في أصول العبادة والمعتقدات
سمير عنحوري
لم
يكن مفهوما الخير والشر متواجِدَين في فكر الإنسان الأول، والعصور
البدائية من تاريخ البشرية، مثلما هما موجودان الآن في الديانات
التوحيدية، إذ لم يكن ممكِنًا الرجوع إلى العقل والضمير آنذاك حيث لا
مكان إلا لغريزة البقاء. وكانت المجتمعات الأولى في حركة دائمة بحثًا
عن الطعام، إلى أماكن آمنة نسبيًا للعيش كالمغارات والكهوف لتجنُّب
المخاطر المحدقة بهم من ظواهر طبيعية خطيرة وحيوانات فتَّاكَة.
لقد نما هذا المفهوم أكثر عند بعض المجموعات البشرية عندما انتقل
الإنسان من مرحلة التنقل وممارسة الصيد إلى مرحلة الاستقرار وحراثة
الأرض وزراعتها، فأفرزت كل جماعة منها ساحرًا أو شامانًا ادَّعَى
المعرفة وتفسير أسرار الكون والطبيعة، وفرض عليها القيام بطقوس خاصة
وجماعية مع تقديم ذبائح للقوى فوق البشرية التي تقوم بتسيير العالم
ملتمسًا منها سلامة الأفراد والمحاصيل التي لا يمكن أن تتوفر لهم دون
رضاها.
تطورت الطقوس السحرية البدائية مع التطور الاجتماعي والفكري للمجتمعات،
وانتقلت إلى مفاهيم ومعتقدات دينية أكثر تعقيدًا تستجيب إلى حاجة
الإنسان الفطرية للعبادة. فتوجب صنع تماثيل حجرية تجسِّد آلهة القوى
فوق البشرية. وأقام لكل منها معابد وهياكل مقدسة أشرف عليها وقام
بخدمتها وإجراء طقوسها الدينية كهنة وكاهنات. وكانت هناك آلهة للشمس
والقمر والسماء والأرض والجبال والأشجار وكذلك آلهة الحياة والموت
والخير والشر.
تناقلت وتفرَّعَت هذه المعتقدات حتى عمَّت كل أنحاء العالم القديم، لكن
طقوسها وآلهتها اختلفت على اختلاف الشعوب والثقافات ودرجة تطورها
الفكري والثقافي، آخِذةً أحيانًا أبعادًا ميتافيزيقية تبحث في أسرار
الوجود والآخِرَة والخلود، فانتقلَت بذلك من مفهوم المعتقَد الضيق
culte
إلى مفهوم أوسع هو الدين
croyance/religion.
ندَرَ وجود نصوص مدوَّنَة للمعتقدات والديانات القديمة، التي تم
اكتشافها أو تم استنباطها عن طريق التنقيب
Archeologie
أو بواسطة علم أصول المجتمعات الإنسانية
Ethnographie.
وقد تم اكتشاف هام منذ حوالي نصف قرن لكهوف ومغارات في فرنسا وإسبانيا
زُيِّنَت جدرانُها وأسقفها الحجرية برسومات رائعة يعود تاريخها إلى
العصر الجليدي المتأخِّر أي منذ أكثَر من ثلاثين ألف عامًا، وتمثِّل
عدة أنواع من الحيوانات التي عرفها إنسان ذلك العصر، ومنها رسم الثور
الذي شكَّلَ رمزًا للعبادة عند كثير من شعوب العالَم القديم. ويعتبِر
بعض العلماء الباحثين أن هذه الرسوم تعبِّر بالنسبة للإنسان الذي رسمها
عن نوع ما من تخليدٍ للذات.
أما بالنسبة لما وصلنا من وثائق مدوَّنَة فإن ملحمة "جلجامش" وتاريخها
أكثَر من ألفي عام قبل الميلاد، تُعتبَر أقدَم عمل أدبي في تاريخ
الإنسان. وتسرد قصة نصف الإله "جلجامش" ملك أوروك في بلاد الرافِدَيْن،
وعلاقته مع الآلِهَة وخاصةً الإلهة "عشتار" بعد قتله "للثور
المُقدَّس"، ثم بحثِه الطويل والشائق عن "الحقيقية" في أسرار الموت
و"الأبدية".
الحقيقة والخلود هدَفَان جعَلَ الإنسان منهما منذ القِدَم محور
اهتماماته الفكرية وجوهر فلسفته الكونية والدينية. فسعى للوصول إليهما
بواسطة الضوابط الأخلاقية أولاً: شريعة حمورابي، وألواح موسى والوصايا
العَشَر، وتعاليم كونفوشيوس، وغيرها... ثم بواسطة الفلسفة وخاصة
اليونانية منها.
لكن هذه التيارات الفِكرية على أهميتها كانت تفتقد عاملاً جوهريًا
وأساسيًا كفيلاً بتصعيد الفكر الديني إلى مستوى الروحانيات وهو
"الإيمان"
Foi et
spiritualité
وهذا ما فعلته الديانات السماوية الثلاثة.
جاءت الديانات التوحيدية نتيجةً حتمية للتطور الفكري والديني في
الحضارات القديمة وخاصَّةً الشرق أوسطية منها. إن قصص الخليقة والطوفان
والحياة بعد الموت تواجدَت في هذه المعتقدات القديمة من يونانية
وزراداشتية وفارسية ومصرية، وشكَّلَت فكرة الإله الواحِد والخالِق
ركنًا أساسيًا في تعاليم زرادوسترا الفارسي وفيثاغورس اليوناني وفي
التجربة الفاشلة للفرعون أخناتون الذي أراد عبادة إله واحد هو الشمس
"آتون".
بقيَت الحضارات الآسيوية البعيدة كالصين والهند واليابان بعيدةً عن
الفكر التوحيدي الشرق أوسطي حيث ظهرت ثم انتشرت بسرعة الديانات
اليهودية والمسيحية والإسلامية، مما أدَّى إلى زوال المعتقدات
والديانات السابقة لها.
لم تحصَل حروبٌ أو اضطهاداتٌ دينية أو ندرت في تاريخ الحضارات القديمة
إذ كانت الأهداف التوسعية للسلطة الحاكِمَة مع كسب الغنائم والثروات من
أهم أسباب الحروب والنزاعات المسلَّحَة بين الشعوب. كما نلاحِظ بأن هذه
الشعوب غالِبَة كانت أم مغلوبَة تبنَّت أحيانًا نتيجةً للحروب أو
التبادلات التجارية فيما بينها بعض شعائر وديانات البلاد المجاوِرَة مع
تغييرٍ في بعض الأحيان في تسمِيَتِها أو صفاتِها. فامتزجَت الآلِهَة
الفرعونية المصرية والفارسية مع مثيلاتِها اليونانية والفينيقية وتمَّت
عِبادتُها على حدٍّ سواء. وكذلك فقد كانت الإمبراطورية الرومانية مثلاً
يُحتذَى به من حيث التسامح الديني، فقد أقامَت في معابدِها وخاصةً في
معبدِها الرئيسي في روما البانتيون
le
Panthéon
مجموعةً من التماثيل التي ترمز لآلِهَة وديانات البِلاد التي تقع تحت
سيطرتِها، كما تبنَّى الكثير من أفراد جيوشِها المتواجِدين في سورية
معتقَد وشعائر الإله "ميترا"
Mithra
الفارسي.
أما الديانات التوحيدية فقد أخذَت منذ نشأتِها منحىً آخَر في هذا
السياق. فقد قادَت العقيدَة الدينية اليهودية المتشدِّدَة منذ بدايتِها
إلى الصِّدَام المُسلَّح والعنيف مع الكنعانيين في فلسطين: أرض
"الميعاد" بالنسبة لليهود، وإقامَة دولة (مملكة) يهودية على هذه الأرض
ترتكِز على أساس مُعتقَد ديني هي بنظَري الأولَى من نوعِها في العالَم.
ثم قادَت العقيدة الإسلامية منذ نشأتِها إلى الحروب والفتوحات في سبيل
الجهاد ونشر العقيدة وبناء دولة تقوم على أسس دينية يحكِمُها أميرُ
المؤمنين.
أما الديانة المسيحية فقد نشأت وانتشرت لمدة أكثَر من ثلاثة قرون في
أجواء دينية وروحية بعيدة عن السياسة والرغبة في السلطة: "أعطِ لقيصَر
ما لقيصَر وما لله لله"، لكنها انحرفَت عن مسارِها الروحي هذا في القرن
الرابع بعد الميلاد عندما جعَلَ منها الإمبراطور الروماني تيودوس الدين
الرسمي للدولة. وبذلك دخل العالَم في دوَّامَةِ الحروب والاضطهادات
الدينية التي مات بسببِها مئات الألوف من الناس، وما زالَت تفتُكُ
وتحرِق بنيرانِها اللاهِبَة والهدَّامَة حتى الآن.
لكن الديانات السماوية رُغمَ ما تتمتَّعُ به من أبعادٍ روحية وإنسانية
كونية لم تُشبِعْ الرغبَةَ المُتأصِّلَة عندَ بعضِ الأفراد الذين سَعوا
إلى المعرِفَة والحقيقة بطرقٍ أخرى، فألَّفوا جمعيَّات لا بل مجتمعات
مارسَت طقوسًا خاصَّةً بها علَنيَّةً ظاهِرَة أو باطنية ومستَتَرَة،
ومن هذه التيارات التقمُّص ومناجاة الأرواح والتنويم المغناطيسي، بينما
جنَحَ جزءٌ آخَر إلى الممارسات الشامانية والسحرية وحتى إلى ممارسة
الشعوَذَة. بينما تميَّزَت جماعاتٌ أخرى بالفِكر الغنوصي
Gnosticisme،
وهي كلمة مشتقة من اليونانية
Gnôsis
أي "المعرِفَة"، وترتكِز على مبادئ الفلسفة الفيثاغورية والأفلاطونية
التي تداخَلَت مع الديانة المسيحية منذ نشأتِها عبر مدارس دينية
وفلسفية ازدهرَت قديمًا في الاسكندرية بمصر فأصبح لها أتباعٌ كثيرون
انحسرَت تيَّاراتُهم الفِكريّة عبرَ العصور تارةً، ثم ظهرَت بقوَّةٍ في
عصورٍ أخرى. وهذا التيار واسِعُ الانتشار في أوروبا خاصة منذ القرن
الثامن عشر وحتى الآن. كما ظهرت أيضًا في العصور الأولى للإسلام أفكار
فلسفية دينية منها "المعتزلة" و"الصوفية" وبقِيَت هذه الأخيرة
منتَشِرَة حتى الآن في تركيا وبلاد الشام وأفريقيا الشمالية، وفي
الديانة اليهودية تيار القباله
Kabbale.
أظهر العلماء الباحِثون في أمور الدين الارتباط والتشابه بين مختلَف
التقاليد الدينية بينما لاحظ علماء النفس بأن البحث عن جوهر المعرفة
يختلِف فقط عند الباحِثين عنها بالطرُق الكفيلة بإيصالِهم إليها. كما
يؤكِّدون كما فعل فلاسِفَةُ اليونان القُدَامَى بأنه لا يُمكِن
للديانات وحدها أن تؤدي إلى المعرفة والحقيقة، إذ إن ما يحصَل الآن في
العالَم المعاصِر يُبيِّن بأن أكثَرَ الناس براءةً يمكِنُه أن يقع في
شرك الإيمان اللاعقلاني وأن يستخدِمَ معتقداتِه الدينية لتُبَرِّر
الأعمال الأكثَر بربرية وتخريبية. لذا فعلى الإنسان برأيِهم أن يعمل
على "معرفة الذات" وأسرارها، أي أن مقولَةَ "اعرف نفسَك" قد تكون أكثَر
أهمية من جميع الأفكار الدينية المحرَّفَة المُقدَّمَة إليه.
وأخيرًا أود أن أختتِمَ بحثي ببعض السطور التي حرَّرَها الباحث
والفيلسوف البريطاني برتراند راسل
Bertrand Russel
(1872 – 1967):
عزَمْتُ في كل شيء أن أتبع العقل وليس الغرائز المتوارثة.
أودًّ شخصيًا أن يقودني عقلي بقدر الإمكان من أي عمل أقوم به.
هدفي الأسمى هو القيام بالعمل الذي يوَفِّر أكثر سعادةً ممكنة لأكبَرِ
عددٍ من الناس، لذا فعليَّ أن أبحث بواسطة العقل عن أفضَلِ الطُّرُق
التي تؤدِّي إلى هذا الهدَف. لكنه من العجب أن ألاحِظ الكمَّ الكبير من
الناس الذين يتجنَّبون اللجوء إلى العقل وينجرِفون في أعمالِهم إلى
غرائزِهم الحيوانية.
مونتريال
19 كانون الأول 2013
*** *** ***