النفس والآخر في فكر ابن عربي وجلال الدين الرومي
سليمان ديرين
ملخص
تناقش هذه المقالة النفس البشرية وعلاقتها مع نفس الله ومع الأنفس
البشرية الأخرى. لقد كانت هذه العلاقة محطَّ دراسةٍ في العديد من فروع
العلم، وليس ثمَّة نظرية محدَّدة عن طبيعة هذه العلاقة. ما الحدود بين
نفسي والآخر؟ كيف ينبغي أن تكون العلاقة مع الأنفس المختلفة؟ للصوفية
قدرةٌ كامنةٌ عظيمةٌ على إعطاء إجاباتٍ عن هذه المسألة التجريبية. لدى
ابن عربي وجلال الدين الرومي، من ثلَّة المتصوِّفين، أفكار يكمل بعضها
بعضًا. ويُعد عوني كونوك، الذي قام بشرح مثنويِّ ابن الرومي في عيون
ابن عربي، هو صلة الوصل بين هذين المتصوِّفين الجليلين.
تهدف هذه المقالة إلى دراسة العلاقة بين النفس والآخر. وتوضيح أن
النقاش في ماهية النفس وعلاقتها بالجسد لا يزال موضع جدل. لا يملك
العلم الحديث إجابةً محددةً حول طبيعة النفس، بيد أن النفس البشرية في
نظر علماء النفس الماديين عالم مصغَّر قطعًا. فهم يرون أن الجنس البشري
مجرَّد جزءٍ من النظام التطوري والكوني، وربما لا يعدو هذا الجنس كونه
ذرَّةً في عالمٍ فسيحٍ بلا حدود. لكن هذه الآراء بالنسبة لابن عربي
ولجلالِ الدين الرومي هي عكس الحالة الفعلية تمامًا، فالنفس البشرية
أساسًا عالمٌ مكبَّر. والحقيقة الجوهرية للنفس البشرية ليست تطوُّريةً
أو كونية، بل إنَّ هذه العوالم بذاتها صغيرةٌ بالمقارنة ما أورثه الله
تعالى في النفس البشرية[1].
لن تناقش هذه المقالة طبيعة النفس، بل جذورها الكونية المكبَّرة
والإلهية. ولذا ستجري دراسة النفس تحت هذا العنوان من منظورين اثنين:
أولاً نفس الله، وثانيًا نفس أيِّ شيءٍ غير الله (ما سواه). لقد أنتجت
العلاقة بين الله وبين الآخرين الكثير من المنظومات الفلسفية والدينية،
منها أسئلة من قبيل: "ما موقع الخلق الذي نراه بأعيننا بالعلاقة مع
الله وهل يوجد الخلق على نحوٍ منفصلِ عن الله؟ إن كانت الإجابة نعم،
إذًا كيف تترابط هاتان الكينونتان فيما بينهما؟ وإن كان ثمَّة كينونة
واحدة، إذًا كيف لنا أن نفسِّر عالم التعدُّد الذي نشعر به بحواسنا؟".
على الرغم من أن هذا الموضوع وثيق الصلة بموضوع وحدة الوجود إلا أنَّ
القصد من وراء هذه المقالة ليس مناقشة الوحدة بين الكينونات بل العلاقة
بين الأنفس. وفي هذا السياق، ستتمحور دراستنا على ابن عربي وجلال الدين
الرومي من منظور المعلِّق التركي الشهير عوني كونوك على كتاب الفصوص
لابن عربي وعلى ديوان المثنوي لجلال الدين الرومي. يقوم تعليق
كونوك على ديوان المثنوي والذي عنوانه شرح المثنوي الشريف
من منظور الطريقة الأكبرية ويشرح أبيات الرومي من خلال أفكار ابن عربي.
تبسِّط أبيات الرومي الوعظية بعض الجوانب الصعبة لفكر ابن عربي، ولذلك
من الهام قراءة هذين المؤلَّفين معًا والبحث في النقاط المشتركة بين
هذين المتصوّفين الكبيرين.
الفصل بين نفس الله (الذات الإلهية) والأنفس الأخرى
يعتقد متصوِّفو الطريقة الأكبرية بوجودِ وقتٍ لم يكن للإنسان فيهِ
هويةُ منفصلةٌ عن الله، بل كان موجودًا في علمِ الله تعالى، ويتصوَّرون
حتى أن هوية الإنسان المنفصلة اليوم عن الله ما هي إلا وهم. بهذا فإن
الصوفية، بوصفها حركةً، تهدف إلى اجتثاث الشعور بالانفصال عن الإله.
وإن المعنى الحرفي لكلمة "دين" مثيرٌ جدًا في هذا السياق:
تعود كلمة الدين في اللاتينية
religion
إلى كلمة
religere
التي تعني الوصل، أي إعادة الارتباط بـ"الأصل" الذي نمثِّل صورته، ويقع
على عاتق روحنا حتمًا إعادة ذلك الارتباط[2].
إنَّ هذا المعنى لكلمة دين ينسجم جدًا مع فهم ابن عربي والرومي.
رسم تخيلي لجلال الدين الرومي
يوجد تبعًا لابن عربي "كينونةٌ حقيقيةٌ واحدة" بالرغم من أنها
متجسِّدةٌ في أشكال كثيرة. هذه الكينونة الواحدة هي حقيقة كل الوجود
التي تظهر في عالم الأشكال. وإن الكينونة الواحدة ثمرة تجسُّد الله في
عديد المستويات. وبالرغم من تصنيف هذه المستويات إلى أسماءَ عديدة إلا
أن الطريقة الأكبرية تقرُّ بسبع حضرات. وفي الدرجة الرابعة لهذه
الحضرات تبدأ أنفس الخلق أو أرواحهم بالانسلاخ، ويدعى ذلك بالغيرية.
حيث تعلم كلُّ روحٍ في هذه الدرجة نفسها وأصلها وبارئها كلاً على حدة.
تشير الآية 172 من سورة الأعراف في قوله تعالى "ألستُ بربِّكم" إلى هذه
الدرجة، حيث تغدو الذات عندها متجسِّدةً مع الغيرية والتفرقة. ثمَّة
علاقة ما بين الروح والجسد دون الحلول والاتحاد[3].
بيد أن ابن عربي يحذِّرنا من أنَّ هذا القرب بين نفس الله والأنفس
الأخرى ينبغي ألا يقودنا إلى الاعتقاد بألوهية البشر. وهذا هامٌّ على
وجه الخصوص في حالة المسيحية. فالله يتجسَّد في كلِّ خلقه، ولذا فإنَّ
حصر تجسُّد الله في المسيح كفر. ثانيًا، وتبعًا لابن عربي، إنَّ فكرة
الحلول سخيفةٌ في منظومته كونه لا يوجد كينونةٌ حقيقيةٌ بعد كينونته
تعالى[4].
ولكي يشرح ابن عربي العلاقة بين نفس الله والكون دون السقوط في دوَّامة
الحلول يستخدم مجاز الهوَ واللاهو.
بقدر استقلالية ذات الله عن العالمين فالكون ليس هوَ، ولكن بقدر ما
ينتحل الله العلاقات مع العالمين من خلال بعض الصفات كالإبداع والكرم
فإنَّ الكون يجسِّد الهوَ. إذا ما بحثنا في أي شيءٍ في الكون فإنَّ
الله مستقلٌّ عن ذلك الشيء ومنزَّهٌ عنه... ولكن في الوقت ذاته يظهِرُ
كلُّ شيءٍ صفةً أو أكثرَ من صفات الله وبالتالي يجب أن يشبَّه بطريقةٍ
ما إلى الله. أقلُّ ما يمكن أن نقوله إن الشيءَ يوجد وإن الله يوجد،
ولو أنه ربما لا يوجد مجالٌ للمقارنة بين شكلي الوجود إلى حدٍّ بعيد[5].
يضيف تشيتيك أيضًا أننا لن نبلغَ فهمًا ملموسًا لنفس الله أي ذاته:
يعرف الله عبر العلاقات والنسب والارتباطات التي تنشأ بينه وبين الكون.
ولكن الذات مبهمة كونه لا شيءَ يرتبط بها. وغالبًا ما يستشهد الشيخ
إثباتًا لكلامه بالآية القرآنية الكريمة "ويحذركم الله نفسه" (آل عمران
28 ) ويفسرها كثيرًا من خلال الحديث النبوي "تفكروا في آلاء الله ولا
تتفكروا في الله"[6].
لقد لفتت العلاقة بين النفس الإلهية والآخرين اهتمام الكثير من
المفكرين المتصوفين العثمانيين. ومن بينهم إسماعيل حقي في جامعة بورصة،
الذي يصنِّف الدرجة الروحية للعالم تبعًا لنظرته إلى عالم التعدد:
-
الزمرة الأولى هم أولئك الذين ينسبون وجودًا حقيقيًا إلى ما سواه بشكلٍ
منفصلٍ عن الله. يوجد ما سواه في الواقع (ما هو حقيقي) وفي النسبة (ما
هو اعتباري). يقرُّ هؤلاء بكينونتين اثنتين. ويطلق البرصوي على هذه
الزمرة اسم العلماء المحجوبين. حيث يوجد عند هذه الدرجة بين نفس الله
وأنفس الآخرين حجابٌ سميك يفصل بعضهما عن بعض. ينتمي معظم البشر إلى
هذه الزمرة من الناس.
-
الزمرة الثانية هم أولئك الذين يرفضون وجود ما سواه في كل العلاقات في
الواقع والنسبة. حيث لا يمكن تمييز ما سواه بالمعنى الحقيقي ولا
بالعلاقة مع الله. يدعو البرصوي هذه الزمرة بالعارفين المكاشفين، أي
العارفين الذين يحظون بالكشف. حيث توجد في هذه الزمرة نفس الله فقط،
ونفس البشر وهمٌ محض.
-
تنكر الزمرة الثالثة وجود ما سواه بالمعنى الحقيقي، لكنها تنسب إليه
الوجود بالمعنى النسبي. إن ما سواه بالنسبة لهذه الزمرة هو ظلٌّ الله،
فهي لا توجد بشكلٍ منفصل، بل توجد بالعلاقة مع الله كما الظلُّ الذي
يرافق الأجسام. تدعى هذه الزمرة بالمشاهدين المعاينين.
-
تشبه الزمرة الرابعة الثالثة من حيث نسبة الوجود إلى ما سواه في المعنى
النسبي وإنكار وجوده في المعنى الحقيقي. ولكنها تختلف عن سابقتها في
أنها لا تفهم ما سواه على أنه ظل، بل تقرُّ به على أنه عين الحق. لا
يوجد ما سواه منفصلاً عن كينونة الله، ولكنه من ناحية أخرى ليس ظلَّه
تعالى كما في الزمرة الثالثة. بل إن ما سواه هنا هو الصيغة النسبية
والإضافية والاعتبارية لذات الله. تدعى هذه الزمرة بالمحققين الواجدين،
الذين وجدوا حقيقة الوجود. ولكن البرصوي يحذر بأنَّ هذه المنزلة هي
أصعب منازل العارف كونها موضعٌ تزلُّ فيه أقدام الناس (مزلَّةٌ
للأقدام). تبعث هذه المنزلة على سوء الفهم ولا يقدر على فهمها سوى
أصحاب الخبرة بها[7].
بالرغم من أنَّ البرصوي يقسم الناس إلى زمرٍ أربع، إلا أنَّه يسمح
بعدِّ الزمر الثلاث الأخيرة زمرةً واحدة. وبهذا ثمَّة زمرتان رئيستان
اثنتان: أولئك الذين يعطون ما سواه وجودًا حقيقيًا وأولئك الذين لا
ينسبون إلى ما سواه وجودًا حقيقيًا. إن هذا التقسيم بالطبع ذو علاقةٍ
مباشرةٍ بمفاهيم النفس. حيث تؤمن الزمرة الأولى بالتفرقة التامَّة بين
نفس الله وأنفس البشر، بينما تقرُّ الزمرة الثانية بنوعٍ من النفس
البشرية خاضعٍ للإله.
رسم تخيلي لابن عربي
يبيِّن يونغ لنا من خلال معرفته بعلم النفس طريقة استشعار الله في
أنفسنا: "الله محبةٌ يجب على بني البشر أن ينعموا بها". وهكذا فإنَّ
الرغبة المتَّقدة والفطرية لدى المخلوق لمعرفة نفسه على أنَّها مولاه،
والرغبة المتقدة لدى الله والكامنة منذ الأزل فيه لمعرفة نفسه على أنها
خلقه هما العشق الإلهي القائم بين ما هو متعدِّدٌ وبين ما هو أحَد.
ويتجلى هذا العشق المتبادل والروحي بصورةٍ مطابقةٍ من خلال العشق
الطبيعي بين الرجل والمرأة. إنَّ العشق الصوفي الذي يمثِّل طريقة
العارفِ في إعادة ترسيخ الوحدانية الإلهية البديهية من خلال توحيد
الأضداد، وبالتحديد توحيد العنصرين الذكري والأنثوي، هو نتيجةٌ طبيعيةٌ
للمشاركة في هذا العشق بين الله والبشر على المستويين الروحي والطبيعي[8].
القاشاني عالمٌ هامٌّ آخر عَنِي بدراسة العلاقة بين النفس والآخر. حيث
يقسِّم الناس بشكلٍ مشابهٍ إلى زمرٍ ستٍ تبعًا لفهمهم لذات الله
والآخرين:
-
أولئك الذين يستطيعون رؤية المخلوق ولا يرون أيَّ شيءٍ وراء الخلق. حيث
أنهم يؤمنون بكينونتين اثنتين: إحداهما الخلق الذي يستطيعون رؤيته،
والأخرى الحقُّ الذي لا يستطيعون رؤيته. إنهم يقدرون على فهم وجود الله
من خلال الأسباب. بينما تستطيع باقي الزمر رؤية وحدة الخلق عبر البصيرة
ومن خلال قلوبهم بدرجاتٍ متعددة.
-
أولئك الذين يستطيع رؤية الوجود الأحادي من خلال التجلِّي الحقيقي لنفس
الله تعالى في الخلق. فهم يرون الحقَّ فحسب.
-
أولئك الذين يستطيعون رؤية الخلق والحقِّ من منظورين اثنين.
-
أولئك الذين يستطيعون رؤية حقٍّ واحدٍ خلف العلاقات والأشكال. ويطلق
عليهم تسمية أهل الله.
-
أولئك الذين لا يستطيعون رؤية الخلق، لكنهم يستطيعون رؤية الحق فقط.
وهم من وصل إلى مقام الفناء والجمع.
-
أولئك الذين يستطيعون رؤية الحق في الخلق والخلق في الحق. حيث أنهم
بلغوا مبالغ أبعد من الفناء والجمع إلى مقام الفرق، وعلمهم أكبر من
بقية الزمر[9].
إن ما نفهمه مما سبق هو أنّنا نملك أنا دنيوية ألا وهي نفسنا إضافةً
إلى أنا مقدَّسةً ألا وهي روحنا ذات الجذور الإلهية. إن الصوفيين
معنيون بمحاولة كشف المصدر الإلهي الكامن وراء الغطاء الإنساني للنفس.
كما تدور هذه النقاشات أيضًا في أوساط اللاهوتيين (الكلاميين) فيما
يخصُّ الإرادة الحرة. حيث كان موضوع كون الإنسان حرًا في أفعاله أو أن
الله هو من يقوم بالاختيارات نيابةً عن الإنسان محطَّ نقاشٍ حادٍّ بين
الجبريين والقدَريين. حيث ينكر الجبريون مسؤولية الإنسان مدَّعين أنه
لا يملك إرادةً حرَّة وأنَّ المؤثِّر الحقيقي في نفس الإنسان هو الإله.
ليس هذا موضوع دراستنا، لكن كل ذلك يوضح أن مسألةَ النفس الإلهية
الكامنة وراء النفس الإنسانية ليست محطَّ اهتمام الصوفيين فحسب.
وبالعودة إلى الصوفيين وتبعًا للطريقة الأكبرية، كلَّما ازداد الإنسان
في ماديَّته كلَّما نأت نفسه عن بارئه. حيث يشبه الجسد الحجاب الذي
يفصل الإنسان عن النفس. إذًا جسد الإنسان حجابٌ يغطي هيئته العليا. لكن
هذا الحجاب يجب ألا يخدعنا كون الإنسان هو المظهر المثالي للتجلِّيات
الإلهية، فهو مثل الكعبة التي تشكِّل مظهر الذات. ولكن المسجود له
الحقيقي في حالة الكعبة والإنسان هو الله تعالى. أما صورتهما الظاهرية
فما هي إلا حلم. يقول المتصوِّف الشهير عبد الحسن الحرقاني موضحًا هذه
الحقيقة الروحية السامية: "لو عرفتوني لسجدتم لي"[10].
تؤيد ذلك أيضًا كلمات عبد القادر الجيلاني الذي قال بلسان الله:
"الإنسان سرِّي وأنا سرُّه"[11].
أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي تشير إلى المعيَّة بين نفس
الله والإنسان
يشدِّد القرآن الكريم على تنزُّه الله تعالى بشكلٍ أكبر من شبه الإنسان
به. ولكننا نجد أحاديث تبيِّن القرب بين الله والإنسان. حيث تعبِّر هذه
الأحاديث في الأغلب عن أنَّ الله يريد أن يكون قريبًا من عباده، ولا
يضع حواجزَ مرتفعةً بين نفسه وبين أنفس العباد. كثيرًا ما يستخدم كلٌّ
من ابن عربي والرومي هذا النوع من الأحاديث. فعلى سبيل المثال يستشهد
ابن عربي بالحديث التالي:
يا بن آدم: مرضت فلم تعدني، قال يا رب: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟
قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته
لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم: استطعمتك فلم تطعمني، فقال يا رب: وكيف
أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلا فلم
تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم: استسقيتك
فلم تسقني، قال يا رب: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي
فلان فلم تسقه؟ أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي[12].
يصف الله تعالى نفسه في هذا الحديث الشريف بالمريض والجائع. إن الله
تعالى يحبُّ عباده لدرجةٍ يعدُّ فيها أيَّ معروفٍ يسدى إلى أحدهم
معروفًا يسدى إلى الله نفسه. ويعتقد ابن عربي أنَّه بما أن الشعور بهذا
القرب يتطلَّب تدريبًا طويلاً للنفس على الروحانيات فإن علماء المعارف
المادية يرفضونه. حيث يكتب:
وأكثر علماء الرسوم عدموا علم ذلك ذوقًا وشربًا فأنكروا مثل هذا من
العارفين حسدًا من عند أنفسهم إذ لو استحال إطلاق مثل هذا على الله
تعالى ما أطلقه على نفسه ولا أطلقته رسله عليهم السلام عليه ومنعهم
الحسد أن يعلموا أن ذلك رد على كتاب الله وتحجير على رحمة الله أن تنال
بعض عباد الله وأكثر العامة تابعون للفقهاء في هذا الإنكار تقليدًا لهم[13].
يؤيد حديثٌ آخر كثيرًا ما استشهد به جلال الدين الرومي هذا القرب:
ما وسعني لا سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن[14].
يؤكِّد جلال الدين الرومي من خلال استشهاده بهذا الحديث سعادة الباري
بالدخول في قلب المؤمن. ويذكر الرومي عن صوفيٍّ آخر قوله:
قلبي هو بيت الله، والكعبة بيت الله، مع فارق واحد، هو أن الله لم
يدخل الكعبة بيته بعدما بناه، ولكنه لم يخرج من قلبي حينما بناه.
يوضح كل ذلك علاقة القرب بين نفس الله وأنفس الصوفيين.
ويعلِّق الرومي على ما ورد في الآية 4 من سورة الحديد: "وهو معكم أينما
كنتم والله بما تعملون بصير" قائلاً:
أنك إن عرفت من حلَّ بقلبك ضيفًا لما أصابك من بعد ذلك حزن قط.
ويقول في رباعيته إنه لأننا لا نعلم أنفسنا كما ينبغي فإننا نشعر
بالوحدة والبعد. وإننا نشعر بالاستياء من الحياة ومن أنفسنا. كل تلك
أحاسيسُ سلبيةٌ ناتجةٌ عن سوء تقديرنا لقيمتنا. يؤكد معظم علماء النفس
اليوم أن الشعور بالتفرقة يفضي إلى اعتلالاتٍ نفسيةٍ بين الناس. فعلى
سبيل المثال يقول فروم:
إن وجود التفرقة يثير القلب، بل هو مصدر كلِّ القلق[15].
لقد أثارت الوحدة بين نفس الإله والصوفيين المثاليين العداوة بين
العلماء والحكَّام على نطاقٍ واسع. حيث بلغ الأمر بالحكَّام أن قتلوا
بعض المتصوفين كالحلَّاج لادِّعائهم هذه الوحدة: حيث يعقِّب ابن عربي
قائلاً:
إذا ما عبَّر أحد أهل الله عن هذه القضايا وما شابهها من تلقاء نفسه
لكفِّر أو ربما قتل[16].
إن ما يفهم من هذا السطر تبعًا لكونوك أن الهدف الحقيقي من التصوُّف هو
استئصال هذه الكينونة الوهمية والفناء في كينونة الله. ولا يمكن عدُّ
من لا يبلغ هذه المنزلة درويشًا[17].
يقول المعلِّق المحدث على الرومي شفيق ديدي (2005) مؤيدًا كونوك إنَّ
ثلَّةً قليلةً جدًا من الدراويش يبلغون منزلة الفناء في الله، أمَّا
الرومي فقد قال بعدم وجود أيِّ درويشٍ في العالم بالمعنى الحقيقي
للكلمة[18].
يستعمل الرومي مجازاتٍ أخرى ليبيِّن كيفية فناء النفس البشرية في النفس
الآلهية.
قال قائل: ليس في الدنيا درويش، وإن كان ثمَّ درويش فليس بدرويش.
فهو (باق) من ناحية بقاء ذاته، لكنه أفنى صفاته في صفات الحق.
مثل شعلة الشمعة أمام الشمس، تكون فانية لكنها موجودة في الحساب.
وتكون ذاتها موجودة بحيث إنك عندما تضع قطعة من القطن (عليها) تحترق من
لهبها.
وتكون فانيةً فهي لا تمنحك ضياء، إذ تكون الشمس قد أفنتها (من نورها)[19].
يضرب كونوك لتوضيح الأبيات السابقة أكثر مثالاً عن مكواةٍ سخِّنت
لدرجةٍ أصبحت فيها أشبه بالنار. إذا ادَّعت المكواة أنَّها حديد فذلك
صحيح، وإن ادَّعت أنَّها نار فذلك صحيحٌ أيضًا. إذًا فإنَّ الحديد
موجودٌ وغير موجودٍ في آنٍ واحد. ليس الحديدُ نارًا، لكنك إن لمسته
حرقتك حرارته[20].
كما يشرح الرومي أيضًا كيف أنَّ الله يعمل فينا، أي أنَّ الأفعال لا
تتعلق بالإنسان بل ببارئه. وإنَّ نسبَ الأفعال إلى الإنسان لا يعدو
كونه استخدامًا مزاجيًا. فالمؤثِّر الوحيد وراء كلِّ فعلٍ هو الله
نفسه، ويمكن فهم ذلك بشكلٍ أفضل من خلال استخدام الفعل ماتَ:
في عبارة (مات زيد) إذا كان زيد فاعلاً، إنه ليس بالفاعل، إنه مجرد
عاطل.
إنه حقيقة - من الناحية النحوية - فاعل، وإلا فهو (في الحقيقة) مفعول
به والموت قاتله.
فأي فاعلٍ هو الذي صار مهزومًا هكذا، بحيث انتفت عنه كل الأفعال[21].
يقول كونوك مفسرًا هذا الكلام إن زيدًا هو الفاعل ظاهريًا لفعل الموت،
بينما من وجهة النظر الحقيقية فإنَّ زيدًا هو ضحية الموت والمفعول به.
فالله هو من يتوفى عباده في الحقيقة[22].
كما يضرب الرومي أيضًا أمثلةً عن أولئك الذين بلغوا هذه المنزلة. فأبو
يزيد هو البطل الذي أفنى نفسه في الله وبلغ تلك المنزلة حتى أنَّ
الرومي يفسِّر ذلك بأن القلب يذوب دمًا من الخشية. ويروي الرومي تجربة
أبي يزيد من خلال الأبيات التالية:
لقد جاء ذلك الفقير العظيم أبو يزيد إلى مريديه قائلاً: إني أنا الله.
لقد قالها بسكرٍ جهارًا صاحب الفضل ذلك، قال: لا إله إلا أنا فاعبدون!!
وعندما مر ذلك الحال قالوا له في الصباح: لقد قلت كذا وليس هذا من
الصلاح!!
قال لهم: إن قمت مرة أخرى بأي شيء يشغل بالكم فاضربوني بالسكاكين في
التو واللحظة[23].
يرى ابن الرومي أن أبا يزيد قد بلغَ مرحلةً أصبح لا ينطق فيها عن
الهوى. وإنه التواضع بحق. يشير كونوك إلى كتابٍ آخر لابن الرومي وهو
كتاب فيه ما فيه، يشرح فيه الرومي كيف أنَّه من التواضع القول:
"إنِّي الحقُّ":
يظنُّ الناس أن قول (إنِّي الحقُّ) ادِّعاءٌ بالعظمة، ولكن الأمر على
عكس ذلك، فالقول (إنِّي عبد) هو الادِّعاء بالعظمة. "إنِّي الحقُّ"
تواضعٌ عظيمٌ لأن من يقول بذلك متواضعٌ حقًا كونه يلغي وجوده الذاتي،
أي بمعنى آخر يقول: لست أنا ولكنه الله. أنا لا شيءَ مطلقًا. أمَّا
الذي يقول "أنا عبد" فإنه ينسب إلى نفسه وجودًا آخر بخلاف الله.
يشرح مؤلِّف كتاب الحاكم هذه المنزلة بما يلي:
بعد إتمام كلِّ منازل المسلك الصوفي، يبلغ المتصوُّف منزلة الاتحاد.
حيث يحوِّل المريد من خلال المجاهدة النحاس في نفسه إلى الإكسير. حيث
يتخلَّى عن كلِّ إرادته ورغباته رابطًا إرادته بإرادة الله. إنه
يتمثَّل صفات الله. وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة.
وإنَّ في قوله تعالى في الآية الكريمة (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ
اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ
رَمَى)، وفي قول رسول الله عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف (كنت
سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به)
إشارةً إلى المنزلة الرفيعة للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الذين
اتَّبعوه.
يقول كونوك معلِّقًا على هذه المعلومة إنَّ الخوف من هذه الكلمات
والهرب منها لا يقتصر فقط على علماء الظاهر بل يشمل أيضًا معظم الناس
المتَّبعين للتعاليم للصوفية، لأنهم محجوبون
بحجاب البشرية، فهم لا يقدرون على فهم السرِّ الكامن وراء هذا الحجاب.
وكما يقول الحقُّ تعالى في القرآن:
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ
الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا
لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ
لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ
الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ
أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. (القصص،
28-29)
تبين الآية الكريمة بوضوح أنَّ الله تعالى تجلَّى على الشجرة. فإن كان
الله تعالى يخاطب أحد عباده من خلال شجرة، فما الضير من أن يخاطبه من
خلال إنسان، والإنسان أكثر تكريمًا من الشجرة[24].
ولتسهيل فهم هذه المسألة الصعبة يضرب كونوك أيضًا مثلاً عن جنِّي يتكلم
من خلالِ رجلٍ بلغةٍ مختلفة. حدث في السنة 1195 هجرية أنَّ رجلاً في
العشرين من عمره كان يتحدَّث باللسان الذي
اعتاده إلى أن أتى يومٌ لم يعد فيه الرجل قادرًا على فهم اللغة التي
كان يتحدث بها في اليوم السابق فقط. لقد استحوذ الجنُّ بشكلٍ كاملٍ على
روحه. وهنا يسأل كونوك معلِّقًا على هذه الحادثة:
إن كان مخلوقٌ وضيعٌ كالجنِّ قادرًا على التأثير في جسد الإنسان، فكيف
لا يكون الإنسان وعاءً بين يدي الله؟[25]
إنَّ مثال كونوك قضيةُ مثيرةٌ للدراسة. ولكن لسوء الحظ لا يتوفَّر بين
يدينا سوى النزرِ القليل من البيانات التجريبية الخاصة بهذا النوع من
العلاقات الذاتية. ونظرًا للطبيعة الشخصية والذاتية لهذا المجال فقد
تُركت هذه الادِّعاءات لتدرس فقط من قبل علماء النفس.
بالعودةِ إلى قصَّة أبي يزيد، حين صرخ الرجل معلنًا أن لا أحد في
عباءته سوى الله اشتعل كلُّ مريديه غضبًا.
وعندما قال هذا ذلك الرجلُ العظيم، أعدَّ
كل مريدٍ سكينه[26].
كلُّ واحدٍ منهم كملحدي، قد أخذ في طعن شيخه دون انقطاع.
وكان كل من يطعن الشيخ بسلاحه، يرتدُّ إليه ويمزِّق جسده هو[27].
لو كان جسدك هذا من أجساد البشر، لمزقته الخناجر كما تمزق أجساد البشر.
لقد تقال من هو مع ذاته مع ذلك المنسلخ عن ذاته، فألقى بنفسه بالشوك من
عين نفسه.
ويا من قد ضربت المنسلخين عن الذات بالسيف، إنك ضرب نفسك فحذار.
ذلك أن المنسلخ عن الذات فان (في الله) وآمن، وهو ساكن إلى الأبد في
الأمن[28].
يقول كونوك معلقًا على هذه الأبيات إن تفسير منزلة أبي زيد أمرٌ بالغ
الصعوبة. حيث يقول إنه حين يحيط جسم الإله جسمَ العبد فإن العبد لا
يصبح إلهًا. إن جسدَ أبي زيد لم يختفي، بل ربما تحوَّل إلى مرتبة لطافة
الملائكة. ولتأكيد هذا الأمر أكثر يروي كونوك حكاية الوالي الحاج
بيرام. حيث حدث أنَّ وزيرًا أراد تسميمه حسدًا من نفسه بتقديمِ شرابٍ
مسمومٍ له. خاطب الوالي بيرام الوزير قائلاً: "سأشرب هذا لكنك أنت من
سيناله ضرر هذا الشراب". فشرب الوالي لكن السم أظهر نتائجه على الوزير
سيء القلب نفسه، فسقط ميتًا بالسم في الحال[29].
ما نفهمه من المثال المذكور أنه حين يخسر الصوفي نفسه عبر التمرين
الروحي تستحوذ النفس الإلهية عليه. لكن طبيعة العوامَ لا يستطيعون فهم
هذا الاستحواذ. لذلك ينصحنا الرومي شأنه شأن ابن العربي أن نلتزم الصمت
حيال هذه المواضيع الخطيرة:
وحين وصل الكلام إلى هذا الحدِّ انغلقت الشفاه، وعندما وصل القلم إلى
هذا المجال تحطَّم[30].
يفهم من هذا البيت أنَّ المنازل الروحية العالية يجب أن تحفظ طيَّ
الكتمان، حيث ينبغي أن تنغلق الشفاه. يشير كونوك مفسرًا هذا البيت إلى
أحد المعلقين على المثنوي ويدعى إمداد الله. يقوم إمداد الله:
إن موضوع وحدة الوجود قضيةٌ يجب تركها وعدم الحديث عنها. فثمَّة فرقٌ
كبيرٌ بين القول والمعرفة، وبين المعرفة والرؤية، وبين الرؤية
والكينونة[31].
لكن الروميَّ يبيِّن لنا سبيل فناء النفس. حيث أنَّ طريقته في ذلك
معروفةً وكثيرة التكرار عبر كامل ديوان المثنوي، ألا وهي العشق:
والعشق هو تلك الشعلة التي عندما تشتعل، تحرق كل ما تبقى غير المعشوق[32].
إن هذا العشق بالطبع هو عشق الله. وإنَّ أيَّ عشقٍ سوى عشقِ الله ما هو
إلا حجاب حتى ولو كان هذا العشق للجنة. يقول كونوك في تفسير هذا البيت
إن الزاهدين محجوبون عن الله من خلال سعادة ذواتهم كونهم يبغون الآخرة.
إنَّ الجنة مكانٌ تتمتَّع فيه الأنفس التي لم تفنى في الإله المعشوق.
وإنَّ الآية التالية موجةً لأولئك الناس الذين لم تفنى أنفسهم في الله:
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ
عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ
الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. (سورة
الزخرف، 70-71))
بما أنَّ أولئك يتمتَّعون برؤية أصناف النعيم الجنة لا يمكن قبولهم
زمرة العاشقين، فالعاشقون فقط ينظرون إلى وجه الحقِّ. وإنَّ العشق من
ناحيةٍ أخرى يقتل كلَّ ما سوى الله. ولبرهان هذه الحالة يسوق الرومي
تفسيرًا ملفتًا عن المجاهرة بالإيمان:
لقد سلَّ سيف "لا" في سبيل قتل ما سوى الحق، فانظر ما تبقى من بعد
"لا".
لقد تبقَّى "إلا الله"، ومضى كل ما سواه، فلتهنأ أيها العاشق العظيم،
يا مهلك الشِّرك[33].
يمحو العاشق عشق "ما سواه" ويجلِّي الكينونة "الوهمية" لما سواه بسيف
"لا إله". وبعد ذلك يؤكِّد العاشق الوجود الحقيقي لله بكلمتي "إلا
الله". إذ إن توحيد العاشق لله يزيل ثنائية الوجود. ومن ناحيةٍ أخرى
إذا ما آمن المرء بوجود "ما سواه" بشكلٍ منفصلٍ وأخذ يكرِّر كلمات
التشهُّد فإنَّ إيمانه ينكر هذه الكلمات. حيث يقع في الشرك الخفي عبر
تأكيده وجود كينونتين منفصلتين. وهذا هو مدى التوحيد الذي يمكن لأهل
الظاهر بلوغه[34].
يرى الرومي أن عيني المرء من العوام ترى دائمًا الواحد أنَّه اثنان.
أما عيون العارفين فقط ترى الواقع على ما هو:
إنَّه الأول والآخر يقينًا: لا تظنَّن الشِّرك ينشأ من العدم، بل إنها
العين التي ترى الواحد اثنين[35].
يفسِّر كونوك هذا البيت مشيرًا مباشرةً إلى ابن عربي ومستشهدًا به:
ليكن معلومًا كما يذكر شيخنا الأكبر أن وجود ما سوا الله فانٍ في نظر
العارف. تدعى هذه الحالة بالجمع والنفاء. حين يعود العارف من الجمع إلى
التفرقة يشاهد الكثير بعين الواحد. أحيانًا يرى في هذا الجمع وجود
الحقِّ. وهكذا يرى الواحدَ جمعًا. وأحيانًا أخرى يرى الجمع في الواحد.
وأحيانًا أخرى يربط هاتين المنزلتين كونه يعلم أن الجمع ليس جمعًا
حقيقيًا. بل إنَّه فعل الوجود الواحد. وبالرغم من أن ما سوى الله مرئي
فإن العارف يعلم أن هذه الرؤية ما هي إلا ظلُّ الوجود الحقيقي للحقِّ.
وإنه يرى الوجود يضم ذات الحق. فهو يرى ما سواه موجودين في وجود الله.
وبالتالي لا توجد هذه السنن في نظره. لا وجود سوى وجود الله. وبالتالي
لا وجود لتلك "الشؤون" في نظره. فلا وجود سوى لله. يستنتج كونوك من
كلمات ابن عربي أنَّ نسب وجودٍ منفصلٍ إلى ما سواه شرك. وإن رؤية
الاثنين هو ثمرة عينٍ سقيمةٍ أو عقلٍ يرى الاثنين[36].
يقدِّم شافعي تفسيرًا مثيرًا لرؤية الاثنين:
كما أننا حين نحكم على كائنٍ آخرَ وعلى أعماله وإنجازاته بشكلٍ سلبي
فإننا ننظر بعينٍ واحدةٍ وليس باثنتين. عينٍ واحدٍ ترى الحقيقة بالشكل
الذي تظهر به الأشياء كما نعرفها وبقيمةٍ ظاهريةٍ كما نفهمها من خلال
فهمنا وحكمنا الشخصيين المحدودين. ولكن الرؤية بالعينين الاثنتين هي أن
نرى بالعينين التي يرى بهما أهل الله لأنهما تحتويان صفات الصبر
والحكمة وفوق ذلك التواضع، وتعلمان أنَّه ليس بإمكاننا أن نعي تكامل
أجزاء الحقيقة مجتمعةً، والتي تضيف وتطرح وتعدل وتوازن سير ملكوت الله
الذي يعود علمه إلى الله وحده.
إن أفضل سبيلٍ للوصول إلى حياةٍ أكثر كمالاً، وأنجح علاجٍ للإحباطات،
وأنجع طريقةٍ لعيشِ حياةٍ حافلةٍ بالقوَّة الحقيقية والإنجازات هي
البعد عن استجداء الناس والعزوف عن الاستياء وتسليمُ كلِّ شيءٍ إلى
مالك الملك. أي أداء كل شيءٍ في سبيل الله، فالمحبة تكون فيه والعبادة
تكون له والعمل دون الالتفات إلى أية مكاسب شخصية، بل اليقين بأنَّ
كلَّ شيءٍ من عندِ الله وبأن كلَّ شيءٍ عائدٌ إلى الله.
