موقع الإنسان في الطبيعة

 

د. قيصر زحكا

 

يتميز الإنسان عن كل الكائنات الحية الأخرى بالقدرات اللغوية والتفكيرية والذكائية والعاطفية، والأهم من ذلك بالقدرات الابتكارية وتغيير الواقع الذي نعيش فيه. لاشك أنه وجدت عند بعض الكائنات الأخرى قدرات معينة على التخاطب والتفكير والذكاء، ولكنها تظل بدئية جدًا أمام الكم والكيف الهائل الموجود عند الإنسان، وكذلك عدم قدرتها على ابتكار وتغيير واقعها إلا بشكل ارتكاسي تجريبي، والأهم من ذلك عدم قدرتها على البصيرة وتحليل نفسها من خلال ماضيها وحاضرها وما ستؤول إليه في مستقبلها، وعدم تفكيرها بنظرة شمولية نحو الكون والحياة والموت وما بعد الموت... إلخ. كذلك لا تستطيع الأحياء الأخرى أن تحلِّل ما تفكر به، وأن تحلِّل طريقة التفكير التي تفكِّر بها والمشاعر التي تشعر بها، بل تنجم معظم تصرفاتها عن غرائز وارتكاسات بدئية. لم تبنِ الكائنات الأخرى حضارات – حسب ما عندنا من دلائل حتى الآن على الأقل.

نظرت الأديان السماوية وغير السماوية نحو الإنسان نظرة خاصة وأعطته مكانة خاصة وبالتالي مسؤولية خاصة وعبئًا كبيرًا لأنه الكائن الوحيد تقريبًا الذي يستطيع تغيير أفعاله وارتكاساته ومصيره. اختار جلجامش لنفسه أن يجيب عن حتمية القدر وإمكانية تغييره، وبالتالي فصل بين ما يسمى بالقدر Destiny والمصير Fate، فالثاني يمكن تغييره، أما الأول فلا. قد يكون قدري أن أولد لأهل معينين وفي بيئة معينة وفي ظروف معينة جيدة أو قاسية وصعبة، وألا يتعلم كل من حولي، وأن أموت بعد عمر معين؛ لكن أستطيع بخيارات معينة أن أغير من واقعي وأن أتعلم وأطور نفسي وأن أتجاوز أفكار الحقد والغيرة والبغض والطائفية التي كان عليها أهلي، كما أستطيع من خلال التغذية الصحيحة والرياضة والصحة النفسية وتقليل الغضب والتوتر أن أجعل حياتي أكثر سلامة وغنى وصحة وربما أطول عمرًا.

نظر الصينيون القدماء إلى الإنسان على أنه جزء لا يتجزأ من ثالوث هو السماء والأرض والإنسانية. نعم لأن الإنسان هو ما يربط السماء بالأرض. هو الوحيد الذي يستطيع بروحه السموَّ نحو السماء وبجسده حضن الأرض وحمايتها. الحيوان والنبات والجماد لا تستطيع هذا. روحها وعقلها لا تستوعب السماء، والملائكة لا تستطيع هذا لأن ليس لها جسد ليحضن الأرض ويختبر تجارب الأرض. فقط الإنسان يستطيع وصل السماء بالأرض. اعتبر الصينيون ككل الحضارات الأخرى أن الإنسان مثال مصغر عن الكون، كقول ابن عربي: "... وفيك انطوى العالم الأكبر".

اعتبرت السماء والأرض والإنسانية موجودة في الإنسان. السماء على شكل الروح، الأرض على شكل المادة أو الجوهر، والإنسانية على شكل الطاقة Chi أو النفس، وسميت هذه بالكنوز الثلاثة، واستعملت هذه المبادئ من خلال أنظمة غذائية ورياضية وعادات حياتية ونفسية وروحية معينة من أجل الحفاظ على الصحة، وتحسين الحيوية والطاقة في الجسم، تطوير القدرات الروحية والبصيرة وإطالة الحياة. نرى الأصداء نفسها في معظم الحضارات الأخرى من الهندية والمصرية وغيرها.

سننظر الآن باختصار بالغ إلى التنوع الهائل من الناحية الجسدية والعاطفية والفكرية والروحية التي يتمتع بها الإنسان، وكيف نظر الإنسان منذ القدم وحتى الآن لفهم هذه الإمكانات والقدرات الهائلة، والتي ثبت علميًا أننا لا نستعمل أكثر من 15% منها عمليًا، وأن هناك 85% من الآفاق الهائلة التي ربما لا ندرك شيئًا عنها.

أولاً: من الناحية الجسدية

هناك 4 أعراق أساسية: الأول هو القوقازي ويشمل الأوروبيين والآريين الآخرين من إيرانيين وهنود وأتراك وغيرهم، والساميين من عرب ويهود... إلخ. الثاني هو العرق الإفريقي الأسود. الثالث هو العرق المنغولي الأصفر ويضم شرق آسيا والهنود الحمر. والرابع هو الأوقيانوسي ويضم سكان أوستراليا الأصليين، وسكان جزر المحيط الهادي من بولينزيا وميكرونيزيا وميلانيزيا مثل سكان هاواي وتاهيتي وغيرهم.

في كل عرق، هناك 3 أنماط جسدية أساسية هي: الأندومورف والميزومورف والإيكتومورف:

-       الأندومورف هم الأشخاص الذين يملكون استعدادًا أكبر لتراكم الشحوم في البطن والحوض والفخذين. يكون عندهم صعوبة بخسارة الوزن، جسم طري وجلد ناعم، شكل جسم مدور وعضلات غير نامية وجهاز هضمي نام جدًا. نظام عمل الجسم يميل نحو الجهاز الهضمي.

-       الميزومورف هو النمط المتوسط الوزن، ونظام عمل الجسم عندهم يميل نحو العظام والعضلات والأنسجة الرخوة. عادة طول متوسط مع كتفين بارزين وجلد سميك وقدرة تحمل جسدية واضحة.

-       الإكتومورف هو النمط النحيل ونظام عمل الجسم يميل نحو الجهاز العصبي. يكون هؤلاء الأشخاص شديدي الحساسية، ناعمين مع بناء عضلي قليل وكتفين متهدلين، طرفين سفليين طويلين نسبيًا ورأس كبير نسبيًا للجسم.

من الناحية النفسية، يكون أصحاب الأندومورف محبين للراحة والهدوء والاسترخاء، اجتماعيين، متحملين جدًا، محبين ونادرًا ما يغضبون. أما الميزومزرف فيميلون للتحدي والمغامرة والرغبة بالسيطرة والقوة والشجاعة ولا يهتمون كثيرا بمشاعر الآخرين، أما الأكتومورف فيميلون للعزلة، موهوبين، فنانين، مفكرين ولا يظهرون عواطفهم.

يكون فقط 20% من الناس أندومورف أو ميزومورف او إكتومورف صافين، وأغلب الناس يكون عندهم ميل لنمط معين، مع بعض الخصال من النمطين الآخرين. على هذا الأساس، قام العالم Sheldon بوضع أرقام من 1 إلى 7 لكل نمط. الرقم الأيسر يشير للأندومورف والأيمن للإكتومورف، وعليه فإن شخصا رقمه 711 يعني أنه أندومورف بشكل كبير، مع صفات شبه نادرة من الميزومورف والإكتومورف، بينما 171 تعني شخص ميزومورف بالدرجة الأولى، بينما 424 فتعني عنده نصف صفاته تقريبًا أندومورف ونصفها اكتومورف مع القليل من الميزومورف، وبالتالي أكثر توازنًا في صفاته.

أدخل لاحقًا ما يسمى العامل G على يد مجموعة من العلماء الإيطاليين لبيان درجة الصفات الجسدية الذكرية والأنثوية عند شخص معين، فرجل ذو عامل G 1/7 يعني غلبة كبيرة للصفات الذكرية عنده وكذلك أنثى بعامل G 1/7 يعني غلبة الصفات الأنثوية عندها، وكلما ارتفع الرقم ازدادت معالم الجنس الآخر في هذا الشخص، وازداد احتمال اختلاف الرغبات الجنسية إلى أن نصل لرقم 7/7، وهو الذكر الأنثوي التصرفات بالدرجة الأولى والأنثى الذكرية التصرفات بشكل رئيسي. تبين أن معظم الناس يقعون في المجال 3-5/7، ويندر 1/7 كما يندر 7/7.

هناك تمييزات جسدية أخرى عديدة جدًا لن أطيل فيها وأذكرها فقط مثل BMI، وهي نسبة الوزن بالكغ إلى مربع الطول بالمتر، مما يدل على درجة الصحة والوزن المثالي بشكل عام وخاصة إذا كانت حوالي 21 - 28 عند الرجل و19 - 27 عند المرأة. أيضًا موضوع الصورة الداخلية للشخص عن نفسه، أو ما يظن الشخص كيف الناس تنظر إليه. بشكل عام، تعتبر المرأة نفسها أكثر وزنًا مما يراها الناس حقيقة، على العكس من الرجل الذي يعتبر نفسه أقل وزنًا مما يراه الناس فعلاً.

اشتهر الصينيون بشكل خاص، والهنود والعرب والإغريق بشكل أقل بدراسة الوجه ونسبة أجزائه لبعضها، واليدين والقدمين والأذنين لتحديد طبيعة الجسم. هل الشخص يانغ أو ين، نمر أو تنين، أيضًا نسبة الرأس للجسم، تناظر الجهتين اليمنى واليسرى، التناظر الأمامي الخلفي. اشتهر الكثير من علماء النفس الغربيين بإعطاء 5 نماذج أساسية للوجه: المثلثي، المربعي، المخروطي، البيضوي والدائري، والذي يتسم كل واحد منها بصفات معينة، أما الصينيون ومن خلال علم الـ Siang Mien فقد قسموه لـ 7 أنماط: الحديدي، الناري، الأرضي، المخروطي، الحائطي، الشجري ومثل حبة المجوهرات.

اشتهر المصريون وبلاد الرافدين والإغريق بدراسة اليدين ووضعوا 4 أنماط: مائية، أرضية، نارية وهوائية، كما أضاف الأوروبيون لاحقًا سبعة أنماط: اليد الأساسية، يد الفلاسفة، اليد المخروطية، يد المواهب النفسية، اليد المسطحة، اليد المربعة، اليد المختلطة. وُضعت أيضًا تأثيرات فلكية على اليد من خلال تقسيم اليد لمنطقة تأثير الزهرة والقمر والمريخ والمشتري وزحل والشمس وعطارد ومن خلال دراسة الخطوط.

من خلال كيفية تعامل الإنسان مع الآخرين، ذكر الصينيون خمسة أنماط: المكتشف، الساحر، المربِّي، الخيميائي والمفكر. ووضع الصينيون للإنسان خمسة أنماط: خشبي، ناري، أرضي، معدني ومائي. ومزج الهنود خلائط لتلك الأنماط الخمسة ليخرجوا بنظرية الدوشات الثلاثة ودرجة التوازن بين هذه الدوشات بطريقة مقاربة جدًا لمفهوم الميزومورف والإكتومورف والأندومورف.

من ناحية المزاج، وضع الإغريق والعرب نظرية الخلائط الأربعة: الدم، البول، البلغم والصفراء. وقسموا الأشخاص إلى دمويين، مالنخوليين، بلغميين، أو كوليريين. وقارنوا بين الطبيعة الحالية وطبيعة الطفل فينا. وقد أُدخلت نظرية الأبراج الشرق أوسطية والأبراج الصينية لتكشف معالم أخرى من مزاجنا وشخصيتنا، واختبارات أخرى لتوضح هل يغلب عندنا نصف الدماغ الأيسر المنطقي العقلي أو الأيمن الحدسي الانطباعي، وهل ارتكاسنا الأساسي أمام المواقف الصعبة هو الهرب أم المواجهة أو التجمد Freezing أو زيادة الطعام أم الجنس... إلخ؟

ثانيًا: من الناحية العاطفية

يعاني الإنسان بشكل عام من صعوبة في التعامل مع مشاعره وأحاسيسه الداخلية، ودرجة هذه الصعوبة تختلف من شخص لآخر، والغريب أن الإنسان يحاول دائمًا وضع منطق للأمور، مع أن الجزء العاطفي من دماغنا يشكل أكثر من نصف دماغنا، إذا أخذنا نصف الدماغ الأيمن والجهاز اللمبي وتحت المهاد واللوزة وأجزاء من المهاد والأتبة. هناك العديد من التقييمات والأسئلة التي وضعت لتحديد درجة تعامل الإنسان مع مشاعره، وهل هو فعلاً يتمتع بدرجة عالية من الحرية عاطفيًا وسلوكيًا، أم هو مأسور بأحكام عائلته ومجتمعه؟

يقول جلال الدين الرومي:

تشكل الطيور دوائر كبيرة في السماء بسبب حريتها. كيف تتعلم هي هذا؟ من خلال سقوطها، وبسبب سقوطها أُعطيت أجنحة.

هناك جداول لتقييم درجة سعادة الإنسان مع نفسه، والرضى الذي يشعر به مع نفسه، هل يعاني من مخاوف معينة؟ هل هو النمط المحارب المواجه، هل هو النمط المطيع المستجيب، هل هو المراقب عن بعد، النمط التخيلي، النمط الحسي، النمط الرومانسي. هل تشعر بالذنب عن كل خطأ يمر بك، أو بالعكس تنكر حتى داخليا كل مسؤولية وذنب؟ لأية درجة تستطيع التعامل مع التوتر النفسي، هل أنت مستقر بعواطفك أم عندك بعض الاختلال به؟ هل أنت بارد عاطفيًا؟ والمهم جدًا هل أنت منطو Introvert أو اجتماعي جدًا ونحو الخارج Extravert؟

حسب نظرية الأخلاط الأربعة للإغريق والعرب وهي الدم والبول والصفراء والبلغم، هناك 4 أنماط أساسية للبشر (المخطط رقم 1):

-       الدمويSanguine : شخصية القائد، المتحدث، الاجتماعي، غير المهتم بمشاعر الآخرين وتكون صفاته العاطفية حسية فكرية، ومن جهة أخرى اجتماعي أو نحو الخارج، مستقر.

-       الكوليريCholeric : متفائل، وسواسي، عدواني، لا يكلُّ ولا يهدأ، يحب التنافس. صفاته العاطفية حسية حدسية، ونحو الخارج Extravert، لكنه غير مستقر.

-       المالنخوليMelancholic : مزاجي، قلق، متشائم، هادئ، غير اجتماعي، يحب العزلة. هو عاطفي حدسي، ونمط انطوائي غير مستقر.

-       البلغمي Phlegmatic: يحب السلام، هادئ، يٌعتمد عليه، حذر، سلبي، يفكر بالآخرين. هو عاطفي فكري، انطوائي لكن مستقر.

ثالثًا: من الناحية العقلية

تقوم مناطق مختلفة من الدماغ بأدوار مختلفة وأعمال مختلفة منوطة بها، فالنصف الأيسر من الدماغ مسؤول عن الحركة والحس في الجانب الأيمن من الجسم، والنصف الأيمن من الدماغ مسؤول عن الحركة والحس في الجانب الأيسر من الجسم. يتميز النصفان عدا ذلك بأمور كثيرة أخرى، فالنصف الأيسر مسؤول عن الأمور المنطقية واللغوية والحسابية بشكل أكبر، بينما النصف الأيمن مسؤول عن الأمور الحدسية والفنية والفراغية بشكل أكبر. يلعب القسم الأمامي من الدماغ الأيمن والأيسر الدور الأكبر في المحاكمة اليومية والتخطيط والتنفيذ والأدائية وتكوين الشخصية، بينما تلعب الأقسام الخلفية الدور الأكبر في الحواس والاستقبال؛ فإدراك البصر يقع في المناطق القفوية، والسمع في المناطق الصدغية الخلفية، والحس المناطق الجدارية، وعليه فإن درجة تطور هذه الدارات ونموها في منطقة معينة له علاقة كبيرة بمقدرات هذا الشخص بالذات، وعليه نرى الشخص التحليلي والشخص الرقمي والميكانيكي الأدائي والفراغي واللغوي والبصري... إلخ، فنرى أناس يتميزون بالمنطق اللغوي للأشياء، وآخرون بالمنطق التجريدي، وآخرون بالمنطق الميكانيكي والأدائي وكيفية عمل الأشياء، أما آخرون فعندهم منطق فراغي وكيفية توضع الأجزاء المختلفة والأشياء في الفراغ. هناك أناس منطقهم رقمي، وهذا طبعًا ينعكس على حسن أداء الشخص لعمله، وكما يقال: "الإنسان المناسب في المكان المناسب"، فالإنسان اللغوي المنطق لا يصلح أن يكون مهندس ميكانيك أو عامل كهرباء، والناس الميكانيكيون لا يصلحون للعمل الإداري الروتيني أو علماء اقتصاد مثلاً.

طبعًا كما ذكرت سابقًا بالنسبة للطبائع الجسدية، فإن أغلب الناس يتمتعون بأكثر من منطق. يحتاج الفلاسفة وعلماء النفس والمحامين وصحفيو المجلات العلمية بالدرجة الأولى للمنطق التحليلي واللغوي، بينما يحتاج علماء الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والموسيقيون إلى المنطق الرقمي ومنطق المفاهيم Perceptional، ويحتاج علماء الإحصاء ومحلِّلو البرامج ومدرِّسو الموسيقى المنهجية وأهل البورصة للفكر الرقمي والتحليلي. يحتاج النحاتون والرسامون والطيارون ومخططو الأبعاد الثلاثة والـ Multimedia إلى التفكير الفراغي والمفهومي، أما المهندسون المعماريون وعمال الإنشاء وتقنيات المعلومات والمخططون الغرافيون Graphic design إلى الفكر الفراغي مع الرقمي (أكثر من المفهومي كالسابق).

يتميز الرجال عن النساء بشكل عام بالتفكير الرياضي، لكن بالحسابات بحد ذاتها فالنساء أفضل. يتميز الرجال بالمهارات الفراغية وبتدوير الأشكال بعقلهم وبإصابة الأهداف الدقيقة وبفهم الأشياء من ناحية فيزيائية وبتحليل المعلومات المعقدة وباكتشاف الأشكال المستبطنة ضمن أشكال معقدة، أما النساء فتتميز بأنها أكثر تعاطفًا وتعاونًا وحكمًا على تصرفات الأشخاص الآخرين، وتكون أسرع من الرجال بالمواهب اللغوية والتهجئة، وإدراك المعاني الخفية للكلمات، وأفضل بتقدير التشابهات بين الأشياء والاختلافات بينها، مثل الشيء الناقص في صورة معينة أو ماذا يشبه ماذا؟ وأفضل من الرجل بكثير في المناورات اليدوية الدقيقة وفي الحدس. مع هذا، قد نرى بعض الرجال الذين يتمتعون بهذه المهارات الأنثوية والعكس بالعكس.

تختلف أيضًا شخصية الناس في العمل، فمنهم من له طبع المدير المكتبي، ومنهم طبيعة المتحكم ومنهم المراجع للأشياء ومنهم الناصح ومنهم من هو جيد بالعمل مع الآخرين، ومنهم من يفضل العمل وحده.

إن أهم القياسات العقلية التي وضعت على الإطلاق لتمييز أنواع الناس هو ما يسمى بالإينياغرام Enneagram. تم وضع هذا المخطط ذو التسع أبعاد من قبل العالم الروسي Gurdjieff، ولكن يبدو أن بدايات استعمال هذا المخطط تعود لأربعة آلاف عام خاصة في الشرق الأوسط. عرف عن دراويش النقشبندي باستعمال مخططات مشابهة من أجل الارتقاء بالتلاميذ الروحيين. غوردييف نفسه اعتبره رمزًا للحركة الديناميكية للكون، ولكن في القرون الخمسة الأخيرة، صار الإينياغرام يستعمل كثيرًا في الطب النفسي. (المخطط رقم 2، 3، 4، 5)

المخطط 2

المخطط 3

المخطط 4

المخطط 5

الأنماط الأساسية التسعة هي: 1) القاضي، 2) المساعد، 3) النرجسي، 4) الفنان، 5) المراقب، 6) البطل، 7) الانتهازي، 8) القائد، 9) واضع السلام Peacemaker.

القاضي والمساعد هي طبائع حسية بالدرجة الأولى، الفنان والمراقب هي طبائع شاعرية عاطفية بالدرجة الأولى، الانتهازي والقائد هي طبائع تفكيرية بشكل خاص، يكون النرجسي خليطًا من الحسي والعاطفي. يكون واضع السلام خليطًا من التفكيري والحسي. يكون البطل خليطًا من التفكيري والعاطفي.

لكل نمط من هذه الأنماط التسعة فضائل معينة، ولكن أيضًا إشراطات معينة وتركيز على ناحية معينة دون الأخريات، وعليه بإدخال صفات معينة من نمط معين آخر قد يكون مفيدًا من أجل إزالة هذه الإشراطات وزيادة الطاقات الإيجابية والسعادة، وبالعكس فإن إدخال صفات من نمط آخر غير مفيد قد يلعب دورًا في زيادة تلك الإشراطات. النمط المساعد على سبيل المثال يتمتع بالتواضع والكرم، مشكلته أنه يتطلب من الآخرين الاعتماد عليه ويحتاج للمدح المستمر والفخر، يتمتع بالتخطيط للمستقبل ولعالم أفضل، يحب الجمال والفن ومساعدة الآخرين، يتمتع بالعطاء أكثر من الأخذ ولكنه يحتاج للعلاقات والإطراء والمدح دائمًا. غالبًا ما تكون طفولة هؤلاء الأشخاص من خلال أهل متطلبين مسيطرين، وعليه تعلَّم هؤلاء الناس أن يعطوا الكثير من أجل أن يكونوا محبوبين. يساعدهم عادة أخذ صفات من النمط 4 أي الفنان، إذ يجعلهم يعطون لأجل العطاء وليس للإطراء والتقدير، ويجعلهم واضحين بشأن ما هو جميل وعملي، أما أخذهم لصفات النمط 8 أي القائد يجعلهم عصبيين مسيطرين، غاضبين لأتفه الأسباب.

أخيرًا يختلف الأشخاص أيضًا من الناحية العقلية حسب الطريقة التي يتعلمون بها وكيفية ذكائهم؛ فمنهم من يمتلك الذكاء اللغوي اللساني، ومنهم الذكاء المنطقي الرياضي ومنهم الفراغي ومنهم الموسيقي ومنهم الحركي ومنهم الذكاء الاجتماعي والتواصل مع الآخرين، ومنهم الذكاء الداخلي.

رابعًا: من الناحية الروحية

رغم أن الشهرة العظمى في علم النفس كانت من نصيب سيغموند فرويد وكارل غوستاف يونغ، إلا أنه ربما أعظم عالم نفس في القرن العشرين هو جورج إيفانوفيتش غوردييف Gurdjieff المذكور سابقًا، فهو ليس فقط واضع الإينياغرام الحديث، بل أيضًا واضع التصنيف السباعي للنفس والروح، مما أوصله لمستويات أعلى بكثير من التي توصل إليها فرويد ويونغ بالإضافة إلى النمط الحسي والعاطفي والتفكيري في الإينياغرام، هناك نمط رابع هو الجسر الذي يصل الأنماط الثلاثة العليا بالدنيا، ويسمى النمط الحدسي، ويظهر خاصة في أصحاب الأنماط الثلاثة عند الخروج من مرحلة النوم للاستيقاظ. يأتي بعدها الأنماط الثلاثة العليا، وهي المركز العقلي الأعلى، المركز العاطفي الأعلى والمركز الحركي.

وضع الفيلسوف وعالم الرياضيات الألماني Gottfried Wilhelm Leibniz مفهوم الدرب التجاوزي الذي يصل بالجسم نحو العقل وبالعقل نحو النفس وبالنفس نحو الروح، وعليه أعطى للوعي 7 درجات (المخطط رقم 6):

1.    الطبيعة الفيزيائية للوعي ومسؤول عنه الدماغ القديم، ودماغ الأشكال البسيطة من الحيوانات.

2.    العقل، ويقصد به عقل الثدييات والدماغ المتوسط.

3.    العقل الأعلى ويقصد به الدماغ الحديث وهو واع لنفسه، منطقي، يحلل نفسه.

4.    النفس النفسانية أو psychic soul: بقدراتها النفسية الشامانية (الشفائية والسحرية) والقوى السيدهية المعروفة في الهند بالتخاطر مع الإنسان والكائنات الأخرى وغيرها.

5.    النفس الرقيقة أو القدسية.

6.    الروح السببية أو ما يسمى عقل الحكيم.

7.    الروح العليا أو ما يسمى بالتنور المطلق.

أما على مستوى درجات الوعي عند الشخص فهي موازية لدرجات تطور الوعي الكوني وتشمل:

1.    الجسم الفيزيائي.

2.    الجسم الأثيري أو الطاقي.

3.    الجسم الكوكبي.

4.    الذات وهي الوعي الشخص لذاته.

5.    الماناس وهو الوعي الكوني الشخصي.

6.    البودهي وهو المبدأ الكوني الإلهي.

7.    الأتمان وهي أعلى درجات الوعي والذوبان في الوعي الكوني.

يختلف الأشخاص كثيرًا من الناحية الروحية في اهتماماتهم وقدرتهم على الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة: 1) من أين أتيت؟ 2) من أنا؟ 3) إلى أين أنا ذاهب؟

أنماط الإيمان

يميل بعض الأشخاص إلى كونهم من النمط المؤمن التقليدي ومنهم من هو مفتوح إلى قناعات مختلفة. حتى من الناحية الإيمانية، تختلف أنماط الناس والطرق التي يتبعونها في إيمانهم. هناك، بشكل عام، أيضًا تسعة أنماط أساسية تقع ضمن النمط الحسي أو العاطفي أو التفكيري.

أولاً: الأنماط التفكيرية للإيمان: وهي ثلاثة:

1. النمط المؤمن الفيلسوف: مثل هيراقليط وفيثاغورث وابن رشد والحجاج ولاوتسو... إلخ. عندما نسمع بعض ما قاله هيراقليط في اليونان، نظن أنفسنا نسمع لاوتسو في الصين على بعد آلاف الأميال. يقول هيراقليط مثلا:

رغم أن الحقيقة أزلية القيمة، مع هذا لا يفهمها الناس، ليس فقط قبل أن يسمعوها، بل حتى بعد سماعها.

بينما يقول لاوتسو:

ما أقوله سهل التطبيق، لكن لا أحد يفهمه ولا أحد يطبقه. إن الحكيم هو من يلبس معطفًا مهترئًا عالمًا أنه يحمل الجوهرة في صدره. ما تراه الدودة نهاية هذا العالم، يسمِّيه غيرها فراشة.

يقول هيراقليط:

الانسجام الداخلي أفضل من الظاهري، والتعارض يخلق الانسجام. من التعارض يولد الانسجام، وفي التغيير المستمر تجد الأشياء الراحة. لا يفهم الناس كيف أن الاختلاف مع الذات يتفق مع الذات.

بالمقابل يقول لاوتسو:

يولد العالم المرئي من عالم لامرئي، وعالم الأشكال من عالم اللاأشكال. ما يدعى بالتاو هو فوق المرئيات، ومع هذا يوجد فيه كل الأشكال. هو أسود وغامض، ومع هذا يحوي كل طاقة الحياة. يُخلق العالم المرئي من هذا الفراغ اللامحدود. دورة الخلق تأتي بعد كل اكتمال. يعطي التاو كل الخلائق، ومع هذا لا يُنهك أبدًا.

2. النمط الثاني هو نمط المؤمن الواقعي: يكثر ظهوره في الأوساط العلمية وفي بعض مدارس اليابان والصين والهند. كان Ikkyu في اليابان مثالاً على هذا، وهو يقول إن كل الكلمات مثل:

تنوُّر، تحرُّر، نيرفانا، استنارة... إلخ كلها كلمات وهمية، لأن الطبيعة القدسية أو طبيعة البوذا موجودة فينا أصلاً ولا تحتاج لفعل أي شيء حتى نظهرها. كلما اتبعنا طريقة معينة، نكون قد وضعنا إشراطات جديدة، حتى الحياة والموت ليست جزءًا من العالم الحقيقي، ويجب ألا نركِّز على هذه المفاهيم. إن قولنا عن شخص أو شيء بأنه جيد أو سيء، سعيد أو تعيس، هي فقط جزء من تفكيرنا المنهجي الآلي التصنيفي، ولكن العالم الحقيقي لا يحوي حدودًا أو حائطًا. هو واحد.

[...]

إذا أمطرت الدنيا فلتمطر، وإذا لم تمطر، لا تمطر. ولكن هل من الضروري ألا تمطر؟ عليك السفر بأكمام مبللة.

نرى الكثير من أشباه هذا الكلام في مدارس الزن اليابانية وعند كريشنامورتي مثلاً:

أن نُكتب شيئًا ونتركه خلفنا، هو حلم فقط، لأننا عندما نستيقظ، ندرك تمامًا عدم وجود أي شخص أصلاً ليقرأه.

3. النمط الثالث: المؤمن غير التجزيئي: مشابه كثيرًا للنمط السابق، يعتمد للوصول إلى اللاعقل من خلال العقل. له طرق مشهورة جدًا في بوذية الزن. أهم معلمي هذه الطريقة Sengstan, or Sosan الذي اعتبر عقلنا غير مستقر وغير صحي Dis-eased، ويعتبر سوسان العقل عظيمًا جدًا ويقوم بأعمال هامة جدًا، ولكن لا يمكننا الوصول إلى الوحدة والحقيقة المطلقة من خلال العقل الذي يجزِّئ دائما ويميز الخير عن الشر، وذاك الشيء من ذلك الشيء.

ثانيًا: الأنماط العاطفية للإيمان

أولاً: النمط المحب: هم الناس الذين يتجهون نحو الإيمان بالله عز جلاله، عن طريق محبة خالصة دون شعائر أو طقوس أساسية، مثل رابعة العدوية مثلاً وكثير من الصوفيين، كذلك ما عرف عن رهبان الباول في البنغال: هم دائمًا على الطريق، ليس لهم مسجد أو معبد أو حتى كتب دينية يعتمدون عليها، ليس عندهم إلا قطعة لباس وآلة موسيقية بسيطة. معنى كلمة باول بالسنسكريتية: "مهووس ومصاب بالريح". طريقهم هو طريق الحب. يقولون:

لتكن قدسية الأرض هدفك ما دمت على الأرض. قلبك يقودك إذا أردت الوصول لمن لا طريق له. ضع على قدميه ورود أحاسيسك، لتغرق عينيك صلوات دموعك.

ثانيًا: النمط المصلِّي: الديانات السماوية هي نمط عابد مصلِّي بالدرجة الأولى، سواء اليهودية أم المسيحية أم الإسلام. إن أجمل ما كتب من أشعار في هذا السياق كتاب لمعات لفخر الدين عراقي من القرن الثالث عشر.

ثالثًا: نمط الورع والتقوى: هو الإيمان عن طريق اتِّباع حياة عادية في المجتمع، وأن يكون للشخص دور فعال في المجتمع، لكن مبني على الصدق، التواضع، الإخلاص، التعاطف مع الآخرين، الاكتفاء بأبسط الأمور الأساسية في الحياة دون جشع أو طمع، وبهذا فهو يختلف عن حياة النسك والزهد التي تتطلب تضحيات أكبر وابتعاد عن المجتمع والعيش في ظل ظروف بدائية جدًا. نرى أصحاب الورع والتقوى في كل الأديان السماوية وغير السماوية، وربما قبل ظهور الأديان أصلاً. يظهر تأثير هذا النمط بشكل خاص عند الصوفيين في الإسلام، والحركة الحسيدية اليهودية، وحركة البهاكتي الهندوسية والعديد من الرهبنات التعليمية والطبية المسيحية.

من أجمل ما كتب في هذا المجال أشعار الشاعر الهندي "كبير" من القرن الخامس عشر، والذي كانت أشعاره مزيجًا من الشعائر الهندوسية والإسلامية، وكان منتقدًا للنساك بلحاهم الكبيرة ورائحة الماعز تفوح منهم. ترجمت أشعاره على يد الشاعر العظيم "طاغور".

يا صديقي، أين تبحث عني؟ أنا بجانبك. أنا لست بالمعبد أو المسجد. أنا لست بالطقوس والشعائر، لست باليوغا ولا بالتنسك. إذا كنت باحثًا حقيقيًا عني، ستراني، ستلتقيني في لحظة من الزمان. يا صديقي. الله عز جلاله هو النفس في كل نفس. عندما تتصاعد الموجة، فهي الماء، وعندما تهبط، فهي الماء. عندما سمِّيت بالموجة، هل يا ترى نست أن تكون ماء؟ أخبريني يا بجعة ما هي قصتك؟ من أي أرض أتيت؟ إلى أي أرض ستطيرين؟ أين سترتاحين وعمَّا تبحثين؟ هناك أرض حيث لا شكَّ فيها ولا حزن. حيث لا يوجد خوف من الموت. هناك تكمن بذرة القلب وفرح ليس مثله فرح.

ثالثًا: الأنماط الحسية الجسدية للإيمان: هناك

1.    نمط التنسك والزهد: وهو الابتعاد عن كل ملذات الدنيا والعيش بحالة بسيطة مزرية مع أبسط أنواع الطعام والسكن المنتقل البسيط، والاغتسال بالمناسبات. نجد هذه الطريقة بشكل خاص في الهند، لكن تشاهد أيضًا في أديان أخرى كالعموديين في المسيحية وبعض مدارس البوذية.

2.    نمط اليوغي: وهو الاعتماد بالإيمان على وضعيات جسدية معينة بالتأمل. من أهم مروِّجي هذا النمط Patanjali.

3.    نمط الدراويش: وهو الوصول للمطلق والتنور من خلال رقصات معينة ورائد هذه الطريقة جلال الدين الرومي.

من هنا نرى التنوع الهائل في النواحي الجسدية والعاطفية والعقلية والروحية للإنسان. نرى زخمًا هائلاً وإبداعًا كبيرًا في ما يمكن للإنسان أن يفعله ويعطيه. أهو نفس الإنسان القادر على إلغاء أخيه الإنسان من الوجود، مدمِّرًا كل شيء حوله، مرتكبًا أفظع معاني الوحشية والتي لا يستطيع أدنى حيوان القيام بها.

أظهرت الأديان والحضارات بشكل خاص الدور الهام للإنسان في حماية الأرض كلها، وليس فقط البشرية بل أيضًا كل الكائنات الحية من خلال شخصية نوح عليه السلام، الذي أخذ معه من كل جنس حي إلى السفينة، ومن خلال شخصيات مشابهة لنوح في الحضارات القديمة، كذلك فكرة خلاص الإنسان من خلال شخصية الأنبياء. ألا تعني كلمة آدم "آ دم": الله في الدم؟ ألا تدور معظم الأساطير اليونانية كأسطورة أوديب وبروميثيوس وغيرها، والمصرية وبلاد الرافدين كأسطورة جلجامش حول صراع الإنسان مع طبيعته الحيوانية وغرائزه من أجل الارتفاع والسمو بها نحو الطبيعة البشرية والإلهية فيه؟ ألم يسمَّى منتصف البطن في الإنسان وأعلى المثلث السفلي في شجرة الحياة ببوابة الإنسان: Porte des Hommes, Humanity Gate للتعبير عن أن الغرائز الحيوانية في الإنسان تتركز في أسفل البطن، خاصة مع وجود الغدد والأعضاء التناسلية في تلك المنطقة، وكذلك غدد الكظر المسؤولة عن إفراز الكورتيزون والأدرينالين والهرمونات الجنسية والمسؤولة بشكل خاص عن حماية الشخص والدفاع عنه والتصدي أو الهرب Fight or Flight، ثم نأتي لبوابة الآلهة Porte des Dieux: Divine Gate عند العنق أو أعلى المثلث الثاني في شجرة الحياة، والتي فيها تتلخص إنسانية الإنسان ومشاعر التعاطف والرأفة والحب غير الجنسي.

بتجاوز الإنسان لغرائزه الحيوانية، يتجاوز بوابة الإنسان، وبتصعيد وتسامي مشاعره الإنسانية، يتجاوز بوابة الآلهة، ليصل إلى البعد الروحي له؛ البعد الذي يتجاوز الماضي والحاضر والمستقبل، يعود ويفعِّل غدته الصنوبرية، التي كانت تسمى بالعين الثالثة، أو الشمس داخل الرأس، وتفتح لنا آفاقًا جديدة وجديدة. سمَّت الحضارات القديمة المرور عبر بوابة الإنسان بالتطهير بالماء، وعبر بوابة الآلهة بالتطهير بالنار، والمرحلة الأخيرة بالتطهير بالروح. عند عدم قيام الإنسان بتصعيد تلك الطاقات والتسامي بها نحو الأعلى من خلال نخاعه الشوكي وطاقة الكونداليني، تتحول تلك الطاقات إلى طاقات بدئية جنسية، عنيفة وإجرامية كما نرى ما يحدث اليوم في كثير من دول العالم وخاصة العالم العربي. عند الاستعمال الجيد والحكيم لتلك الطاقات، تتصاعد الطاقات للأعلى وتتحول لمعلومات تبني شجرة المعرفة ويزداد الإنسان حكمة وإنسانية.

عندما سئل الدالاي لاما عن سبب عدم تشكيله لجيش في التيبيت من أجل محاربة الصينيين، أجاب: "الصينيون ليسوا إلا المعتدي الخارجي، ولكن ماذا عن المعتدي الداخلي؟" بطريقة مشابهة لمفهوم الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر في الإسلام.

إن الإنسان المخلوق في اليوم السادس على صورة الله سبحانه وتعالى، لم يعرف بعد معنى هذا الشرف. ما يزال متلبِّسًا بغرائزه الحيوانية والكائنات الحيوانية التي خلقت في اليوم الخامس، وهو ما لم يدخل اليوم السابع (الكلام هنا بالمعنى الرمزي) من خلال سماعه للوعي الإلهي داخله، لصورة الله فيه وهمسته له، لا يصبح فعلاً إنسانًا بمعنى الأنس. خلال تطور الإنسان، أصبحت قامته مستقيمة وتطورت لغته، لأن هاتين الموهبتين تتطوران معًا، فبدون القامة المنتصبة، لا يستطيع الإنسان إلا إصدار أصوات معينة وصراخًا مثل الحيوانات.

إنسان اليوم السادس مسجون ضمن أناه، يحارب ضد العدو الخارجي المفترض ويستنفذ كل أنواع الأسلحة الفتاكة لديه، غير مدرك أنها سترتدُّ عليه يومًا ما، أما إنسان اليوم السابع فيحارب ضد الخصم الداخلي وليس الخارجي، يسعى لتطوير غرائزه ونفسه والارتقاء والسموِّ بها. تظهر رغبة التطور الروحي والنفسي بشكل خاص حول عمر الخمسين (ليست قاعدة مطلقة)، فبعد بناء الإنسان لنفسه من الناحية العملية والمادية والأسرية، وبعد إحساسه بالتناقص المتزايد في فعالياته الجسمية، يبدأ بالبحث عن مفاهيم أكبر وإدراك أوسع. يظهر هذا بشكل صارخ عند المرأة بسن اليأس، إذ يحدث ههنا انتقال شبه فجائي من مرحلة قمرية تؤثر بشكل خاص على الغدة النخامية، لمرحلة شمسية تؤثر بشكل خاص على الغدة الصنوبرية (المعروف أن إفراز الميلاتونين من الغدة الصنوبرية يتبع بشكل خاص لدورة الليل والنهار، أما الهرمونات الجنسية فتتبع أكثر الشهر القمري وتأثيراته بالمدِّ والجذر، وقمَّتها بمنتصف الشهر، وتتراجع تدريجيًا بالنصف الثاني من الشهر). ما لم تفهم المرأة هذا التحول والدعوة للتسامي والوعي، وكذلك الرجل طبعًا، نراهما قد تحوَّلا إلى كائنين سلبيين، ينتظران ويؤجِّلان موعد النهاية الحتمية، وقد يصابا باليأس والاكتئاب والغضب والقلق والأرق... إلخ.

للأسف، نجد أن معظم ما نراه اليوم سواء في الدول المتقدمة من تراكض وراء المال والاستغلال والملذات الجسدية، أو في دول العالم الثالث من قتل ونهب واغتصاب وتطرف وظلم وبطش، هو مثال واضح على إنسان اليوم السادس، الإنسان الحيواني الذي لم يدرك بعد المواهب والقدرات والطاقات العظيمة التي أعطاه إياها الله عزَّ جلاله للارتقاء بجسده ونفسه وروحه نحو خدمة أكبر للإنسانية وسعادة أكبر وغبطة أكبر. إن كنا نرى هذا التنوع الهائل عند الإنسان، سواء بنمطه الجسدي أو العاطفي أو العقلي أو الروحي، فهذا يشير إلى الطاقات الهائلة التي يحملها الإنسان، وهو لا يعطي مسوِّغًا لأن ينظر الإنسان نحو أخيه الإنسان بنظرة الدونية والاحتقار والشك والريبة والحقد، بل يجعله يحترم هذه القدرة الإلهية العظيمة في خلق الإنسان. يقول ماركوس أوريليوس:

العالم كتاب، من لا يسافر فيه، لا يرى إلا صفحة واحدة.

أما باولو كويلهو فيقول:

روح العالم في حاجة ماسة إلى سعادتك.

ولنتذكر كلام المهاتما غاندي:

العين بالعين تجعل كل العالم أعمى.

حتى لا ينطبق علينا كلام ألدوس هاكسلي:

قد يكون هذا العالم جحيم عالم آخر.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني