|
أسطورة ثيسيوس وأريادن
نموذج باسيفاي ونموذج أريادن في الأسطورة إن أسطورة ثيسيوس وأريادن هي ملحمة حقيقية، وتبدأ في علاقة بين مينوس وبوسيدون، إله البحار ومزلزل الأرض. والغريب أن مينوس فعل ما يفعله الإنسان على نحو دائم، وهو الإخلال بوعده للآلهة، وهنا نراه يخلُّ بوعدِه لبوسيدون. وفي الواقع هي خطيئة هائلة أن يُخلِف الإنسان بوعوده أمام الآلهة، الأمر الذي يترتَّب عليه تبعات وخيمة. وإن ما يسميه المسيحيون بـ "حفظ وصايا الرب" هو عبارة في غاية الأهمية، ذلك أنها لا تعني حفظها كما نحفظ قصيدة أدبية أو نظرية حسابية، وإنما تعني الالتزام بوعودنا تجاه الآلهة، لأن خيرنا يكمن في هذا الالتزام، في حين الإخلال بهذه الالتزامات يقود إلى خلل عميق في الشخصية، قد يؤدي إلى سلسلة صدوع في أركانها، ومن ثم يأتي بوسيدون ليزلزل هذه الشخصية ويزعزعها، وهذا هو غضب بوسيدون!! تعود الأسطورة إلى العهد المينوي المتعلق بالعهد الكريتي واليوناني القديم ومن هنا أتى اشتقاق اسم الملك مينوس، وتروي الأسطورة وفقًا للدكتور فيكتور د. ساليس في كتابه الميثولجيا الحية ما يلي: رأى مينوس (ويعني فرعون في اللغة الكريتية) ذات يوم في معبد الإله بوسيدون، الذي أضحى اسمه الإله نبتون عند الرومان، إله البحار، وبما أن كريت هي جزيرة فمن الطبيعي أن يكون إله البحار هو الإله المعبود بشغف. قال مينوس لإله البحار إنه على ولائه له، ولامتنانه للمعروف وللمجد لامتلاكِه إمبراطورية مترامية الأطراف، فإنه سيقدِّم ذبيحة للإله بما هو المفضَّل عندَه. أراد بوسيدون اختبارَ مدى صدقه تجاه وعوده، فأخرج من من البحار ثورًا أبيض، كان أجمل ما رآه مينوس في حياته. وبما أنه قطع على نفسه عهدًا بالتضحية بالحيوان الأكثر جمالاً الذي لا نظير له، وقد كان الثور في غاية الجمال، اعتبر الملك أن على الرجال أن يحتفظوا بالأشياء الجميلة بعد استيلائهم عليها. وهكذا ظنَّ أنه لا ضير في امتلاكه لهذا الثور، وأن بوسيدون لن ينزعج، فقام بالتضحية بالثور الأكثر جمالاً في قطيعه عوضًا عن التضحية بالثور الأبيض. هنا مفتاح الأسطورة الذي إذا ما فتحنا بابها، ودخلنا إلى عالمها السحري فسوف نتفاجأ للغاية لما تحويه من عوالم وأسرار. ما حصل بعد ذلك هو أن بوسيدون غضب غضبًا شديدًا من فعلة مينوس الذي لم يفِ بوعدِه، وأضلَّه، وخدعَه، فطلب من أفروديت إلهة الحب والجمال: أن تنفخ في الثور الأبيض شهوة مجنونة تجاه باسيفاي، زوجة مينوس. وهذا ما حصل، لكنها لم تعرف كيف تسلِّم نفسها للثور، فطلبت من ديدالوس، مهندس مينوس الشهير، أن يصنع لها صورة خشبية لبقرة حيث تستطيع النزول فيها على هيئة بقرة لا نظير لها، وتقوم بممارسة الجنس مع الثور. وهكذا أصبحت كلما تنزل في هذا القالب الذي صنعه ديدالوس لها تتحول من الخصر إلى الأسفل إلى تلك البقرة التي لا نظير لها. ولكن المأساة تكمن في أنه وُلِدَ من هذه العلاقة المينوطور ذلك المسخ الوحشي الشهير. يتابع الدكتور فيكتور د. ساليس قائلاً: إنه مسخ ذو وحشية هائلة ذلك أنه كان يقتات على اللحم البشري فقط، فطلب مينوس من مهندسه أن يبني في سراديب قصره متاهة (لابيرينتو)، حيث يستطيع أن يحجر هذا المسخ الذي