يحكى أنَّ رجلاً طرق باب صاحبه، فسأل الصاحب عمَّن بالباب. أجاب الرجل:
"إنه أنا". فردَّ الصاحب: "إن كنت أنت أنت لن أفتح الباب، فلست أعرف
صاحبًا اسمه "أنا"[37].
يقول الرومي:
ذهب أحدهم إلى باب المحبوب وطرقه.
ردَّ صوتٌ: "من بالباب؟".
أجاب الرجل: "إنه أنا".
ردَّ الصوت: "لا مكان لي ولك".
أغلق الباب
وبعد عامِ من الوحدة والحرمان.
عاد الرجل وطرق الباب
سأل صوتٌ من الداخل: "من بالباب؟".
أجاب الرجل: "إنه إيَّاك"
ففُتح الباب له.
إن المحبوب في هذه القصة هو إما الله أو الرجل الكامل، وفي كلتا
الحاتين يزدري الرومي شخصيات العارفين الذين يرون أنفسهم منفصلين عن
أصحابهم. يجب ألا يشعر الصوفي بهويَّةٍ منفصلةٍ عن صاحبه الصوفي، حيث
يجب أن يكونا واحدًا ويجب ألا يكون هناك أي فرق. يقدِّم شافعي تفسيرًا
نفسيًا لهذه الحالة:
يكمن اكتمال شخصٍ ما في تلبيه ندائه، حيث يقع من خلال هذا النداء
احتمال اللقاء وتشكيل جملةٍ صحيحةٍ من العلاقات. إن هذه العلاقات هي
تلك التي بموجبها تدعم الآخرين وتحبهم، لا لأية غايةٍ شخصيةٍ أو
عاطفية، بل لوجه الله تعالى فحسب. يقول المتصوِّف ساري السقطي (253
للهجرة) إن لا حب حقيقي بين شخصين إلى أن يخاطبا بعضهما بعضًا بـ "يا
أنا". يا أنا تعني أنك أنت أنا، لكنها تعني أيضًا أنك تحبُّ للآخرين ما
تحبُّ لنفسك، وتريد لهم ما تريد لنفسك وتتمنى لهم كلَّ الخير. إن هذا
النوع من الحبِّ هو الأسمى كونه لا يتبع المصالح الشخصية أو لا يحفِّزه
الرضا عن الذات، بل إنه يصدر فقط عن أولئك الذين يوقنون أن الله هو
مصدر كلِّ شيءٍ في الحياة ومالكه الحقِّ. إنهم أناسٌ دائمو الاتصال
بالله عبر الخضوع له[38].
يرى كونوك أنَّ نسبَ الوجود إلى موجودٍ وهميٍّ بخلاف الله شركٌ خفي.
ويمكن فقط التخلُّص من هذا الشرك عبر اتِّباع مسلك العارفين[39].
يمثِّل جلال الدين الرومي لذلك عبر القصة والقصيدة الشهيرة عن الأسد
والذئب والثعلب:
خرج أسدٌ وذئبٌ وثعلبٌ إلى الجبال في طلب الصيد. لم يكن الأسد بحاجةٍ
إلى مرافقةٍ من الثعلب والذئب ليمسك فريسته. وإن من كان في صحبة الأسد
في صيده ضمن وجبةً من اللحم عشاءً أو ضحىً. ومع ذلك منح الأسد الثعلبَ
والذئب شرف مرافقته على الطريق.
فلما سعت هذه الجماعة نحو الجبل، في ركاب الأسد، نجحت أمورها، فوجدت
ثورًا، وتيسًا، وأرنبًا سمينًا وظفرت بصيدها جميعًا. لقد كان الذئب
والثعلب على يقينٍ بأن صيدهما الناجح كان بفضل وجود ملك الغابة العظيم
إلا أنهما أرادا رغم ذلك تقسيم الصيد بالتساوي. وحين علم الأسد بما
يخالجهما من الوسواس، لم يفصح عن ذلك، ولزم نحوهما حينذاك جانب
المراعاة والمداراة والحيلة. لكنه فكَّر في خلده: ماذا لو كانت قسمتي
غير كافيةٍ لهما؟ ومن يا ترى سيتوافق تقديره للقسمة مع تقديري لها؟
وبينما كان الأسد يتأمَّل في هذه الفكرة استمرَّ في إظهار ابتسامته
لهما. ثم طلب من الذئب أن يقسم الصيد تبعًا لمعرفته. أعطى الذئب الثور
للأسد، بينما منح نفسه التيس قائلاً: التيس نصيبي، ورمى بالأرنب إلى
الثعلب.
قال الأسد: "ماذا تكلمت أيها الذئب بحضوري؟ خبرني ماذا قلت!". وناداه،
فلما دنا منه ضربه بمخالبه ضربة مزقت جلده وعظامه.
ثم التفت الأسد إلى الذئب طالبًا منه أن يقسم الصيد. أطرق الثعلب
باحترام، ومنح الصيد كاملاً إلى الأسد علمًا منه بمن هو أحقُّ بالصيد،
ومن يكون غير الأسد ملك الغابة. أجاب الأسد الثعلب بسرور: "لقد أقمت
العدل بقسمتك أيها الثعلب: ممن تعلمت هذه القسمة؟". فردَّ الثعلب: "من
مصير الذئب". فأجاب الأسد: "طالما أنك رهنت نفسك لمحبتي، خذ الحيوانات
الثلاثة وامض في سبيلك. أنا لك وكل الوحوش التابعة لي لك: فلتنطلق إلى
السماء السابعة ولترتقِ إلى ما بعدها"[40].
يمكن ضرب هذه القصة بمثابةٍ مثلٍ يصلح لكل الأحوال. إذا ما كان لبشرٍ
أن يدَّعي هويةً منفصلةً عن الله مثلما فعل الذئب عاد عليه ذلك بالويل
والدمار. لكن الثعلب الفطن بتخلِّيه عن كل مطالباته بوجودٍ منفصلٍ عن
الأسد حظي بكل ما أراد.
النفس البشرية وأنفس البشر الآخرين
إن شرح العلاقة بين نفس الله والآخرين ظاهرةٌ بالغة الصعوبة كما يصوِّر
ابن عربي كونها تجريبية وكون الكثير من المتصوفين لم يتحدثوا عن هذا
الموضوع. ولكن هناك معلوماتٌ أكثر حول علاقة الأنفس البشرية وقربها
بعضها من بعض. إن الحجاب بين أنفس العوام بشكلٍ عام سميكٌ ويصعب تخطيه،
فكل امرءٍ يعيش في قصره، وخصوصًا في ظل الحياة الحديثة حيث أن العلاقة
الوحيدة مع الآخر هي المصالح الشخصية، فإن لم يكن ثمَّة مصلحةٌ شخصية
لن يكون هناك علاقة على الإطلاق.
رسم يظهر جلال الدين الرومي وشمس التبريزي
لكن مبدأ الغيرية غير مرحَّبٍ به بين الصوفيين. فالصوفي يدرك بعد مدَّة
تدريبٍ صعبةٍ أن نفسه والأنفس الأخرى غير منفصلةٍ بشكلٍ كاملٍ كما يبدو
عليه الأمر. فكل الأنفس تشترك بالأصول الإلهية ذاتها. تدعى الخطوة
الأولى من تدريب الصوفي الفناءَ في الأخوة. حيث يجب أن يعرِّف الصوفي
نفسه على الصوفيين الآخرين في المجموعة. فإن لم يحقق ذلك لا يمكن
للصوفيِّ أن يعرِّف نفسه إلى شيخه بما يسمَّى مرحلة الفناء في الشيخ،
وبالنتيجة لن يبلغ مبلغ الخطوة التالية وهي الفناء في الرسول. بمعنىً
آخر يمكن وصف تدريب الصوفي بأنه عملية جعل نفس المرء متحدةً مع
الآخرين. وينعكس ذلك على سلوك الصوفيِّ من خلال الترفُّع عن بعض
الكلمات كالقول "خفِّي، منشفتي" وأيَّة كلماتٍ فيها إشارةٌ إلى نوع من
الأنانية المنفصلة[41].
ونتيجةً لهذا النهج لا يكون الحجاب بين "النفس" و"الآخر" سميكًا جدًا
بين الصوفيين المثاليين. حيث أن الروح/النفس حين ترتقي في السلَّم
الروحي تبعًا لابن الروميِّ يدرك المرء القواسم المشتركة والطبيعة
الجمعية للأنفس البشرية كلِّها. سننعم النظر في هذه الفقرة بشكلٍ أكبر
إلى تعليق عوني كونوك على مثنوي الرومي وسنرى كيف فسَّرت أبيات المثنوي
ابنَ عربي من خلال تعليق كونوك.
إنَّ الأرواح المهذَّبة للصوفيين شديدة القرب بعضها من بعض، فكلَّما
حقَّقت الأرواح مزيدًا من الكمال كلما ازدادت تشابهًا. من ناحيةٍ أخرى
كلَّما قلَّ كمال المرء كلَّما ازداد بعدًا عن الآخرين. إذًا لا يسود
التوافق والسلام إلا بين الصوفيين المثاليين، بينما لا يسود سوى
التنافر والبغض بين الأرواح غير الناضجة[42]:
وعندما ترى منهم رفيقين مجتمعينن يكونان واحدًا، وستمائة ألف.
وأعدادهم على مثال الموج، فإن الريح هي التي جعلته (يبدو) متعددًا.
وإن شمس الأرواح قد تفرقت داخل كوات الأبدال.
وعندما تنظر في قرص الشمس فهو واحد في ذاته، ومن هو محجوب بالأبدان، لا
يزال في شك.
إن التفرقة تكون في الروح الحيوانية، والنفس الواحدة، هي الروح
الإنسانية[43].
يفسر عوني كونوك أنه بالرغم من تباين الرجال المثاليين في الأجساد،
كلهم يشتركون بذات المعنى والروح. إن الأرواح كالبحر، فالبحر واحد، لكن
الأمواج الناتجةَ عن الرياح (الأسماء الإلهية) كثيرةٌ من حيث الأشكال.
إن الشَّمس كما يرى كونوك تمثِّل هنا روح كلِّ محمَّدي. تنعكس شمس روح
كل محمدي بشكلٍ مختلفٍ تبعًا لألوان نافذة الأجسام البشرية. فرغم أن
قرص الشمس واحد إلا أنها تأخذ أشكالاً وهيئاتٍ متعددةً تبعًا لعدد
النوافذ. إنَّ أولئك الذين لا يرون سوى الأشكال جاهلون بأصلهم المشترك.
فأعين الجهلة وآذانهم محجوبة:
لقد أغلقوا جميعًا العيون والآذان، اللهم إلا أولئك الذين تخلصوا من
أنفسهم.
يبين هذا البيت بوضوح أن أولئك الذين لم يطهِّروا ذواتهم محجوبون عن
السلام والتوافق. فأرواحهم متنافرة. يقول كونوك في التعليق على هذا
البيت:
إن أولئك الذين اجتثُّوا كينونتهم الذاتية لصالح كينونةٍ واحدةٍ حقيقية
هم من قد بلغ الخلاص. وكلُّ من دون أولئك عيونهم وآذانهم محجوبة[44].
ينصح الرومي باستئصال الأنا الذاتية لبلوغ منزلةٍ يشعر فيها المرء
بالاتحاد مع بقية الخلق.
يرى كونوك أن ثمَّة دليلاً في القرآن الكريم حول تماثل الروح وتطابقها.
فالقرآن الكريم يستخدم صيغة المفرد لكلمة "الروح" بالرغم من أن للبشر
أرواح كثيرةً مختلفةً ظاهريًا. إن الآية القرآنية التالية تضم كلمة
الروح بصيغة المفرد:
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً.
كما أن الترجمات الثلاثة التالية للقرآن الكريم تستخدم صيغة المفرد
للدلالة إلى كلمة الروح
spirit.
They ask thee
concerning the Spirit (of inspiration). Say: "The Spirit
(cometh) by command of my Lord: of knowledge it is only a little
that is communicated to you."
[45]
‚They are asking thee
concerning the Spirit. Say: The Spirit is by com-mand of my
Lord, and of knowledge ye have been vouchsafed but little.
[46]
SHAKIR:
And
they ask you about the soul. Say: The soul is one of the
commands of my Lord, and you are not given aught of knowledge but a
little. (al-Isrâ, 17:085)[47]
كيف لنا أن نفسر ذلك؟ يقول كونوك إن تفسير هذه الظاهرة يستلزم أن يختبر
المرء هذه المنزلة عبر إكمال التدريب الروحي. صحيح أن لكلِّ إنسانٍ
روحٌ حيوانيةً مختلفة. وبما أن روح/جسد الحيوان ظاهرة فإن الكافر
والمؤمن يقرانها، لكن الروح البشرية شأنٌ إلهي، فلا يتسنَّى وصفها أو
الشهادة عليها بسهولة. بل إنها تفهم عبر التذوُّق والاختبار. قبل أن
يوجد البشر جسديًا كانت أرواحنا متحدةً، وكانت في علم الله. وفي تلك
المرحلة كانت كل الأرواح متَّحدةً وواحدة. بينما بدأت الغيريَّة عند
هبوط الوجود المطلق إلى الدرجة الرابعة التي تدعى روحَ كلِّ محمَّدي.
فعند هذه الدرجة يظهر الوجود الحقيقي بثوب الغيرية[48].
لم يكن ثمَّة
غيرية قبل هذه المرحلة، لكن الصوفيين المثاليين قادرون على استعادة تلك
المنزلة.
لهذا يذكر الرومي أن إيجاد صوفيٍّ حقيقيٍّ بالمعنى المذكور أعلاه أمر
صعب. فالدرويش الحقيقي كما يرى الرومي هو من استأصل ذاته وأصبح متحدًا
مع باقي البشرية. وبهذه الطريقة يمكن أن يتحقِّق معنى الأبيات التالية
لدى الصوفي الحقيقي:
قال قائل: ليس في الدنيا درويش، وإن كان ثمَّ درويش فليس بدرويش.
فهو (باق) من ناحية بقاء ذاته، لكنه أفنى صفاته في صفات الحق[49].
يؤمن الرومي أن المشاكل بين البشر ناتجةٌ عن شعورهم بهوياتٍ متفرِّقة.
فإن شعرت الروح بالتفرقة وبالعلوِّ عن الآخرين أصابها الصداع. وكلما
ازداد غرور المرء بنفسه كلما زاد الألم:
إن قاطع الطريق لم يضرب معدمًا قط، وهل عض ذئبٌ ذئبًا ميتًا قط؟!
لقد خرق الخضر السفينة وذلك من أجل أن ينقذها من المغتصبين!
وما دام الكسير ينجو فكن كسيرًا والأمان في الفقر فكن فقيرًا.
وذلك الجبل الذي يحتوي على عددٍ من المناجم الحاضرة قد مزِّق إربًا من
ضربات المعاول.
والسيف (موجود) من أجل ذلك الذي له عنق، والظل الملقى أرضًا لا يتلقى
الطعنات.
والسيادة نفطٌ ونارٌ أيَّها الغويُّ... فكيف تمشي على النار أيها الأخ.
وكل شيءٍ يكون مسوَّى بالأرض متى يكون هدفًا للسهام، ألا فلتنظر
بإمعان.
لكل نفس ذلك الشيء بمجرد أن يرتفع عن سطح الأرض، يكون كالأهداف تنهال
عليه طعناتٌ لا تقبل الشفاء.
إن هذه الأنانية بمثابة درجات السلم بالنسبة للخلق، والنهاية (المؤكدة)
هي السقوط من فوق هذه الدرجات.
وكل من صعد إلى أعلى (أكثر) يكون أكثر بلهًا، فإن عظامه (عند السقوط)
سوف تتحطم بدرجةٍ أسوأ.
هذه من فروع (الكبرياء) أما أصوله فهي أنه إشراك بالله.
وما دمت لم تمت ثم ترتد حيًا منه هو، تكون عاصيًا طالبًا للمشاركة في
الملك[50].
إن الموت يعني تبعًا لكونوك التخلُّص من وهم وجود المرء، وإن عدم
التخلص من هذا الوهم هو جريمة اتخاذ شركاء لله، فأنت بارتكابك ذلك تكون
قد هجرت العبودية رغبةً بالسيادة وأصبحت مجرمًا كونك طلبت السلطة
والملك في مجابهة الله عز وجل. ولكن حين يعيش العبد لله يعني ذلك أنه
قد استأصل الصفات البشرية وأن الله تصرَّف من خلاله. تدعى هذه المنزلة
مقام الاتحاد. وفي هذه المنزلة الروحية تستأصل كلُّ الرغبات الشكلية
للعبد، ويتحد هذا العبد مع إرادة الله كما يتحوَّل الحديد إلى نارٍ بعد
تسخينه. ولكن لا يمكن فهم هذه المنزلة من خلال الإنكار والهراء من
الكلام. بل يمكن فهمها من خلال اتباع المسلك. وحالما تفهم حقيقة هذه
المنزلة سيصاب الكثير من المسلمين بالأسى كونهم سيدركون مكانتهم الدنيا[51].
يختتم الرومي هذا الجزء بالبيتين التاليين إدراكًا منه للصعوبة الكامنة
في اختبار هذه المنزلة:
ولو بحت بكلِّ ما هو موجودٌ في باطني، ما أكثر الأكباد التي كانت سوف
تتحول في الحال إلى دم.
فلأقصر... فإن هذا القدر يكفي ذوي الألباب لقد صحت صيحةً أو صيحتين إن
كان ثمَّة أحدٌ في القرية[52].
يذكر الرومي في مواضع من المثنوي أنَّه في بحثٍ عن أناس ذوي رؤيةٍ
سليمة:
إنني ابحث بالروح دون "أنا" ودون "نحن"، حتى أصبح كرةً لهذا الصولجان.
وكل من صار بلا "أنا" صارت كل "الأنات" له، وصار حبيبًا للجميع من لم
يحب نفسه[53].
يقول كونوك معلقًا على هذين البيتين إنَّ من هجر وجوده الوهمي لوجه
الله وعدَّ كينونته ككينونة الحقِّ يستطيع أن يحتوي كلَّ "الأنفس"
الأخرى. فحين يتخلى المرء عن صحبة أنانيته سيصبح صاحبًا لكل الأنفس
الأخرى. إن هذا الشخص في وفق كلمات الرومي سيصبح كالمرآة، فلا صورة لها
ولا قذارة تدنِّسها، بل إنها تعكس كل الصور الأخر.
كتب عالم النفس المسلم محمد شافعي الذي يعدُّ طالبًا تدرَّب وفق المنهج
الصوفي كتابًا عنوانه: التحرر من النفس والتصوُّف والتأمل والعلاج
النفسية، يقدِّم فيه الفوائد النفسية للتحرر من الأنا الذاتية. حيث
يرى أن الشخص الذي وصل إلى التحرر من الذات يكتسب الصفات التالية:
-
التحرر من المخاوف والطمع والنزوات الجنسية العنيفة.
-
التحرر من الازدواجية.
-
التحرر من النفس الدنيوية أو الشرطية.
-
الاندماج التام لكل الأنفس النباتية والحيوانية والإنسانية والاتهامية
والملهَمة والمطمئنة والراضية والمشبعة والكاملة.
-
الانخراط الكامل في الحياة والتكامل التامِّ مع اللحظة.
-
التحرر من الماضي والمستقبل.
-
إدراك علاقة المرء بالنظام البيئي للطبيعة والتناغم الخفي للحياة.
-
اختبار الحقيقة الغيبية والعابرة للزمن.
-
التواصل الوجودي (الفناء والبقاء)[54].
يضيف شافعي أيضًا أن التحرر من النفس يعني توجيه اهتمامنا تجاه الله
وليس تجاه أنانيتنا.
إننا ننتظر من الصحبة أو من مجموعة علاقاتنا أن تجلب لنا البهجة
والسعادة وأن ترضي أبعاد وجودنا غير المشبعة. يقدِّم الحديث النبوي
الذي أعاد الصوفي الشهير في القرن الثالث عشر صياغته إجابةً لأولئك
الذين يعانون من هذا النوع من الخيبة:
وجِّه وعيك تجاه الله وحده. أيها التائه في الطريق. من يجعل الله جلَّ
اهتمامه أراحه الله من همومه. ومن تشغله شؤونه الشخصية لن يأبه الله
بأي وادٍ هلك.
وجِّه اهتمامك نحو الله وحده أيها التائه في الطريق. فمن جعل رضا الله
همَّه تكفَّل الله بكل ما أهمه وأغمَّه. من كان همه همًا واحدًا كفاه
الله همه ومن كان همه في كل واد لم يبال الله بأي واد هلك.
أخيرًا فإن الصوفيين تحدثوا عن إمكانية اتحاد الأنفس بين الله
والإنسان. ويمثل الصوفيون من أمثال الحلاج والبسطامي مثالين عن هذا
الاتحاد. وكلما اكتسب المرء الكمال في المسلك الصوفي كلما أصبحت الحجب
بين الأنفس أقل. وقد وصل الأمر بالبسطامي حين رأى حمارًا يضربه صاحبه
في أحد الأيام أن بدأ ظهره ينزف لشدَّة ما شعر به من تعاطفٍ مع الحمار.
على الرغم من أن الاتحاد بين أنفس البشر أو بين أنفس البشر وباقي
المخلوقات لا يجلب أية متاعب، لكن الاتحاد بين نفس الله ونفس الإنسان
كانَ مدعاةً للكثير من الأهوال. فقد وقع الحلاج ضحيةً لهذا الاتحاد.
والصوفيون هنا إما ينصحون بإخفاء هذه الحوادث أو يدَّعون عدم إمكانية
تفسير هذا الاتحاد بالكلمات كونها تجربةُ روحانيةٌ فائقة السمو.
لقد كان الجانب الثاني للاتحاد بين أنفس البشر محطَّ نقاشٍ لدى
الصوفيين. فالقول بأننا جميعًا نشترك بنفس الروح طرحه كونوك. لكن هذا
الادِّعاء يحتاج إلى المزيد من الدراسات من قبل اللاهوتيين والأطباء
وعلماء النفس. كما أن الموضوعات من قبيل الفناء في الإخوة والفناء في
الشيخ مفاهيم يجب أن تُدرس من منظور توحيد أنفس شخصياتٍ مختلفة.
أتى الصوفيين بطرقٍ مفيدةٍ جدًا لإشاعة التناغم والسلام بين الناس. حتى
أنهم أرونا الاتحاد مع الطبيعة. ويحتاج كل ذلك إلى المزيد من الدراسة
من قبل علم النفس التجاوزي في عالمٍ بلغ فيه الافتقار إلى الاتحاد في
جميع مشارب الحياةِ مستوياتٍ مقلقة.
ترجمة: محمد الطبل
*** *** ***