ريم بملائكتها هي الشام الذاهبة إلى غياب

فاروق يوسف

 

كان الشعب السوري قد خرج إلى الشوارع يوم 14 اذار 2011 محتجًا يهتف من أجل الحرية فإذا به اليوم ينتهى لاجئًا. لم تكن ثورة السوريين ثورة جياع فإذا بها تنتج شعبًا جائعًا. في خضم الصراع على المُلك بين النظام ومعارضيه، نسينا السوريين البسطاء، سوريي الشوارع العامة والباعة المتجولين ومصلحي الأحذية وزبائن الحانات والعاملات في مصانع الخياطة وصابون الغار والمتجهين كل صباح إلى باب الله.

كلما أزهرت صور الموت المجاني على الشاشات كنت أفكر في بائعة النعناع في باب توما. كانت عيناها تعكسان بإشفاق خضرة نبات الجنة المبتل. "أنت تقف في مكان محظور"، قال لي ناصر حسين، وهو رسام سوري، في محاولة منه إلى أن يشير خفيةً إلى البناية التي كانت تقع خلفي. كانت عيناه ترمشان كما لو أنهما تقبضان على وحوش صغيرة. أردتُ أن أسأله عن البناء اللغوي لجملة "منحبّك" التي كنت أنقِّل نظري بين اللافتات التي كُتبت عليها، فسحبني من يدي مسرعًا وهو يقول "بعدين". مع ذلك كنت أثناء انتظاري أشعر بمتعة نادرة وأنا أنصت إلى صوت فيروز القادم من محلِّ بيع المثلجات.

يمرُّ السوريون بصوت فيروز من غير أن ينتبهوا. شيء من ذلك الصوت النضر كان نابتًا بين خليَّتين سرِّيتين من خلايا أجسادهم. ريشة الحلم المندسَّة بين ريش أجنحتهم الخيالية. بالنسبة إليَّ كان ذلك حدثًا استثنائيًا، فقد كان لنا في بغداد السبعينات نصف ساعة صباحية مع فيروز، لم تكن الإذاعة العراقية لتجرؤ على القفز عليها.

قال لي سائق التاكسي: "هناك إذاعة لفيروز". أصدِّق ذلك. هذا شعب فيروزي الهوى والطباع واللغة. هل كان شغفه بفيروز جزءًا من فلسفة الحزب الحاكم؟ فيروز ابنتنا. واحدة من أميراتنا الضائعات بين لفائف التاريخ. هذه ليست كذبة وليست دعاية سياسية. فسوريا الحديثة التي كانت موجودة قبل النظام البعثي ومعه، كانت قد أرست ثوابتها على قواعد الغزل الأموي.

ما من امرأة في العالم تزيِّن وجهها مثلما تفعل المرأة السورية. لا يمكن أن تعثر على وجه المرأة السورية (المحجبة أيضًا) إلا ممتزجًا بذلك القناع الشفَّاف الذي كان حيلة أنثوية أكثر منه وسيلة للتجميل. لا يكفي أن تقول لامرأة سورية "أحبُّكِ" لكي تمضي معك إلى قاع البئر مستسلمة. عليك أن تحلِّق إلى السماء السابعة لكي تكون مقنعًا بما يجعلك مطابقًا لصفتك المزدوجة: سلطانًا وخادمًا في الوقت نفسه.

أتذكر ديك الجن الحمصي وهو يقسم بنعلَي حبيبته القتيلة في لفتة حنان نادرة من نوعها "فبحقِّ نعليها وما وطأ الثرى/ شيء أعزُّ عليَّ من نعليها". لن يكون الغزل مستبدًا إلا بشروط تلك المرأة التي تعرف أنها خُلقت لتكون كائن غرام استثنائيًا.

كان عليَّ أن اجتاز حاجز الغزل وأنا أقف أمام حاجز أمني. حدث ذلك في الأيام الأولى التي تلت أحداث درعا. كان عليَّ أن أخبِّئ الوله الأندلسي لأحثَّ هلعي على الانسجام مع شروط المرحلة السائبة. سأبدو أمام الحزبيين خائفًا من أجل أن أستحقَّ لقب المواطنة الذي صنعت دولة البعث بلاغته.