كان يفترس كل شخص يلتقي به في المدينة. أما عن الـ"labirinto" أي المتاهة، فللخروج منها في هذه الأسطورة على المبدأ الذكوري أن يعثر على قطبِه الأنثوي لكي يعثر على طريق النجاة، إلا أن عملية البحث في حد ذاتها متاهة أيضًا، لأن الأنثوي سيتجلى وفق نموذجين: النموذج الأول، هو نموذج "باسيفاي" زوجة مينوس، التي انحدرت من مستوى الوعي الإنساني المفترَض أن يرتقي إلى مستوى الوعي الكوني، فانحطَّ إلى مستوى اللاوعي الحيواني، المتمثِّل في الاستسلام للغرائز، ممثِّلةً هذه الأسطورة "باسيفاي" وقد دخلت في صورة خشبية لهيئة بقرة لكي تمارس الجنس وتجامع الثور الأبيض الذي كان قد اشتهاه مينوس. والحمد لله فالخطيئة بدأت مع مينوس هنا وليس مع باسيفاي كما هي حال آدم وحواء حيث يُلقى اللوم دائمًا على حواء، بل ما هو أبعد من ذلك حيث يُنظر إلى حواء على أنها من الشيطان، كما اعتبرتها الكنيسة في العصور الوسطى.
أريادن (يمين) وديونيسوس (يسار) في عمل فني من البرونز يعود للقرن الرابع قبل الميلاد من إحدى الجزر اليونانية (ويكيبيديا) إذن، الدخول في علاقة مع نموذج كهذا، إما يؤدي إلى جروح عميقة في الشخصية، أعني شخصية البطل ثيسيوس، وهو الوعي فينا يبحث عن خلاص من المتاهة. والحقيقة أن الدخول في علاقة مع نموذج "باسيفاي" يقود ببساطة إلى ولادة "المينوطور"، والمينوطور مسخ يولد في الرجل أو أن الرجل نفسه يصير مينوطورًا، لأنه في علاقته مع نموذج كهذا يكون منفعلاً وإن ظن نفسه فاعلاً. وعلى هذا النحو فإن رحمه السري يحمل بالمينوطور الذي يجسد "الضعف" بكامل قوته، فالرأس رأس ثور أي (الجهل واللاوعي)، والجسد جسد إنسان أي (الضعف واللاوعي)، وعلى هذا فإن "المينوطور" في رحمه السري يبدأ بالنمو والتطور وتصبح له حياته الخاصة فيه. إنه أشبه بشخصية فرعية. إنه بعبارة أخرى سلوك إلزامي وقهري يقود إلى ظهور شخصية إدمانية، وهذه الشخصية تنحو للتحكم بالإنسان وتتضخم على نحو كتلة ثلجية تسقط من أعالي الجبال وتزداد قوة وحجمًا في سقوطها وانفلاتها من كل إرادة أو رقابة واعية! أما النموذج الثاني، وهو ما أسميه بالمرأة المثالية، أو لنقل قطبه الحقيقي، فتجسده هنا "أريادن" التي تعطي "ثيسيوس" خيط النجاة وتقوده إلى الخروج من المتاهة بعد أن قتل "المينوطور". لكن، هل هي هنا عملية إجهاض؟! لا أدري، لكنها عملية صعبة ومؤلمة قتل المينوطور، وهذا لا يكون على ما يبدو إلا من خلال مساعدة ربانية، تتجسد في نموذج "أريادن" من جهة وإيقاظ البطل الكامن فينا والذي يتجسد في ثيسيوس، وهو الوعي فينا يبحث عن الخلاص كما سبق أن ذكرنا آنفًا. هكذا فإن أروفيوس ويوريدس يتجليان على نحو أكثر دراماتية في ثيسيوس وأريادن. أورفيوس يخسر يوريدس بعدما لدغتها أفعى في عقب قدمها، وقصة عقب القدم هي قصة بالغة الأهمية، فهي نقطة الضعف البشري، نعلم أن أخيل أيضًا كان موته من خلال عقب قدمه، وأوديب هو القدم المنتفخة أو المتورِّمة، ما معنى "عقب القدم"؟! إذن، تهبط يوريدس إلى العالَم السفلي، وربما العالَم السفلي هنا يعني عالَم الغرائز حيث يتعين على أورفيوس أن يحرر يوريدس، وهي هنا نفسه العميقة. لكن يحررها من ماذا، لا شكَّ من عبودية الغرائز، فيتكامل مع جزئه المؤنث الذي من خلاله يعود إلى وحدته المفقودة وهذه هي جنة عدن التي طُرِدَ منها الأبوان الأولان آدم وحواء. وفي العودة إلى وحدته المفقودة يستطيع العثور مجددًا على آلهة الأولمب مجتمعة في مخدع قلبه، ويستحق الخلود. على النحو نفسه يكون خلاص ثيسيوس من خلال أريادن، التي تلتحق فيما بعد بالديونيسيات، أي المكرسات للإله دونيسيوس الذي تمنحهنَّ عبادته النشوة الإلهية. نعم إن نموذج "أريادن" هو النموذج الأنثوي الذي يقود الرجل إلى النشوة الإلهية، أما نموذج "باسيفاي" فهو النموذج الذي يقود الرجل إلى عبودية الغرائز ولذَّاتها، وهذه هي المتاهة التي تأتي "أريادن" لتساعد الرجل في الانتقال من عالم الغرائز واللذات إلى عالَم الآلهة ونشوتها. أريادن والعذراء وديونيسيوس ثمة فكرة ما أراها أيضًا جديرة بالتأمل في علاقة أريادن بالعذراء مريم، هذه المرة أراها من حيث علاقة أريادن بديونيسيوس والديونيسيات. لقد أسلمت العذراء ذاتها لديونيسيوس إله الخمرة والنبيذ والنشوة الروحية، هل لهذا معنى ما؟ وما هي علاقة العذراء في كل هذا؟ إن أول معجزة قام بها ابنها يسوع كانت بناءً على طلب منها في عرس قانا الجليل، ولعل الكثيرين يقلِّلون من شأن العذراء حين سألت ابنها قائلة له لقد نفد الخمر من عندهم، فأجابها ما لي ولك يا امرأة، لكن الذين يرون تقليل شأن العذراء، ينسون أنه فعل مشيئتها بالرغم من أنه قال لها ساعتي لم تأتِ بعد. ومع هذا كانت أول معجزة قام بها المسيح هي تحويل الماء إلى نبيذ. هل ثمة علاقة للعذراء في هذا الأمر؟ ولكن ماذا لو علمنا أن أول معجزة قام بها المسيح هي تحويل الماء إلى نبيذ بناء على طلب من أمه، وآخر عمل له كان تحويل النبيذ إلى دمه قبل أن يسلم نفسه للموت؛ إذن بدأ مع الماء الذي حوله إلى نبيذ وانتهى بالنبيذ الذي حوله إلى دمه. لا شكَّ أن ثمة علاقة جدلية هنا أيضًا بين ديونيسيوس والمسيح، وبين أريادن والعذراء، فدم المسيح أتى من دم العذراء حين كان في رحمها، والنبيذ صار هذا الدم. وأخيرًا، أعلن المسيح سرًا: من شرب دمي وأكل جسدي فله الحياة الأبدية. لعل ديونيسيوس وديميتر وأريادن والعذراء كلهم يستطيعون أن يقدموا إجابة عن معنى هذا الكلام، فديونيسوس إله الكرمة الذي يذكِّرنا بقول يسوع أنا الكرمة، أما ديميتر، ربة القمح، فهي الوجه الآخر للمسيح الذي يجعل من جسده خبزًا أي طعامًا مقدسًا، قائلاً في ليلة العشاء السري حين أخذ خبرًا فكسر ووزع إلى تلاميذه: خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يكسر لأجلكم لمغفرة الخطايا وللحياة الأبدية. بالتالي نستطيع القول إن الإله ديونيسيوس والإلهة ديميتر ليسا أكثر من وجهين لحقيقة واحدة تتجسد بالسيد المسيح. مظهر آخر للعذراء مريم وأريادن يقول الدكتور فيكتور د. ساليس إن الأسطورة يُعبَّر عنها في كلمة Mito ثم يقول إن بداية تركيب هذه الكلمة يأتي من الجذر mous، وفي الواقع إنَّ هذا الجذر ينجم عن صوت بدئي، وحول هذا الجذر ثمة عائلة من الكلمات الغاية في الأهمية. فهذا الجذر يشير إلى سلوك وفعل ذي تعبير مستعمَلٌ حتى يومنا هذا للإشارة إلى السكوت، أو بعبارة أخرى، وضع اليد على الفم بذاته، مؤدِّينَ الصوت "إم" "mm". كان هذا الفعل، بالنسبة للأقدمين أول سلوك لاستقبال الألوهة الـ "m"، هو صوت بدئي، كوني، يشير إلى فن الصمت. وأيضًا، تمَّ من هنا اشتقاق كلمة (أساطير) "mythos". فالأساطير وُلِدَت من هذا الفن بالسكوت للإصغاء إلى الآلِهَة. فمن الضروري تعلم الصمت. وهذا فن. ومن أساطير "mythos" اُشتُقّت كلمة meyin، والتي تعني "سكوت" الأصوات العقلية والانفعالية (نترجمها على أنها لغة الرغبة). طالما أننا لا نتوصَّل إلى إسكات هذه الأصوات، فالـ meyin لا يظهر. إنها علاقة وحيدة للإنسان مع الكون، وهي التي تسمح بولادة الأساطير، التي هي بالنسبة للقدماء اللغة الكونية: الحقائق الكونية بامتياز. من الجذر meyin نشأت mayêutica التي تعني في اليونانية "سحر (افتتان)". ومنها اُشتُقَّت كلمة "مجوس" magos، "سحر" magia، وهي مرادِفَة أيضًا لكلمة "اختمار" لأن فن السحر يمر من خلال اختمار هو فن الولادة من الداخِل، والذي ينمو ببطء مع مجهود كبير. لعل هذا يذكرنا أيضًا بالمعنى المسيحي للأم الكونية الذي يكاد يكون موجودًا في كل الديانات والمعتقدات، منذ البدائية حتى الديانات التوحيدية. فقديمًا عُرِفَت بعشتار، وفي مصر القديمة عُرِفَت بايزيس الأم الإلهة، أما في الديانات الشرقية، بدءًا من الهندوسية والتانترا الهندوسية، فلها تجليات كبرى كالأم الكبرى كالي أو شاكتي روح الحقيقة. ولعلنا لا ننسى الغورو أو المعلم الروحاني الكبير راما كريشنا الذي وفقًا لتجربته الروحية عندما بلغت به آلام لم يستطع احتمالها، قرر قطع شرايين يديه، وحينذاك تجلت له الأم الإلهة وفقًا للمعتقد الهندوسي وخلَّصتْه من كل أوجاعه وفتحت عين قلبه على رؤية وفهم والاتحاد بالحقيقة الكونية، ومنذ ذلك الوقت لم يعد يستطيع رؤية الله إلا على أنه أم. إذن ثمة مبدأ كوني، نجد له تجلٍّ في الديانة المسيحية مؤخرًا في شخص مريم، وكما رأينا في دراسة الدكتور د. ساليس حول معنى الحرف ميم، هو الذي يستقبِل الألوهة، ونحن نعلم جيدًا من يستقبل الألوهة وهو الأم الكونية. وبالتالي كانت مريم، بداية اسمها يبدأ بالحرف ميم ونهاية اسمها ينتهي بالحرف ميم، مشيرًا إلى الصمت الكامل لاستقبال الألوهة، ولهذا يقولون إنها حَمَلَت بيسوع ودُعِيَ كثيرًا بكلمة الله أو اللوغوس، وبالتالي حَمَلَت به من أذنها، ولهذا دلالةٌ كبرى، وبعبارة أخرى كما يقول جبران خليل جبران: فكَّر الله، فكان فكره الأول ملاكًا، وتكلَّم الله، فكانت كلمته الأولى إنسانًا. إذن هذا هو ما يعني أن العذراء قد حملت بابنها من أذنها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقول الفيلسوف الروحاني الشهير فلاديمير جكارنتسيف بأن العذراوات البشريات أمثال أريادن، تمثِّل بنفسِها الكمال والانسجام والكل الموحد ذا النقيضين اللذين لا يرفضان بعضهما بعضًا. وبالتالي فإن عقل العذراء ليس منقسمًا إلى نقيضين يرفضان بعضهما بعضًا، كما يحدث ذلك مع الإنسان العادي. وأيضًا ثمة إلهة يونانية قديمة تدعى هيستيا وهي التي تحمي النار المقدسة الداخلية في كل منزل في اليونان القديمة، وبناء عليه يجب أن تظل النار موقدة في ركن كل منزل بشكل دائم وبدون انقطاع. أما خادمات هذه الإلهة فحتمًا كان عليهنَّ أن يكنَّ عذراوات. وكن يسمين بحاملات الخير. وهكذا كنتيجة لما تعني لنا أريادن في الأسطورة وباختصار فهي العذراء التي يمكنها أن تقدِّم قوتها بوعي هدية للرجل، وهي قوة الكل الموحد، وقوة المحبة، وعندها ستنتقل هذه القوة فعلاً إليه. ولهذا يجب تقدير هبة كهذه والتعامل معها باحترام. بالنسبة للمسيحيين العرب ثمة حرفين لهما معنيان كبيران في اسم مريم فبعد الميم يأتي الراء، الذي هو في نظرهم الروح القدس الذي حملت منه، أما الياء فهو يسوع الذي حلَّ في أحشائها. وهكذا يكتمِل عند المسيحيين العرب معنى كلمة مريم. ويبقى حرف الميم مصدرًا للإلهام والوحي بما يتضمن في كل اللغات تقريبًا كلمة ماما. وفي معظم اللغات اللاتينية تقريبًا يبدأ اسم الأم بحرف الميم، وحتى الإنكليزية أيضًا... إلخ. تبقى نقطة أخيرة، نستطيع أيضًا أن نربط ما علَّقَ عليه الدكتور ساليس مع علاقة حرف الميم، وبالتالي مريم، مع قدوم المجوس الوحيدين الذين عرفوا بمكان ولادة يسوع، وأيضًا ارتباط فن الولادة بالسحر. فالمجوس كانوا سحرة بامتياز. ولهذا كله ارتباط واشتقاق لغوي بحرف الميم، واللغات القديمة نستطيع أن نرى كيف يجسدها أشخاص حية في قصة الميلاد الجميلة التي توحي لنا بولادة الطفل في مغارة، والتي تشير، إن أشارت إلى شيء كما يذكر اللاهوتي الكبير بول إفدوكيموف، إلى أعماق الأرض السرية، بمذود بقر والمجوس الملوك الثلاثة وهداياهم من "الذهب واللبان والمر... إلخ". المجوس في الحقيقة سر كبير. تذكر إحدى المراجع أنهم أتوا من أصقاع مختلفة من الأرض: واحد من الشرق وآخر من الشمال والأخير من الجنوب. وكانوا ملوكًا. وسوف نرى لماذا الرقم ثلاثة مهيمن، فهم ثلاثة، وأتوا من ثلاثة اتجاهات، وأيضًا قدَّموا ثلاثة أنواع من الهدايا: الذهب للإشارة إلى ماهية المولود الإلهية، واللبان أي البخور الذي يوحي بالخشوع والإيمان والطهارة، والمر إلى الآلام والموت. ومن الجدير ذكره أنه عند وصول هؤلاء المجوس محملين بالأغراض والهدايا الثمينة، كما تذكر إحدى المدراجع، كان خدم هؤلاء الثلاثة محمَّلين كلهم بالذهب كهدايا للمولود لكن الثالث منهم أي الخادم الثالث فكان يحمل نوعًا من الجرار الضخمة والقصيرة، وهي من الذهب كذلك، ولها غطاء بشكل هرمي، وفي قمته ماسة مصقولة. سوف نرى تحليل الدكتور ساليس لمعنى الشكل الهرمي الذي تعلوه دائرة، فقديمًا: وفق ما يسمى بالهندسة القدسية للأهرام قاعدة هي المربع الذي يمثل العناصر الأربعة المادية والأساسية التي تؤلِّف ما يُدعَى بالنفس في القِدَم. كانت هي المبدأ الذي يحيي كل شيء وكل كائن حي. كل جانبٍ من الهَرَم هو عبارة عن مثلث، كان يشير إلى طريق الارتقاء من المادة إلى الروح. وفي قمَّته كانت توجد قديمًا كرة ذهبية، كانت تمثل الإلهي، لأن الكرة ليس لها بداية ولا وسطًا ولا نهاية، باعتبار أن أية نقطة منها بدايتها، ووسطها أو نهايتها المحتَمَلَة. وعلى هذا النحو، كانت تمثل الأبدي. وإذا عدنا إلى الرقم ثلاثة نرى أن المجوس، كما تشير بعض المراجع التي لا علم لها بعلوم الروح، وإنما اعتمدت فقط على رؤى وتجليات لإنسانة تعرَّضَت لحادث مروع أقعدها في الفراش حتى آخر حياتها، هذه المرأة البسيطة التي كانت تكرس نفسها لخدمة المرضى ولم تقرأ شيئاً في رؤاها تحدِّثُنا عن المجوس الثلاثة الذين أتوا من جهات ثلاث، وهذه كلها إشارات إلى الرقم ثلاثة عدد المسيحية بامتياز؛ فالأقانيم ثلاثة، وعالم الروح ثلاثة، والفضائل التي يعلنها بولس ثلاثة المحبة والإيمان والرجاء، والإنسان ملكاته ثلاثة الروح والنفس والجسد... إلخ، كما أن الثلاثة تشير إلى الفراغ بأبعاده الثلاثة مجردة من بعده الرابع الزمن الذي يجعله ماديًا، وباختفاء الزمن يصبح الفراغ أبديًا ذا معنى روحي، وينفتح على عوالم الأسرار. يقول الدكتور ساليس ما يلي: القوى الثلاث للروحانية، التي كانت تحوِّل مادة جسدنا إلى روح، دونما اهتمام بأصلِها. وكان الخيميائيون يقولون بتربيع الدائرة، لأنه كانت في قمة الهَرَم الكرة الذهبية، رمز الإلهي والأزلي. فلعل كل هذه الارتباطات والأسرار أتت اعتباطًا؟ لعل إلهنا إلهًا اعتباطيًا؟! ربما نرى صدى هذا المبدأ الكوني يتجلى في أم الله في قصة حب شيفا لروح الحقيقة ساتي، وسوف نرى ذلك في التانترا الهندوسية. فوفقًا للتانترا شيفا–شاكتي، وهي الكلمة الموصولة التي توحي أن شيفا، أو المطلق، وشاكتي قوته الخلاَّقَة، في تزاوج أبدي؛ مثلما هي الكلمة ومعناها. لا يمكن التفكير بأحدهما دون الآخر. القوة الخلاقة شاكتي، المبدأ الأنثوي في تجلٍّ، أو فعل الخليقة. فهي مخلوق إلهي، أو مؤلَّه يتجلَّى فيه الجانب الأنثوي من الإله!! ثيسيوس والمسيح بعد قراءتي لأسطورة ثيسيوس وأريادن، ما زالت الدهشة تتملكني، فالمسيح على ما يبدو له أبعاد كثيرة كالبعد التاريخي الذي عرفناه من خلال شخص يسوع المسيح، وبعده الكوني الذي عرفناه من خلال تجربة بولس على طريق دمشق، وله بعد أسطوري أستطيع أن ألمسه بوضوح خصوصًا من خلال أسطورة ثيسيوس وأريادن. فمن الجدير بالذكر أن ثيسيوس كان من نسل الملك ايجيوس، وهذا يذكرنا بالنسل المعطى ليسوع المسيح، وهو نسل الملك داوود، ألم يكن الكثيرون ينادونه بابن داوود، وداوود كان مسيحًا، فالملك هو الممسوح بالزيت، ولذلك يدعى مسيحًا. وهكذا كم حَدَث نراه في الإنجيل حتى التلاميذ أنفسهم كانوا يتوقعون أنه المسيح مخلص اليهود وبالتالي سوف يعيد أمجاد مملكة إسرائيل، ويملك عليهم، وكم حاول الشعب اختطافه وجعله ملكًا عليهم، وهذا ما نراه في ثيسيوس، فهو ابن الملك ايجيوس، وله حق في العرش، لكن ثيسيوس اختار قدرًا آخر، مماثلاً بشكل أو بآخر لقدر المسيح، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن نظير مدينة أثينا، هو أورشليم، مدينة الرب. ماذا تعني أورشليم؟! أليس ثمة تقاطع بين أثينا وأورشليم؟! أليست أثينا هي مدينة إلهة الحكمة؟! ألم يحكم أورشليم اثنا عشر سبطًا، وأثينا اثنا عشر قبيلة؟! ما معنى كل هذا ايجيوس وداوود أثينا وأورشليم وثيسيوس والمسيح وربما حتى أريادن والعذراء؟! لعلنا نسبح هنا في بعد أسطوري بعيد عن الزمان والمكان وندخل عالمًا مسحورًا هو الحقيقة واللاحقيقة معًا، لكنه فجأة يرمينا إلى أعتاب الحقيقة الملموسة وحينذاك يهزنا من أعماقنا عندما ندرك اتصال العوالم والأبعاد، ولاشك ثمة أبعاد أخرى أبعد من إدراكنا!! *** *** *** |
|
|