جيل التطبيق بين الافتراضي والمفترَض:
القراءة المنتجة لمعرفة لم تُكتَب بعد

نور شبيطة

ليس عرْضًا أو اختصارًا للدراسة الصادرة في كتاب جيل التطبيق لـ هاورد جاردنر، نورد بعض الأمثلة والنتائج الواردة فيها، ولكن في سبيل أن يفهم الجيل نفسه، وبأنَّ عليه أن ينظر بأناة بالغة إلى البيئة التي تشكله، على الأقل إلى تلك العناصر الجديدة، التي يميزه أنه نشأ في كنفها، وعليه أيضًا أن ينظر في مقابل موضوعي له لكي يرى نفسه في مرآته، وهذا المقابل الموضوعي هو جيل من الأجيال السابقة له، التي نضجت بحيث بلغت سمتًا يخولنا الإشارة إليها ككل مستقر، فأنت تستطيع الحكم على الرحلة بعد انتهائها، وبذلك تستطيع تصويب مسار رحلتك قبل أن تنتهي.

العقل أسير أدواته كما الإنسان تمامًا، ولأنك لن تتناول الطعام بجرافة، ولن تهدم منزلاً بمعلقة، فيجب عليك أن تنتبه للأدوات التي يملكها عقلك، فهي تحدد ما الذي تستطيع القيام به من أفعال، ولا يغيب عن بالنا أننا هنا أمام منتج معرفي غريب عن بيئتنا، وبقدر ما يجب علينا التروي في قبول نتائج المركزية المعرفية الغربية، بقدر ما يجب أن نستفيد من أدوات تلك المعرفة التي أفرزت تلك النتائج، والفرق بين الأداة والمنتَج، يمكن فهمه من خلال عدة أمثلة؛ فبقدر ما يؤذي غرورنا أننا نستورد منتجات التقنية من سيارة وجوال وحاسوب إلخ... بقدر ما نحتفي بإنجاز عربي في صناعة مستقلة لأحد هذه المنتجات، والمثال السابق هو الفرق بين استهلاك التقنية وإنتاجها. وبقدر ما نضيق بدوغمائية من يلتزم بنتائج التحليل الماركسي، في نظرته المتصلبة لواقعنا الذي يختلف عن الواقع الذي خرج ماركس فيه بنتائجه، بقدر ما نحن بحاجة لأداة التحليل الماركسية لتخرج لنا منتجًا جديدًا حين نعالج بها واقعنا، وهذا المثال يتجلى فيه الفرق بين صدى الكلام وبين فهمه. وبقدر ما نحن بحاجة للتخلص من محاولة اجترار نموذج انتهت مدة صلاحيته، وتبعَّجت رؤوس المعلبات التي تحتويه، فأصدرت كل هذا النتن التكفيري والدماء والقتل، بقدر ما نحن بحاجة لمكارم الأخلاق العربية التي تتجلى في التعاليم الخلقية للديانات، وهنا يتجلى الفرق بين دين الآباء ودين العقل.

لذلك فقارئ كتاب جيل التطبيق يجب عليه أن ينظر في النتائج التي تنتج عن تحليل واقع مشترك بينه وبين الأوروبي، دون أن ينجرَّ للإسقاط المباشر لكل ما في الكتاب من نتائج، ويمكن اعتبار ما سبق دليلاً يساعدنا على الاطِّلاع والقراءة بعيدًا عن البرج العاجيِّ للمثقف المغترب عن واقعه، الذي يفهم شخصيات ديستويفسكي أو كونديرا مثلاً، أكثر ما يفهم شخصية أمه أو زوجته، ويبقى يشير لها باعتبارها امرأة بسيطة، مع أنها قد تكون المتحكم الأكبر بل العامل الحاسم في حياته. فإذا أردتَ أن تتعلم الملاحة عن طريق مرافقة ربَّان ماهر، فأنتَ لن تعيد بالضبط ما فعله الربَّان في رحلتكما من الهند إلى الدنمارك، وأنت في رحلة أخرى من التشيلي إلى سنغافورة!

جيل التطبيق الكتاب

الكتاب نفسه هو نتيجة للميكانيكية المشروحة أعلاه، إذ هو كان ثمرة قراءة منتجة لمعرفة غير مكتوبة، فهو مبني على دراسة كان الدافع وراءها كتابان آخران، شكلا في الوقت نفسه الإطار النظري لهذه الدراسة، ثم أجريت الأبحاث الميدانية والعمليات الإحصائية اللازمة، وسنتعرَّض في هذا القسم للإطار النظري والنتائج على عادة المقالات التي تتناول بحثًا علميًا، ثم نعود أدراجنا لمحاولة فهم الجيل نفسه، وللافتراضي والمفترَض.

الإطار النظري للتحليل الخاص بعلم الاجتماع بناه البروفيسور هاورد جاردنر على كتاب الحشد الذي تقتله الوحدة/ ذا لونلي كراود لمؤلفه عالم الاجتماع الشهير داڤيد رايسمن، وكان رايسمن قد قسَّم في كتابه الأجيال في أمريكا إلى عدة أقسام؛ "قبل 1800“: جيل توجهه التقاليد، إذ لم تكن الثورة الصناعية أنضجت جيلاً مستقلاً في المجتمع الأمريكي بعد. و" 1800 – 1950": جيل توجهه الدوافع الداخلية، إذ إن نمط الإنتاج أنضج جيلاً يحس بسلطته على حياته، ولا يرمي بكل شيء على السماء والقدر. و "1950 – 2006": جيل توجهه الدوافع الخارجية، إذ إن عصر الوفرة الاستهلاكية بلغ بالمجتمع إلى حيث أنك تشتري الشيء لأنك ترى أن غيرك اشتراه، ما يسمى بحمَّى الاستهلاك. طبعًا الكاتب لم يحدد بالفعل جيل الدوافع الخارجية بعام 2006، الذي فعل ذلك هو هاورد جاردنر، إذ لاحظ أثر استخدام الهواتف الذكية الذي بات يشكل واقعًا رقميًا يتفاعل معه العقل ويتأثر به، ومن هناك انطلق في بحثه عن الدوافع التي توجِّه هذا الجيل، الذي أسماه جيل التطبيق، وانطلق أيضًا يحلل بيئة تطبيقات الهواتف الذكية فوجد السمات الأساسية للتطبيقات كالتالي: أنها سريعة ودائمًا تحت الطلب، فهي على بُعد عملية بحث واحدة وبعد تنصيبها هي على بُعد لمسة/ أنها ذات مهام منفصلة، فالتطبيقات تكون لمهمة واحدة محددة لا ترد في سياق/ أنها ذات بنيوية عالية، فنحن نتعامل معها كوحدة واحدة وهي تعبر عن مهمتها/ أنها تأتي على هيئة اختصارات "شورت كت"، فهي مثل الاختصارات على سطح المكتب في الحاسوب/ أنها تحمل سمات العلامة التجارية، فكل أيقونة هي بمثابة شعار شركة أو علامة تجارية عالمية. من هنا خلُصَ هاورد جاردنر لمفهوم التطبيق الفائق "سوپر آپ"، وهو طريقة تفكير يورِد عليها شواهد كثيرة، فجيل التطبيق كما يسميه ينظر للحياة على أنها تطبيق فائق، فحسب تصوُّر عينة الدراسة التي أجراها: الشخص الذي يقضي طفولة "صحية"، ثم يتلقى تعليمًا "مناسبًا"، ثم تدريبًا "راقيًا"، سيحصل على "النجاح" بالضرورة. في حين أن كل ما هو بين مزدوجين في الجملة السابقة يعامل معاملة تطبيق، وهذه التطبيقات المتلاحقة هي الحياة بجلها، وهي بالنسبة لهم تطبيق فائق!

أما الإطار النظري للتحليل النفسي، فهو مبني على قراءته في كتاب الطفولة والمجتمع لمؤلفه إيريك إريكسون، وقد استعرتُ منه في مقالة سابقة لي السؤال الأكثر ذكاءً "من أنتم!؟". الإطار الذي بنى عليه هاورد جاردنر تحليله، في أن النفس الإنسانية تواجه ثلاث معضلات خلال ثلاث فترات من حياتها:

-       أولاً، الهوية، خلال فترة المراهقة، وتكون معرَّضة لخطر التشويش على فهمها لدورها في المجتمع، فقد يقبل الإنسان هوية مفروضة من الخارج، أو يرتد لهوية سلبية تمثل النقيض لما يُطلب منه، وبين هذين الخطرين عليه أن يجد دوره.

-       ثانيًا: الحميمية، فكرة إيجاد البيئة الحاضنة أو قبولها، وإيجاد شريك الحياة، وهذا خلال فترة الشباب، فالنفس هنا معرّضة لخطر العزلة وأن تكون منبتّة عن سياقها منفصلة عنه.

-       ثالثًا: الخيال، أو الإنتاج، خلال فترة الشباب الناضج أو الكهولة ، حيث عليها أن تترك نتاجها في الحياة من أبناء أو أعمال أو بصمة في العالم تبقى بعده.

وحسب هذه المركَّبات الثلاث، ينطلق هاورد جاردنر في فحص هذا الجيل لكي يفهمه أكثر، فيضع عينة تحت الفحص ليلاحظ مركبي الهوية والحميمية، ويقارن بين الخيال في أعمال أدبية (قصص)، وأعمال فنية (رسومات) في منشورات المراهقين بين جيله وجيل التطبيق.

جيل التطبيق الجيل

على صعيد الهوية، لاحظ الكاتب أنَّ الهوية المرغوبة اليوم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي هي الهوية التي تتوفر فيها الصفات التالية:

-       أن تكون ملمعة جيدًا، مثل هويات نجوم السينما وعالم الفن.

-       أن تكون مقولبة، ومقدمة بطريقة متكاملة "باكيجد".

-       أن تكون متجنبة للتعرض للخطر، فحتى الواجبات المدرسية تعطى دون هامش للاجتهاد حتى في نوع الورق والخط والأمور الشكلية.

-       أن تكون قابلة للتتبع والتوقع، وبالتالي تصبح سريعًا أسيرة تاريخها.

وعلى صعيد الحميمية، تظهر الدراسة أنَّ جيل اليوم أو جيل التطبيق، يعايشون وَهْم الحميمية، حيث أنهم على تواصل دائم من خلال الشبكة، وأكثر ترددًا في إظهار هشاشتهم وضعفهم، ويعانون من مصاعب في التواصل البصري عند التواصل وجهًا لوجه، وبالتالي فقدرتهم على التعاطف "إيمبيثي" في انخفاض حاد. وهذا كله يندرج تحت وهم الحميمية فمع أنهم يعيشون أغلب وقتهم في الواقع الافتراضي، إلا أنهم قادرون فورًا على فصل أنفسهم عنه بترديد مقولات من مثل، "ليست سوى لعبة"، و"ليس سوى فيسبوك". أمَّا على صعيد الخيال، يجد هوارد جاردنر أن الخيال تناقصَ كثيرًا في النصوص المكتوبة بشكل لا يمكن الالتفاف على فهمه، لكن في الرسومات والعناصر البصرية فهو يصل لنتيجة - أراها أنا خاطئة - أن الخيال البصري تحسَّن وازدهر في عهد جيل التطبيق، وخلافي معه هنا على تحليل نتائج الفحص، وقد أقرَّ في محاضرة له أن كثيرًا من الفنانين اعترضوا على تحليله.

وبمراعاة أنَّ الأجيال في البيئة العربية أكثر تداخلاً، فأنت لن تعدم أن تجد عربيًا عاصر البريد والحمام الزاجل من جهة، و"الواتسات" و"الفيسبوك" من جهة أخرى، كما أسلفت في مقال سابق، وبمراعاة أن الحضارة العربية ركزت على مركَّب مختلف من مركَّبات الذات، غير المركَّبين اللذين ركزت عليهما الحضارة الغربية والشرقية، فالغرب يركِّز على الهوية، بينما يركز الشرق على الخيال والإنتاج، في حين تركِّز الحضارة العربية على الحميمية أكثر من بقية المركَّبات. وبمراعاة أن الهواتف الذكية في الحقيقة هي بيئة مشتركة متقاطعة بين جيل التطبيق الغربي وجيل التطبيق العربي، نستطيع أن نمعنَ النظر في أثر هذه الأجهزة علينا، وعلى طرق تفكيرنا، وإيجاد فهم آخر للتطبيق الفائق بنسخته العربية، ومن خلال ذلك قد نفهم الكثير من الظواهر العجيبة، كعبادة عدد الإعجابات "لايك"، والمشاركات... إلخ.

العالم الرقمي بين الافتراضي والمفترض

لأنَّ المصاديق المختلفة إذا تقاربت صياغات مفاهيمها، فقد يخطف أحدهما الآخر، لذلك يجب عليَّ هنا أن أشير إلى أن ما أقصده في هذه الفقرة، بعيدًا عن طرح سلوفاك چيچيك، حول مفهومه عن الواقع الافتراضي، وافتراضية الواقع، فهو يتحدث عن مفاهيم فلسفية تبحث عن الافتراضي في الواقعي، بينما أنا هنا أبحث عن الواقعي في الافتراضي، وسيتضح القصد شيئًا فشيئًا خلال السطور القادمة.

دراسة جيل التطبيق كلها مبنية على افتراض أو حقيقة تأتي ضمنا، وهو أن البيئة التي يتعامل معها العقل تبنيه وتؤثر فيه بل إنها تؤثثه أيضًا، فالاختراع ينشأ في الأصل عن حاجة أساسية أو رفاهية، ثم وبعد استخدامه يحفر مكانه عميقًا في وعينا، وينتقل لكونه ضرورة ويصبح هو نفسه حاجة ملحة، فالضرورة ليست فقط استخدامه بل هو ضروري لفهم كيف نفكر، لكن أثر هذا الاختراع متعلق بطريقة استخدامه، وإذا كان لنا أن نفرّق بين متوسط استخدامنا للهواتف الذكية، وبين متوسط الاستخدام الغربي لها، فنحن نستطيع أن نقول: إذا كان الغرب أضاع فرصة بناء واقع مغاير أجمل من خلال العالم الرقمي، من خلال محاولاته لمحاكاة أرض الواقع، فنحن نرتكب جريمة في شكل الواقع الافتراضي العربي الذي نخلقه، والذي بدوره يعيد خلقنا بأسوأ هيئة ممكنة!

العالم الرقمي عربيًا عالمٌ تسيطر فيه الخرافة، وينتج نمط تديُّن استعراضي مقيت، يعيد الإنسان فيه صياغة هويته لتلبِّي السباق مع هويات الناس الوهمية، وحين يسقط أسيرًا لتلك الهوية، وتبدأ هويته الوهمية بتقمصه في الواقع، فهو يتحول إلى شخص شكَّلته أوهام الناس عن أنفسهم، فهو هنا جيل مُقاد بدوافع ليست خارجية فحسب، بل دوافع وهمية لدى الآخرين. في الوقت نفسه، ومع كل هذه الصراعات المحمومة على الأرض، فإنَّ الصراع انتقل للبيئة الرقمية، فبتنا نرى إعدامًا افتراضيًا، من خلال خاصية "الحظر" مثلاً، وبالتالي تكريس للاغتراب عن الواقع، فنحن نعيش في بلدان وعوالم مختلفة، مع أنها تشترك في المساحة الجغرافية، وبالتالي فتفهُّم الآخر العربي، بلغ حده الأدنى، في حين تفهم الآخر الغربي ارتفع لسقف لم يصله من قبل، نحن نعيش في عوالم لا تتقاطع بيننا نحن العرب، ولكنها كلها تتقاطع مع العالم الغربي بل وتستمد أسباب بقائها منه، وهذا يجعلنا أحجار شطرنج تتحارب مع أنها عديمة الاحتكاك فيما بينها، وهي على علاقة مباشرة بيد الإرادة الغربية. لا ننسى أيضًا أن نشير في عجالة لسطحية المحتوى الرقمي، وسطحية أخرى في التعامل معه، حيث أن عدد الحروف التي نقرؤها ازداد، لكننا نقرأ منشورات سخيفة مكررة، حتى أنَّ الجدالات في البيئة الرقمية هي مجرد عملية قص ولصق، فهل هذا العالم الرقمي الافتراضي على ما يفترض أن يكون عليه!

يضرب هوارد جاردنر مثالاً عن الفرق بين فيلم توم هانكس المشهور "وصلك بريد/ يوڤ غات ميل" وبين الواقع الذي يراه في جيل التطبيق، فقد كان مستخدمو الانترنت لفترة قريبة يتعرفون على بعضهم في الواقع الرقمي، ثم ينتقلون ليحكموا على بعضهم بشكل أدق من خلال العلاقة وجهًا لوجه، لكنه وجد نمطًا شائعًا جديدًا يسير في العملية بالعكس، حيث يلتقي الشاب والفتاة على أرض الواقع ثم يحكمان على بعضهما من خلال الهوية الافتراضية، هنا لا أستطيع مقاومة إغراء المثال الذي يشكل معادلاً موضوعيًا لما ذكرت، وهو تصديق شباب اليوم لهوياتهم الافتراضية مع أنهم هم أنفسهم بنوها على ما يرونه المفترض، وقد رأيت في حياتي الرقمية مؤخرًا فتيات يجدن في مواقع التواصل الاجتماعي فرصة للتخلص مما يعتبرنه عارًا، فتجدهن يتحولن لنمط التدين الشكلي بمجرد الارتباط. أليس وراء هذا السلوك نفس العقلية التي تعود لتحكم على الواقعي من خلال الافتراضي! ثم تنتقل هذه الهوية إلى الواقع فتجدها تعظ قريناتها اللائي يدركن هويتها السابقة بنَفَس استعلائي، لكن احتمال أن يتكاشف الناس في هذه الحالات ضعيف، كما المثال الذي يضربه جيجيك ليبين "افتراضية الواقع" للاعتقاد بوجود سانتا كلوز بين الآباء والأبناء؛ لو سألت الأب: هل تصدق أن هذا سانتا؟ سيقول: لا بد وأنك تمزح فقد دفعت له ليلعب مع أبنائي. وإذا سألت الابن سيقول لك: بالتأكيد لا وجود لسانتا لكن أبي دفع مالاً لكي يرى ابتسامتنا ولذلك عيب ألا نمثل أننا نصدق. هنا أحاول أن أشير للحالة معكوسة فالبيئة الافتراضية المتدينة ستفرز نمط تدين شكلي وترسخه عميقًا في الواقع، أكثر مما كان، وهنا أنا أتكلم عن واقعية الافتراضي، فما دامت الفتاة التي تحدثنا عنها استبدلت هويتها الافتراضية بالكامل، ولن تضطر لمواجهة نفسها القديمة حسب معاييرها الجديدة، فهي ستصدق زيفها شيئًا فشيئًا، بالضبط كما نرى في بيئتنا أن التدين يمثل تقاعدا للبلطجية وشذاذ الآفاق، وهم لهذا يسيئون الظن في غيرهم دائمًا بعد أن يصبحوا "شيوخًا"، ألم يقل أبو الطيب:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه          وصدَّق مـــــــــــــــا يعتاده من توهُّمِ

كل ما سبق هو واقع عربي متحايث، متشابه لكنه غير متداخل بين العرب، وهو في حاله هذا لا يتقاطع مع الواقع الغربي، بالتالي فعلينا إعادة قراءة واقعنا مستخدمين هذه الأدوات ومنتبهين لها، فصورتنا عن أنفسنا باتت سيئة للغاية، وهذا يُكرَّس أكثر من أي وقت سبق، من خلال جلد الذات الرقمي الذي يمارسه الناس بتكرار هائل، معتمدين في ذلك على تمجيد الغرب والأمم الأخرى مع أن لكل أمة همومها وأمراضها، وسبب هذا في رأيي هو نفس النفَس الاستعلائي الذي يخوِّل الفرد انتقاد المجموع الذي لا يعيِّنه، فينتقده من خلال التعميم، ليبدو أفضل منه وأتقى وأنقى. دعونا لا نهمل أن الاختراع إذ يساهم في خلق عقلية الفرد من خلال تقديمه بيئة جيدة بأنماط جديدة، فهو يساهم في خلق الوعي الجمعي ويحفر فيه عميقًا أنماطًا لم تكن موجودة من قبل. نحن نتحول إلى وحوش وكائنات مزيفة فخورة بزيفها ووحشيتها، وكي لا أنضم لقائمة جالدي الذات، عليَّ أن أشير إلى إيجابية أننا ما زلنا نحتفي بواقعنا الحميم، وإن كان يتأثر بشدة من خلال غزو الهواتف الذكية للجلسات الاجتماعية، فالناس تكاد تفقد مهارتها في الحديث، حيث لا تضطر لوصف مشهد يمكن اختصار الحديث عنه من خلال نقل الهاتف من يد ليد. ومن يدري ربما يكون هناك آثار إيجابية لهذا التغيير مع أنني أقف موقف المتشكك، لكن في نفس الوقت أوجِّه نظري لكون الأمر عندنا في بدايته ومن الممكن أن تكون بعض صفات جيل التطبيق إيجابية في حالتنا، فيكسبها دون أن يخسر إيجابيات أجيال سبقته، كون الأجيال أكثر تداخلاً في البيئة العربية، حيث أن من أهم المميزات هي أن جيل التطبيق أكثر قدرة على التفكير المنفصل، وبالتالي أقدر على تقمص عدد أكبر من العقليات والمنظومات الذهنية، وهذا قد يساهم في توسيع خياراتنا، وفي فرض الحيرة المطلوبة التي تدفعنا لتفعيل إراداتنا في سلوك ذي وعي بما نريد أن نكون، وفي نفس الوقت تتيح لنخبنا الاطِّلاع على أدوات فكرية بعيدة عن بيئتنا بحيث نضطر للاستفادة من الأداة ذاتها لا أن نكون صدى للغرب حتى في تصورنا عن مشاكلنا وحلولنا، وبالتالي إفراز نخب محلية حقيقية غير أبواق الغرب التي ستجد نفسها قريبًا عاجزة عن تقديم أي حل مقنع للشعوب، لأن المشاكل والحلول المستوردة لن تكون بضاعة مناسبة لسوقنا ومقنعة له، هذا إن بقيت الشعوب محافظة على إرادتها بأن تقتنع أو لا! وأظن أن الجيل الذي ينشأ اليوم في ظل التطبيقات سيكون أكثر وعيا باغتراب الجيل الذي سبقه، ويمتلك قدرة أكبر على الحسم، يبقى أن يكون في المحتوى الرقمي العربي ما يساعده على الحسم في الاتجاه الصحيح عندما يقرر ذلك، سنرى قريبًا حركات سياسية بل ودولاً بأكملها، تنشأ افتراضيًا وتبحث في العالم الرقمي عن شكلها المفترض، ثم تنزل إلى الواقع وكأنها خلقت منه. العامل الحاسم هنا تفاعل الأجيال العربية مع بعضها البعض، وهذا ليس صعبًا لأنها أجيال متداخلة من ناحية العمر والبيئة، هذا الاتصال مهم للغاية فعصر التلفاز كان حريصًا على قطع الحبل السري الذي يغذي جنين الجيل القادم من خبرة الجيل السابق، ووصل الجنين على ماكينة الإعلام الغربي الناطق بالعربية، أخيرًا فكتاب مثل جيل التطبيق مهم لتحقيق فهم أكبر وبالتالي اتصال أفضل بين الأجيال عربيًا، في سبيل حبل سُريٍّ يغذي الجنين بثقافة أمه وأمته.

*** *** ***

راديكال