اللمسة الإلهية
الفاهم محمد
إن
التطورات التكنولوجية والعلمية اليوم هائلة في إدراك طبيعة الكون
وماهية الحياة وجوهر المادة، لا شيء يضاهي ما تعد به فيزياء الكوانتوم
والنانوتكنولوجي والهندسة الجينية وغيرها من العلوم الجديدة، ليس فقط
في التحكم في المادة والحياة، ولكن أيضًا في الإمساك أخيرًا بجلال
الحقيقة النهائية للإنسان والوجود. لقد بلغ حماس البعض درجة اعتقد فيها
أن مسألة الإله قد دفنت وانتهت إلى الأبد. كتب ريتشارد دوكينز في هذا
السياق كتابه الشهير وهم الإله[1]
معتقدًا أن الإنسان في مثل هذه المرحلة من التطور العلمي والحضاري لا
حاجة له إلى الإيمان بهذا المفهوم القروسطوي للإله المخلص. بل إن
حماسته ذهبت به إلى درجة الترويج لحملة دعائية فوق جدران الحافلات في
بريطانيا حيث كتبت العبارة الآتية: "لا يوجد إله لذلك لا تقلق واستمتع
بحياتك".
لا أحد يمكن أن يجادل اليوم أن الحياة الروحية تنسحب من حياتنا
الاجتماعية سواء بسبب الانغماس في الثقافة الحسية الاستهلاكية، أو بسبب
الضربات التي وجهتها العلوم مما حدا بجون لينكس إلى أن يتساءل: هل
دفن العلم الله؟ كما يحمل عنوان كتابه.
لقد عرف التاريخ سابقًا مثل هذه النظرة اللاربوبية من العلم اتجاه
الطبيعة، فمجمل التخوفات التي رافقت علوم عصر النهضة كانت ناتجة عن هذا
الموقف: الخوف من أن يحتل إنجيل العلم إنجيل المسيح.
ولكن مع ذلك فهذا الصراع بين العلم والدين يمكن أن نقول إنه بات صراعًا
تقليديًا، حتى وإن كان البعض مازال يتشبث به مصرًا على أن العلم لا في
مضمونه ولا في نشاطه وغاياته يتعارض حتمًا مع الدين. والحال أن
الميكانيكا الكوانتية التي هي عبارة عن فيزياء طليعية تفرض علينا اليوم
طرح موضوع الإيمان ووجود الله بلغة مغايرة، فنحن لا يمكن أن نقول عن
الإلكترون أنه موجود أو غير موجود بالمعنى التقليدي لكلمة موجود، كما
أن تجارب النقل الفوري والحجب عن الرؤية
Téléportation
واللاانفصال
La non séparabilité
وغيرها من العلاقات والتجارب الغامضة والغريبة التي ميزت فيزياء الكم،
كلها تدفعنا إلى ضرورة تطوير وعي جديد بقضايا الوجود الكلاسيكية.
وعلى أية حال هناك الكثير من القضايا التي مازال العلم غير قادر على
إيجاد حل لها لنذكر على سبيل المثال نظرية الانفجار الأعظم، فحتى في
شكلها المعياري المقبول من طرف أغلب العلماء، لا تستطيع هذه النظرية أن
تقدم تفسيرًا لنشوء الكون من اللحظة صفر، بل إن حساباتنا الرياضية
تتوقف فيما يسمى بجدار ماكس بلانك 43ـ10 فالعلم لا يمكننا من تفسير ما
يوجد وراء هذا الجدار.
تم هناك النقطة المتعلقة بنقيض المادة
Anti Matière
إذ من الثابت فيزيائيًا اليوم أن الكون في بداية الانفجار كان متعادلاً
بين المادة ونقيضها، أي بقدر ما هناك من مادة هناك أيضًا نقيض المادة،
ونقيض المادة هذا هو مادة معكوسة بحيث كل جسيم له جسيم مكافئ له في
الكتلة ومضاد له في الشحنة، وهكذا إذا التقت المادة مع نقيضها يحدث
انفجار لا تتبقى منه سوى طاقة غاما الصادرة عنه. بمعنى آخر كان من
المنتظر أن يفني الكون بعضه بعضًا، وأن لا يكون هناك وجود البتة، فماذا
حدث حتى نشأ الكون الذي نعيش فيه اليوم ونرصده. تقول الفيزياء النظرية
مجيبة على هذا الإشكال إنه ظهر بشكل مفاجئ وغير قابل للتفسير، جزيء
واحد إضافي مقابل كل مليار زوج من المادة ونقيضها، من أين جاء هذا
الجزيء الذي أدى إلى نشوء الكون. هذا السؤال أيضًا لا تجيبنا عنه أية
نظرية علمية بما فيها نظرية الانفجار الأعظم.
هذه اللحظة الغامضة نفسها ستتكرر مرة أخرى ولكن هذه المرة على الأرض،
فبعد ظهور الحياة الأولى من خلال التفاعلات الكيميائية التي حدثت
بالقرب من المنافس الحرمائية التي كانت تنفث العناصر الأساسية للحياة،
مثل الهيدروجين والكربون والأمونيا وغيرها ظهرت الكائنات وحيدة الخلية
التي عمرت فوق الأرض لآلاف السنين، ولكن خلال ما يعرف بالعصر الكمبري
سيحدث تغير فجائي، انفجار أعظم ولكن على المستوى البيولوجي. لقد انتقلت
هذه الكائنات كي تصبح كائنات متعددة الخلايا، كائنات معقدة تتكاثر عن
طريق التوالد بعد أن كانت تفعل ذلك عن طريق الانقسام الخلوي. هذه
القفزة نحو الكائنات المركبة والمعقدة لم يستطع العلم بعد أن يجد لها
تفسيرًا. ما الذي أدى إلى مثل هذا التطور المفاجئ؟ إنها إحدى ألغاز
ظهور الحياة فوق الأرض.
ولننتقل الآن إلى ظهور الإنسان ذاته. إن انفصاله أيضًا عن منتصبي
القامة
Les Bipèdes
وعن أشباه البشر
Les Hominides
وظهوره ككائن عاقل أوموسابيانس، أي كذات عاقلة مفكرة وواعية لذاتها
مازال يكتنفه الكثير من الغموض، فحتى نظرية داروين لم تستطع أن تملأ
هذه الثغرة سوى بافتراض الحلقة المفقودة الشهيرة والتي لم يتم العثور
عليها حتى الآن.
كيف خرج الأموسابيانس من أسلافه البعيدين، تلك أحجية مازلنا نبحث عن حل
لها. أغلبية الباحثين يشكون عما إذا كانت هاتان النظريتان: الانفجار
الأعظم ونظرية التطور قد قدمتا لنا بالفعل إجابة مقنعة حول أصل الكون
والإنسان، أم أنهما معًا وفي أحسن الأحوال تقدمان لنا وصفًا عن كيفية
تطور الكون والإنسان من نقطة افتراضية معينة في الزمان، أما مسألة
الأصل فهي تظل خارج نطاق تفكيرهما. ثم إن العلم لا يهتم بطرح السؤال
الأساسي الذي سبق أن صاغه ليبنتز واستعاده هيدغر فيما بعد وهو: لماذا
أصلاً هناك وجود وليس بالأحرى عدم؟
من حقنا إذن أن نتساءل ما الذي يحدث خلال هذه اللحظات الخارقة من تاريخ
الوجود؟ هل يتعلق الأمر بلمسة إلهية، هل يتدخل الله حتى يعطي الدفعات
اللازمة كي يستمر الوجود في البقاء، تلك هي رمزية الجدار الشهير المضيء
الذي يوجد في فيلم استانلي كوبريك أوديسة الفضاء، والذي بمجرد
ظهوره هكذا بشكل غامض تتطور الأحداث نحو وجهة أخرى. كذلك رمزية يد
الخالق الممدودة نحو الإنسان في لوحة خلق آدم لمايكل آنجلو.
وكيفما كان الحال، سواء كان المرء مؤمنًا أو ملحدًا، سواء تعلَّق الأمر
بمعجزة إلهية أو بحدث غامض لم يستطع العلم بعد أن يفك ألغازه، فنحن
جميعًا مؤمنين ولا ربوبيين علينا أن نأمل في تكرار هذا الحدث الجليل في
المستقبل لأن حساباتنا الفلكية كما أظهر إدوين هابل تبين أن الكون في
اتساع مستمر، وأن المجرات تبتعد في تسارع مطرد مبتعدة عن بعضها في
الفضاء الفسيح، بمعنى أن الكون بكل ما يحتويه من مادة يتجه نحو
البرودة، وأنه إذا ما استمرت المجرات في تسارعها هذا فإن كل حياة ممكنة
ستنتهي في الملايين من السنين القادمة نحو التجمد. في مثل هذه اللحظة
التي هي نهاية النهايات كلها، والتي لن ينفع معها أي تقدم علمي أو
تكنولوجي هل يمكن للإنسان أن يواجه العدم دون سلوى من هذه اللمسة
القدسية الجليلة؟
*** *** ***