هذه بلاد تستعدُّ لمواجهة أوقات عصيبة. لن تنبت للربيع المقبل إليها بالمراسلة قدمان في بلد يقيم على طبقات من حجر. لم يكن الجامع الأموي بعيدًا. لا تزال الأنفاق من حوله تشير إلى حجارة عصوره التي مرَّت على مهل. كان يومًا كنيسة، ومن قبلها كان معبدًا رومانيًا. يتشبه الناس بالأماكن التي تطأها أقدامهم. هناك أنفاس لا تزال حية، لهبها الصافي يشقُّ الحجر. لقى يتسلل لمعانها إلى الأرواح لتكتظَّ بما يجلبه إليها الزمن من أفكار.

كلما وقعت قدمي على حجر صغير في الطريق النازلة إلى باب توما كانت عيني تنفتح على صورة لم ترها من قبل. أيقونة لم يكن قد رسمها الياس الزيات، وهو رسَّام سوري مجيد من قبل. كانت دمشق تختبر مزيجها الأسطوري المؤلف من الأصوات والروائح والصور العابرة داخل خزانة روحي. لم تكن حواسي قادرة على تحصين ذاكرتها من الرياح التي تعبث بصفحاتها في كل لحظة مشي. لذلك كنت أختار أطول الطرق لأصل. بل من أجل أن لا أصل. في دمشق لا يصل أحد إلى مبتغاه النهائي. هناك دائمًا ممرات فرعية تمحو عن الأقدام ثقتها.

كنا أنا وياسر صافي، وهو رسام سوري، جالسين في مقهى النوفرة، قريبًا من السلَّم الحجري الذي يقود إلى الباب الخلفي للجامع الأموي، حين انتبهنا إلى أن الجالسين حول المنضدة المجاورة كانا يهذيان، يتكلمان فلا يسمع أحدهما ما يقوله الآخر. كما لو أنهما التقيا قبل وقت قصير وقرَّر كلٌّ منهما أن يروي حكايته للآخر من غير أن يقررا البقاء معا بعد أن يشربا كأسي شايهما الأخضر. قال لي ياسر وقد لمح في عيني دهشة مضطربة: "امشِ". قلت: "لقد سمعتها من قبل"، فقال لي بضحكة من يتآمر: "امشِ".

جلسنا في "ورق العنب". كان مطعمًا يقع في الظل دائمًا. كان أبي مفتونًا بزرقة السماء وبالنساء الدمشقيات. "لم يخلقهن الله إلا بسبب تلك الزرقة"، قال. أجبته: "لديكم في بغداد سماء أكثر سعة". قال: "هذا ما يجعلها أقل زرقة". قلت: "لكن النساء العراقيات حلوات أيضًا". نظر إليَّ متأملاً كما لو أنه لم يكن يصدِّق أن الحوار بينه وبين ابنه قد انزلق إلى نقطة حرجة. ثم التفت يمينًا. كانت هناك فتاة خرجت لتوِّها من نبيذ العائلة الأحمر. قال: "أنت تتحدث عن الماضي". لقد أحرجته. يا إلهي! فقررت أن أسأله عن أخوتي الذين تركتهم منذ عقدين. قال لي: "إنه مكان أثري"، وهو يقصد صورته جالسًا بين بشر ينتمون إلى عصر هو غير العصر الذي جاء منه وسيعود إليه بعد أيام. قال لي حين جلس على صخرة رومانية بيضاء كنا قد عثرنا عليها ملقاة أمام كنيسة في شارع المستقيم: "إنها الحرية". كانت الحرية عنقود عنبه. أخبرني يومها أنه كان قد تسلق جذع نخلة في شبابه من أجل أن يشعر بالحرية. قال: "كان أخوتي ينتظرون عناقيد التمر التي سأقطعها فيما كنت أفكر في الحرية مثل طائر".

لا أزال أقيم في ذلك المقطع من الحوار.

كانت الحرية (لا تزال) تقيم في الفضاء السوري. لقد أحرجني أبي بحريته المطلقة فيما كانت الحرية تفصح عن صورتها أمامه من خلال مشاهد، كانت الأنوثة تُكسبها صور تجلياتها المرحة. كان يغمض عينيه على دمشق ليرى بغداده المنسية خلف تلال قبيحة. قال: "لم نكن نحلم بالحرية. كنا نظن أن الحرية مرسومة على دفتر الموسيقى". وكان أبي عازف عود. كانت دمشق تتثاءب. نام أبي فقررت أن أخرج من البيت لأرى دمشق التي كان الرجل النائم قد قرر اصطحابها إلى نومه.

لديَّ من الوقت ما يعينني على الذهاب إلى مراسم الرسَّامين من أصدقائي. كان منير شعراني قد علَّمني درسًا هادئًا في الحرية. أن تكون منسجمًا مع نفسك. أن تتنفس هواءها الخاص. يا له من اقتراح. وهو ما لم يجده سوريو الثورة المغدورة ضروريًا. لقد ثاروا بغض النظر عن ذلك الانسجام. كانوا محقِّين، غير أن ذلك الانسجام كان محقًا مثلما كان أبي محقًا. فإذا كنا نفكر في الأمل، فإن الأمل لن يقع عشوائيًا إلا إذا كان نوعًا من الخديعة. لن يضع الأمل فرقته الخلاسية عند الباب ويتركها للصقيع. سيكون علينا أن نفرِّق بين اللصوص والباعة المتجولين.

سيكون مؤلمًا أن أعترف أن الحرية التي خرج من أجلها السوريون من بيوتهم وهم يرددون أغاني فيروز كانت قد بيعت بثمن بخس. كانت هناك وليمة شيطانية أقامها المرابون العالميون وكانت المنافسة شرسة بينهم في مزاد كان جمال السوريات بضاعته. فهل أخطا الياسمين الدمشقي طريقه؟ سيكون علينا أن نعترف أن لغز سوريا كان أكبر من أن يستوعبه ثوار شرفاء خرجوا من أجل الكرامة.

يقال مجازًا إن المجتمع الدولي قد تآمر من أجل وأد الثورة السورية. وهي كذبة. فما من أحد في إمكانه أن يدلَّنا إلى المكان الذي يقيم فيه المجتمع الدولي. مثله مثل الضمير العالمي. مصطلحان لا يقولان شيئًا مؤكدًا، فلا معنى لهما. خيانة سوريين هي الأصل في الحكاية. لقد صنع أولئك السوريون أرضًا حرامًا، تسللت إليها القوى الإقليمية والدولية الشريرة لتقيم عليها إمارات الخوف والذعر والكراهية والانتقام. كانت خيام اللجوء جاهزة وصناديق الغذاء المعلَّب هي الأخرى كانت جاهزة. بدلاً من حوران بكل كرمها، كان هناك مخيم الزعتري في الأردن. بدلاً من حمص بضحكتها المتسامحة، كانت هناك مخيمات في عرسال اللبنانية. بدلاً من حلب بشقرة أصوات بناتها، كانت هناك مخيمات في هاتاي التركية. ماذا يريد السوريون أكثر؟ فتحت لهم أسوج ثلاَّجاتها لينزلقوا إلى القطب المتجمد الشمالي.

يؤلمني أن تسألني ريم يسوف، وهي رسَّامة سورية شابة: "متى تأتي ثانية إلى عمان؟". أردت أن أصرخ مشفقًا على نهاياتنا: "لمَ لا تقولين دمشق؟". غير أني خشيت دموعها. كانت كائناتها بيضاء تحلِّق ببراءة طفولية في فضاء لوحاتها فيما كنا نتحاشى الحديث عن الوحوش، وهم أخوة لنا. ألم يفتحوا نوافذ البيت بأيديهم للجيران؟ وهي النوافذ التي هربت ملائكتها من خلالها.

ريم بملائكتها هي الشام الذاهبة إلى غياب.

*** *** ***

النهار

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني