ديوان "الأيام
ليست لنودِّعها" لعبده وازن: كالزمن الذي يمشي بوجوه كثيرة
بول شاوول
ديوان
الشاعر عبده وازن الجديد الأيام ليست لنودِّعها (عن دار الجمل،
بيروت)، عمل مميز، ويكون من أفضل ما نُشر في الأيام الأخيرة. إنه نضج
التجارب ونضارتها في آن واحد، اختار الحالات الداخلية، والتقاط
المشهدية، أو اللقطة، أو سينوغرافيا ذات الدور المجازي المكمل، تكون
كلها نسيج هذا الكتاب الشعري، «المنحوت» كمن ينحت الهواء، أو المشغول
كمن يحفر في الحرير. ونظن أن عبده وازن، استفاد من كل كتاباته وثقافته
وأحواله وقلقه، ولغته، ليكون لهذه التعددية في القصائد، ما يجمعها على
غير قسر، أو على غير افتعال، لكن بشغل دؤوب على التفاصيل اللغوية،
والتمازج الكيميائي، والصورة المتحركة (لا الجامدة)، واللوحة المشعة،
بمعنى آخر اختار وازن الطريق الصعب في الشعر. الطريق الذي يؤدي إلى خلق
مناخ ايحائي، "خيالي"، مفتوح. الصورة مفتوحة على لا نهائياتها، واللقطة
المكثفة تكتنز أسرارها الحية، والسردية القصصية ولتكون مضادة للسردية
العادية. ففي السردية بالسردية (كما بورغيس)، أي تحويلها قصيدة.
السردية هنا صورة على أقل درجة من الخبر، أو اللقاء الشفوي أو الكتابي؛
إنما جزء أساس في اللعبة الشعرية. ونظن أن كتاب عبده وازن "المتعدد"
الدواخل، والإشارات، السردي الملغى لينضم عنصرًا شعريًا، واللقطة
المقتصدة المكثفة لتنضم إلى حاسة التعبير المجوهرة، والمشهدية لترسم
معالم غير مرتبطة بمعطاها. إنها المغامرة الصعبة، التي لا يجيدها سوى
المتمكنين من أحوالهم، ولغتهم، والقادرين على إعطاء النص حجمه غير
المكتوب، أو غير المقول، أو حتى غير المرئي، إلى ما هو وراء التعبير.
لقطة لتشرع نوافذ عدة. صورة لتنفي مكوناتها "الواقعية" إلى فنيتها،
إحساس ليختزن مغاليق الداخل، رهافة لتجرح ماء الكلمة، شفافية لتكسر
المرايا العادية. المرآة في ما وراءها، لا في ما أمامها.
والوجوه في المرايا الشافة أكثر من وجوه. والعيون في المرايا ترى أكثر
في انفلاتها إلى أبعد منها. وهذا كله يجعل من الصورة إحساسًا "مجهولاً"
ومن الرائحة "حديقة غريبة"، ومن الهمس صوتًا عابرًا إلى كل أنحاء
الجسم. ومن سور الصمت الذي يرشح من الكلام رماد المعنى الكامن، الذي
ينهض بألوانه، ومشتقاته، وصراخه، ووجعه أحيانًا. لعبة الصمت والصمت
تساوي لعبة الاعتكار الداخلي الذي يعاند الخروج بهشيمه المتناثر. هنا
بالذات يمكن فهم أو إحساس "الطقوس" الخلفية، والأشياء الكواليسية،
والكوامن الخصوصية، الخجلة أو المستنفرة، في براءاتها الأولى أو في
"انبعاثها" الجديد. كأن كل قصيدة عنده مخاض. أو معاناة، أو عبء. أو جبل
يذوب. أو نهر يستنفر ماءَه. والجميل، أن عبده وازن عرف، وبحدس متوارٍ
أمام الصَّوغ، كيف يمشي إلى الأشياء على رؤوس أنفاسه، كأنما "ليودعها"
ولكن لتحمل معه الرحلة، واللون، والجلد، والحالة، والعزلة، والموت،
والحنين. فالأيام ليست لنودعها هو ما يجعل الشعر في وداع دائمًا مع
الشاعر، أي في غربة دائمة أو في خوف مديد. وديوان عبده وازن بامتياز
ديوان الوداع، بمعنى افراغ الداخل من نوافله الهشة، والحالات من
سديمياتها المتنافرة، والقمة العميقة من موادها الأولى، لتلتقي
"مصيرًا" جديدًا، أو حياة جديدة، تحت شمس القصيدة. إنه المستنبش بلا
يدين، والواجد بلا احتضان، والمكتشف بلا توقف. أي كأنه في طلب
"الكائن"، الكائن "المتجلي" من وراء نثاره. فالقصيدة نثار بقدر ما
تتخلى عن مواصفات بداياتها وحتى ولاداتها، تكبر أو تنتشر أو تتشكل، أو
تتفانى، بقدر ما تقع على جذورها الجديدة، تربتها الأخرى، قيامتها
المختلفة. إنها الرحلة بين اللاتشكل وبين الجسد، بين الجسد وحواسه، بين
حواسه ونوازعها، بين نوازعه وبين تجسيدها. رحلة غامضة طبعًا، وفي
غموضها ملمحها.
الرحلة من خلاء اليدين إلى فيض العناصر. وهل القصيدة سوى ملء العناصر
بالعناصر، والأسرار بالأسرار، واللغات باللغة، والصمت بفضاءاته؟ هكذا
تحس وأنت تقرأ قصائد عبده وازن. خروج دائم يقابله دخول مستتر. لكن غير
مرتد، وغير عسير. بخفة الدمعة أحيانًا، وبثقل الماء. أوليس هذا ما نقرأ
في النائمة؟
هذه الرثائية طويلة الأنفاس، مديدة الحزن، مستحيلة البلوغ. ونظن أن
وازن في هذه القصيدة يدخل إلى نوع من الغنائية العميقة، تختلف جذريًا
عن "الغنائيات" السائدة، الأفقية، السهلة؛ كأنها احتفالية غنائية
بالموت الجاحد. وبالفتاة النائمة. لقد أحببت كثيرًا هذه الغنائية
الداخلية (على غير رومانسية الرثاء المعروفة)، كأنها أسئلة قاسية من
حنانها، عصية من هشاشتها. لعبة الموت والحياة لا يمكن أن تعبر بلا
أسئلة. لكن الأسئلة هنا تجوب شروط الكائن كلها. أحوال الفقد كله. أحوال
الفراغ الذي يخلفه الغياب. وأي طعن أمضى من طعن الغياب. وعبده خبره
طويلاً في غياب شقيقته منذ سنوات. كأنه في "دمعه" العالي الذارف فوق
وجه النائمة، يستحضر حكر الذين غابوا "كل الذين سقطوا من القطار"
باكرًا. حشاشة القلب، وهل أخصب منها، عندما تمس أهل القُربى، والأشياء.
رحيل بين قوافل الراحلين؛ لا! رحيل في كل الراحلين. لا سيما ونحن نعيش
زمن الموت منذ زمان. لكن على الرغم من تكدسه وامتلائه ورعبه، لم يكن
لنا ولعبده أن نعتاده. قصيدته الرثائية رفض تعود الموت، وإن في داخلنا،
أو حولنا. ولهذا، فالقصيدة أكثر من ذكرى عبرت طويلاً، وأكثر من "متخيل"
للراحلة، انه استبصار عاطفي وإنساني وجسدي اي استقصاء الداخل لما تركته
الراحلة في الأعماق، وبقي فيه. الموتى لا يرحلون. ولا يصمُّون دائمًا.
ولا يتركوننا في غربتهم المجهولة. إنهم، يحاوروننا، ونحاورهم، يذكروننا
ونذكرهم؛ حتى هنا محاولة عبده وازن، بلغة شفيفة مائية وجارحة، إلغاء
المسافة بين الموت والحياة بين العدم والكائن، بين الغياب والحضور:
آثارهم فينا وهي كثيرة، وأكثر آثارنا فيهم. في كل منها أموات بقدر ما
في كل منا أحياء.
في هذه القصيدة الطويلة نسبيًا بالنسبة إلى قصائد الكتاب اختزن وازن كل
الراحلين. كأن دمعة واحدة أحيانًا تسيل عليهم جميعًا.
الذكرى غبار، وأكثر: غبار منقطع غير موصول، كمنامات الليل. شذرات مسننة
هنا، وليِّنة هناك. شقوق في أخاديد الذاكرة. ونظن أن عبده وازن وضع
نصًا شعرياً موصولاً كرد على هذا التشذر في التاريخ، والجغرافيا،
والميتافيزيقيا، والتقطع، والتمزق في صفحة الذاكرة. كأنها الشعر وحده
يحول الشذرة إلى وجه، وإلى جسد. وإلى زمن. (التشذر هو اللازمن). والى
مسافة مرصوفة ميسرة، والى "حكاية" متواصلة، أوليس هذا ما فعله على
امتداد الكتاب، في شذراته، وفراغاته، وبياضه، وصمته، وقصصه وبجديد
قاموسه؟ أوليست هي البنية التي تجمع "أطراف" أوزيريس في قاع البحر؟ أو
تعيد اللمام إلى هيكله الخاص، والمجوهر باللغة، والايماء، والالتماع،
والقصة غير المروية، والمشهدية المليئة من تفككها؟
أوليس هذا ما يجعل المتفرق، أو المعزول، أو الخاص، أو المعتم، حالة
انقشاع ملتبس؟ الوصفة عند وازن كالبرق تضيء وتختفي. لأنها كالإيماءة.
الإيماءة أحيانًا تمام الكلام في نقصانها، اكتشاف الزمن في لبوسه. وهذا
بالذات ما فعله: في قصيدة النائمة مقاطع يفصلها بياض. لكن هذا البياض
يملأ تلك المسألة أحيانًا بما ليس فيها، أو بما في أسرارها، ومجازاتها
لتكون واحدة في تفرقها. وهذا ما فعله في قصائده الأخرى، الواقعة بين
عدم العناوين وعدم "النهايات" أي بين عدمين. أو مجهولين. أو حالتين. أو
لعبتين. لكن العدم يوحد بحياة التي حملته قبل العناوين. وهو يوحي
سهوبًا متشابكة بعد القصيدة أو الالتماعة، أو اللقطة. شاعر "التشذير"
الحي عبده وازن، يعرف، بلغة مقتصدة، صافية، منزوعة الزوائد، والتفسير،
والشرح، والأخبار، والتقرير، كيف يحول المقطوعة إلى نشيد (مبتور)، أو
الجملة (بين بياضين أو عدمين) إلى جذر حي، بطرفيه.
وهنا يجب أن نفرق جيدًا بين "بياض" مالرمه المصدوم باللغة وبجدرانها،
وبين بياض نصوص الهايكو المائية بلا وصل، الهوائية بلا هبوب، وبين
"النينجا" المصدومة بتبعاتها. علينا أن نفرق بين سردية بورغيس
الدهليزية، التواهة الغرائبية المجردة، وبين نصوص عبده وازن، جامع
الاختلافات لكي تلتئم عبر اكتسابها حياة محسوسة.
ولكن بحساسيات غريبة بألفتها، أليفة بغربتها. من هنا نقول إن ما كتبه
وازن في ديوانه أعمق من تجربة لغوية ثقافية (كما نجد عند معظم شعراء
الستينيات والسبعينيات)، ينشد إلى لعبة داخلية ملطخة بالتجاذب الحية،
والتناقضات - تناقض عناصر الصورة ليست مجرد تجربة ذهنية كما عند
المستقبليين والدادائيين والسورياليين، بل تأتي من تناقضات الذات
المتحركة إلى خارجها، إلى ذواتها العديدة المجهولة.
وهنا لا أفاضل بين شعر وشعر، بقدر ما أحاول تمييز طبيعية التجربة عند
عبده وازن، الذي وبحركات سائبة أحيانًا، يُحفر في تناقضاته، وتنافراته،
التي هي من أشكال القلق، والخصوصية الوجودية الأُونتولوجية.
جديد عبده وازن جديدٌ فعلاً، لا يستذكر بقدر ما يستنبش. ولا يلعب بقدر
ما يبحث. ولا يحلم بقدر ما لا يعثر على شيء. إنه ديوان المشتقات
الروحية، والنفسية، والجسدية، والشعورية والوجودية، غرونيه الشاعر كيف
يصل إلى أشكاله ولا يصل. كيف يعثر على أسراره ليضيعها بل كيف يُحقق
تغييرًا في المسار، لكيلا يصل إلى مصير. مصائر قصائده الجديدة بلا
مصائر. كالزمن الذي يمشي بوجهات كثيرة، مقلوبة أحيانًا، ودائرية،
وورائية، وأمامية... لكيلا يصل إلى أي زمن.
من هنا نقول إن قصائد عبده وازن زمنية، زمنية بقدر ما هي لازمنية.
***
مختارات
هايكو
ليس الخريف خريفًا
الربيع أقل من ربيع
الشتاء لم يأتِ بغيمة
الصيف خافت مثل قبَّرة.
كان على الفصول أن تكتمل
ليكتبَ الشاعر قصيدةً
كانت تنقص شجرة تخضرُّ أوراقها
كانت تنقص سنابل قمح وجنادب
شمس يصيبها شحوب
سماء تدلهمُّ في العاصفة.
ظل الشاعر حائرًا
القصيدة فاتته بفصولها الأربعة.
*
مرثيَّة
الأبواب أُغلقت
أجراسها لا تقرع
قد لا تسمع عواء كلب
ولا وجيب نار في مدفأة
قد لا ترى وجهًا يلمع خلف زجاج.
ليس دم الشمس
ما تبصره يتساقط
السماء بيضاء
الغزلان تسرح في الأزقة
العتبات تئن تحت وقع المطر
البرد يكلِّم الأشجار بصوت خافت
على التلال ينسج القمر مرثية
ليس هو الظلام ما ينسكب على التماثيل
الليل متجمِّد كصمغ شجرة
الدروب ممحوَّة
الأرصفة تغادر
السطوح تستسلم لنوم بلا نجمة.
*
حبور
السماء بزرقتها تتصاعد من عيوننا. إنها أرضنا التي نطأها للمرة الأولى.
الغيوب تهب في الأقاصي والشمس معلَّقة مثل ساعة حائط، عقاربها يمكننا
أن نحرِّكها بنظرة. النجوم آبت إلى نومها الأزلي، أشعتها تجمَّدت مثل
مرآة لا صفحة لها. إنها السماء تغرب في أقصى روحنا الساهرة، في صميم
يقظتنا التي لا تُرى. سماء من غمام لا تخوم لها، زرقتها تتناثر ملء
خواء بياضها.
بعد الآن لن ننظر إلى قمر يلتمع مثل برتقالة. السماء أصبحت هاويتنا
التي فيها نحلِّق بحبور ما ورائي.
*
عينان
نجمتان ساهرتان
في وضح النهار
عيناك
إذا أدمعتا
سقط شعاع من فضة
إذا ارتعشت جفونهما
شاعت حمرة في الهواء
إذا عبر سماءهما سربُ يمام
مالت ظلال في غابة.
*
نجمتان ساهرتان
في عزِّ الظهيرة
عيناك
إذا أغمضتهما
سقطت نجمة من نومها
إذا فتحتهما
أشرق ليل في وهدتهما.
*
خريطة
الطيور المهاجرة في الخريف
ترسم في السماء خريطة
لبلاد تحملها معها
لكنها كلما نظرت إليها
امّحت خطوطها في الهواء.
إنها البلاد التي لا تمكث
سوى لحظات
الطيور وحدها تبصرها
أجنحتها وحدها تحملها
إلى أقاصي الزرقة.
الطيور المهاجرة في الخريف
ترسم خريطة لبلاد
هي السماء نفسها.
*
بعد قليل
الساهرة
لا تغلق نافذتها
مهما لفح ضوء القمر يديها
إنها تنظر
إنها تنتظر
الكتاب ملقى في حضنها
الليلة قرأت قصيدة عن النجوم
ونظرت إلى السماء
نظرت أبعد من السماء.
بعد قليل يغافلها النوم
بعد قليل تحلم
أنها تقرأ قصيدة عن النجوم.
النافذة لا تغلقها
مهما سال من ذهب
على صدرها.
*
إثنان
امرأة واقعية
بعينين حالمتين
رجل رومنطيقي
بنظرة جارحة
امرأة بظلِّ رجل
رجل بظلِّ امرأة
أيديهما تتشابك كأصص ورد
جسداهما يغيبان في صورة.
امرأة واقعية
لا تكفُّ عن السقوط
في حلم رجل رومنطيقي
يسقط في حلم امرأة واقعية.
رجل وامرأة
يسقطان في لجَّة عيونهما
عندما يغمضانها
عندما يفتحانها.
*** *** ***
المستقبل