلى صوته. وكما أوضحنا في بحثنا السابق، فإن الصلة
بين المقدس والدنيوي تغدو أكثر حميمية في الظاهرة التي دعوناها بالدين
الشخصي أو دين العائلة، وقدَّمنا أمثلة عما تتيحه من تداخل بين
العالمين. وسوف نتوقف هنا عند أكثر أشكال هذا التداخل درامية، مبتدئين
بالزيارة التي قام بها يهوه لإبراهيم، حيث اتكأ تحت الشجرة وغسل قدميه
من وعثاء السفر، ثم أكل من الطبيخ التي أعدته له سارة زوجة إبراهيم.
في مطلع الإصحاح 17
من سفر التكوين نقرأ ما يلي: "وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس
في باب الخيمة وقت حرِّ النهار. فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال
واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض
وقال: يا سيِّدُ، إن كنتُ وجدتُ نعمةً في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ
قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذُ كسرة خبز فتسندون
قلوبكم ثم تجتازون. فقالوا هكذا نفعل كما تكلَّمتَ." (التكوين 18:
1-5).
ترى التفسيرات
الشائعة لهذه القصة أن الثلاثة الذين ظهروا لإبراهيم هم يهوه واثنان من
ملائكته. ولكن القراءة المدققة للمقطع أعلاه ولبقية القصة تُظهر أن
يهوه نفسه قد تجلى لإبراهيم على هيئة ثلاثة رجال. فالنص يبتدئ بالقول:
"وظهر له الرب عند بلوطات ممرا... فرفع عينيه وإذا ثلاثة رجال واقفون
لديه." وهذا يعني أن الرب والرجال الثلاثة هم شخصية واحدة. بعد ذلك
يخاطب إبراهيم الرب بصيغة المفرد ثم ينتقل مباشرة إلى صيغة الجمع:
"وقال: يا سيِّدُ، إن كنتُ قد وجدتُ نعمةً في عينيك فلا تتجاوز عبدك.
ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة". وهذا الانتقال من
صيغة المفرد إلى صيغة الجمع أو العكس، نجده في عدد من المواضع الأخرى
مثل قول كاتب النص: "وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في
الخيمة. فقال (أي الرب) إني أرجع إليك... الخ". ولنتابع فيما يلي بقية
القصة:
فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلاتٍ دقيقًا
سميذًا، اعجني واصنعي خبز مَلَّةٍ. ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ
عجلاً رخصًا وجيِّدًا وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله. ثم أخذ زبدًا ولبنًا
والعجل الذي عُمل ووضعهم قدامهم، وإذ كان واقفًا لديهم تحت الشجرة
أكلوا، وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة. فقال: إني
أرجع إليك نحو زمن الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن. (التكوين 18: 6-10).
عندما سمعت سارة من
وراء الخباء هذا الوعد بالإنجاب استخفَّت به. فلقد تجاوزت منذ زمن بعيد
سِنَّ الإنجاب وزوجها قارب سِنَّ المئة من عمره، كما أن الرب قد بذل
مثل هذه الوعود سابقًا ثم لم يفِ بها. وكان رد فعلها هذه المرة هو
الضحك مما سمعت. وهنا تحدث مشادة كلامية بينها وبين الرب:
وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه. وكان إبراهيم وسارة
متقدمين في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كما النساء. فضحكت
سارة في باطنها قائلة: أَبَعْدَ فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ؟ فقال
الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أَبالحقيقة أَلِدُ وأنا قد شخت؟
هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليكَ نحو زمن الحياة ويكون
لسارة ابن. فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك. فقال: لا بل ضحكتِ. ثم قام
الرجال من هناك وتطلعوا نحو سَدّوم، وكان إبراهيم ماشيًا معهم ليشيعهم.
(التكوين 18: 10-16).
تبدي هذه الزيارة
الإلهية في القصة التوراتية شبهًا واضحًا بقصة زيارة إلهية في ملحمة
أقهات الأوغاريتية، قام بها إله الصناعة والحِرَف كوثر – حاسيس للحاكم
والقاضي المحبوب دانيال (دان – إيل). فقد كان دانيال حاكمًا صالحًا
وقاضيًا عادلاً يقضي للناس عند البيدر بالقرب من بوابة المدينة. ولكنه
كان عاقرًا وكان يتضرع للآلهة في المعبد ويقدم لها القرابين علَّها
تهبه ابنًا يرثه. ثم إن الإله بعل أشفق عليه ووعده بالتوسُّط لدى كبير
الآلهة إيل ليزيل عنه لعنة العقم، ثم توجَّه إلى مقر إيل وبسط القضية
أمامه:
ليس له ابن كما لإخوته، ولا وريث كأولاد عمومته. لقد قدم ذبيحة
لطعام الآلهة وماء قربان لهم ليشربوا. لتباركنَّه يا أبي، لتقوِّينَّه
يا خالق الخلائق، فيكون له ابن في بيته وذرية في وسط قصره.
استجاب إيل لالتماس
بعل وبارك دانيال:
عندما يُقبِّل زوجته سوف تصبح حاملاً، وعندما يعانقها سوف تلد، وسوف
يجد في بيته ابنًا وذرية في وسط قصره.
بعد ذلك يلد لدانيال
ابن دعاه أقهات كبر وصار فتى يافعًا مولعًا بالصيد، وبينما دانيال في
أحد الأيام يقضي عند البوابة، رأى عن بعد الإله كوثر – حاسيس قادمًا من
موطنه في مصر وبيده قوسًا وعلى كتفه جعبة نبال. فنادى زوجته قائلاً:
أيتها السيدة دانتيه، أعدِّي خروفًا من القطيع لإكرام كوثر – حاسيس،
وتجهزي لإطعام الآلهة. استجابت دانتيه وأولمت للإله الضيف فأكل وشرب
على مائدة دانيال. وعندما همَّ بالمغادرة أعطى القوس العجيب الصنعة
الذي يحمله إلى دانيال هدية لابنه أقهات. وعندما توارى عن الأنظار قام
دانيال بإعطاء القوس إلى أقهات قائلاً: إن بواكير صيدك يا بني ستكون
قربانًا في المعبد.
وكما نلاحظ فإن
القصتين تشتركان في جميع عناصرهما تقريبًا، والفارق بينهما هو أن الوعد
الإلهي بالإنجاب وتحقيق هذا الوعد يتمان في القصة الأوغاريتية قبل
الزيارة، على ما تظهره المقارنة التالية:
-
دانيال جالس عند بوابة المدينة ليقضي للناس.
-
دانيال يرفع بصره ويرى كوثر – حاسيس عن بُعد وعلى كتفه قوس
وجعبة.
-
دانيال ينادي زوجته دانتيه ويطلب منها أن تجهَّز خروفًا من
القطيع، ثم يستقبل الضيف عند وصوله ويستلم منه القوس.
-
دانتيه تعد الحمل وتولم للإله وتقدم له الشراب.
-
يفرغ كوثر – حاسيس من الطعام ويتابع رحلته. ودانيال يعطي
القوس لأقهات ويأخذ عليه عهدًا بأن يقدم بواكير صيده
للمعبد. |
-
إبراهيم جالس عند باب خيمته عند الظهيرة قرب مدينة حبرون.
-
إبراهيم يرفع بصره وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. ويعرف أنه
في حضره الرب.
-
إبراهيم يعرض ضيافته على القادمين، ثم يطلب من زوجته أن
تعد خبزًا، ومن غلامه أن يذبح عجلاً ويجهزه للطبخ.
-
سارة تُعد العجل وتولم للرب الذي يأكل تحت الشجرة وإبراهيم
واقف لديه.
-
بعد أن يفرغ الرب من الطعام يعطي وعدًا لإبراهيم بولادة
وريث له. |
ولنتابع الآن بقية
قصة الزيارة الإلهية في سفر التكوين. فبعد أن فرغ الرب من الطعام قام
ليتابع طريقة نحو مدينة سدوم الخاطئة، ومشى معه إبراهيم ليشيعه. وأثناء
المسير أفضى الرب لإبراهيم بعزمه على تدمير مدينتي سدوم وعمورة لأن
خطيئتهم قد عَظُمت جدًا، فحاول إبراهيم ثنيه عن قراره هذا:
فتقدم إبراهيم وقال: أَفتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون
بارًا في المدينة، أَفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارًا
الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر، أن تميت البار مع الأثيم
فيكون البار كالأثيم. حاشا لك. أَديَّان الأرض لا يصنع عدلاً؟ فقال
الرب: إن وجدتُ في سدوم خمسين بارًا في المدينة فإني أصفح عن المكان
كله من أجلهم. فأجاب إبراهيم وقال: إني شرعت أكلِّم المولى وأنا تراب
ورماد. ربما نقص الخمسون بارًا خمسة، أَتهلك كل المدينة بالخمسة؟ فقال:
لا أهلك إن وجدتُ هناك خمسة وأربعين. (التكوين 18: 16-28)
ثم يتابع إبراهيم
مساومته مع الرب حتى يصل إلى الرقم عشرة:
فقال لا يسخط المولى فأتكلَّم هذه المرة فقط. عسى أن يكون هناك
عشرة. فقال: لا أُهلك من أجل العشرة. وذهب الرب عندما فرغ من الكلام مع
إبراهيم.
لا ندري ما إذا كان
يهوه قد تقصى عن وجود بارين في سدوم وعمورة قبل أن يشرع بتدميرهما،
لأننا بعد مغادرة يهوه لإبراهيم نجد الملاكين يدخلان إلى سدوم مساءً
وكان لوط (ابن أخي إبراهيم) جالسًا في باب المدينة. فلما رآهما دعاهما
إلى بيته لقضاء الليل وصنع لهما ضيافة. وقبل أن يأويا إلى مضجعهما جاء
رجال المدينة الذين اعتادوا ممارسة الشذوذ الجنسي، فأحاطوا بالبيت
وطلبوا من لوط أن يُخرج ضيفيه لهم ليعتدوا عليهما. فخرج لوط إليهم وعرض
عليهم أن يُخرج لهم ابنتيه العذراوتين بدل الضيفين، ولكنهم شتموه
وتقدموا ليكسروا الباب، فمد الملاكان أيديهما وأدخلا لوطًا ثم ضربا
الجمع الواقف كله بالعمى فلم يصلوا إلى الباب. ثم قالا له أن ينجو
بنفسه وأسرته وأقاربه لأنهم سوف يهلكون هذا المكان بأسرع وقت (التكوين
19: 1-11).
وفي الحقيقة، فإن
الملاكين هنا لم يكونا سوى يهوه نفسه أيضًا، وقد صار الآن موضوعًا
للتحرش الجنسي من قِبَل البشر. والقراءة المدققة لما تبقى من القصة
تظهر لنا ذلك، حيث نجد مؤلف السفر ينتقل من صيغة المثنى في الإشارة إلى
الملاكين إلى صيغة المفرد وبالعكس، ويجعل يهوه والملاكين يتبادلان
الأدوار، وقد أشرنا إلى مواضع هذا الانتقال بالحرف المائل ليسهل على
القارئ ملاحظتها:
وقال الرجلان للوط: من لك هَهُنا أيضًا؟ أصهارك وبناتك وبنيك وكل من
لك في المدينة أَخرج من المكان لأننا مهلكان هذا المكان... ولما طلع
الفجر كان الملاكان يعجلان لوطًا... وكان لما أخرجاهم إلى خارج
أنه قال اهرب بحياتك ولا تنظر إلى ورائك اهربْ إلى الجبل لئلا
تهلك. فقال لهما لوط: لا يا سيد... هوذا المدينة هذه
قريبة للهرب إليها وهي صغيرة، أَهربُ إلى هناك. وإذا أشرقت الشمس على
الأرض دخل لوط إلى صوغر، فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من
عند الرب من السماء، وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن
ونبات الأرض. ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح. (التكوين 19:
12-26).
*** *** ***