|
أيها المسيحيون الأحبة: ابقوا معنا
معاذ الخطيب
كتبت هذه المقالة منذ مدة طويلة في الشام قبل أن أخرج من دمشق وطويتها بين أوراقي. ولكني كنت أفكر بنشرها كل يوم. فأينما ذهبت كان المسؤولون الحكوميون يسألون عن المسيحيين كما لو أننا نحن المسلمين وحوش تفترس كل شيء يخالفها. وقلت للجميع: إن المسيحيين يعيشون معنا في وئام ومحبة ليس إكرامًا لضغوطكم الدولية ولكن لأن ديننا وأخلاقنا وأهلنا علمونا أن نكون نعم الأهل والجيران، وهكذا عشنا وهكذا سنبقى. البارحة ذهبت مع رجل تركية الكبير الطيب أردوغان، وزرنا مخيمًا للاجئين السوريين فيه حوالي سبعة وعشرين ألف إنسان، لم أشعر في حياتي بمثل ذلك الدفء والحب. وعندما بدأت أتكلم عن الأوضاع في سورية وأن هناك أيد تمتد لتتدخل في حياتنا ومصيرنا. وفجأة دوى هتاف مجلجل، الآلاف صاروا يهتفون: واحد واحد واحد... الشعب السوري واحد. الهتاف العفوي نفسه الذي انطلق في دوما الشهيدة في شهر آذار عام 2011 في عزاء الكوكبة الأولى من شهداء دوما. أيقنت أننا ما زلنا بخير، وأنهم مهما سيفعلون فسنبقى ذلك الشعب الشجاع العظيم، يتحدى الموت والحديد والنار ويحنو بعضه على بعض، ويموت بعض أكرم ابنائه كي يكتب لباقيه الحياة. قررت أن أنشر المقالة هدية إلى كل شعب سورية مع بداية عام جديد نستقبله وخصوصًا المسيحيين منهم، وهدية أيضًا إلى
إلى ذكرى من كانا صديقين وفيين: الراحلين الكبيرين: دولة الرئيس فارس الخوري،
والعلامة المجدد محمد بهجة البيطار. وإلى حارات الشام العتيقة التي تعانق فيها
الناس وبكى الليمون ورقص الياسمين. وإلى من سكب دمه وهو يوثق ما يفعله التوحش في
حمص أم المدن الشهيدة: باسل شحادة... ابن دمشق البار. * كتب هذا المقال أصلاً ردًا على تفجير كنيسة الإسكندرية وقبلها كنيسة بغداد، حيث شعرت أن المسيحيين عاشوا في قلق بالغ، ثم انحسر معظم الأمر عندما تبين أن وزير داخلية النظام المصري الراحل هو الذي أمر بتفجير الكنسية، وبدأ يعود للناس وعيهم، وذاكرتهم بأن الأنظمة اللاأخلاقية وحدها (محلية أم عالمية) هي التي تخلق الفتن بين مكونات المجتمع الواحد، وهي التي تهدم المحبة وتنسف الوئام بظلمها، وتخلق الكراهية بين الناس لمآربها السياسية، ثم تفرض نفسها مصلحًا أوحد، ظاهره الرحمة وفي باطنه الشقاء. كنسية الإسكندرية وقبلها كنيسة بغداد لم تنفجرا فقط بالمصلين فيها، بل انفجرت في قلب كل إنسان. ليكن دين المرء ما يشاء، ولكن من الذي يبيح قتل مصلين أبرياء تركوا غفلات الدنيا وتوجهوا بضراعة إلى ربهم. وكيف يستبيح إنسان قتل أي شيء ولو كان عصفورًا صغيرًا، فما بالك بالمصلين؟ وكيف يتسلل التوحش وتنعدم الأخلاق، وتُهاجَمُ بيوت العبادة، ويستخدم الدين ليكون محرقة مرعبة للعباد؟ المسيحيون في بلاد الشرق هم خلاصة ما بقي من المسيحية في الأرض اليوم كلها، وبعضهم يعيشون في قلق حقيقي وخشية بالغة مما ستأتي به الأيام. وهناك من لا يحس بهم، ولا يدرك مشاعرهم، وهناك من يستثمر قلقهم لمأرب أخرى! وليس خافيًا على أحد أن الأنظمة السياسية الماكرة تضع الطوائف في مواجهة بعضها ليسهل لها حكمها، كما فعل الفرنسيون عندما احتلوا بلادنا. يعيش الناس مع بعضهم في سلام وعافية، ولكن التغيرات المعاصرة والأزمات تدق المسامير في نعوش المجتمعات، ودرء أذاها يستوجب المزيد من التواصل والتراحم. المؤتمرات والخطابات الرسمية لا تؤثر في الأمر شيئًا، بل أحيانًا تزيد الطين بلة، لأنها تقوم على المجاملات والتوازنات، أما جرعة التراحم والتسامح التي ورثناها من آبائنا وأمهاتنا فصارت تتقلص، وهي بحاجة إلى تفعيل اجتماعي إنساني حقيقي بعيد عن الفرض والإكراه. إذا أردنا أن نتكلم بدقة عن بلاد عديدة فسوف نقول إن مؤسسات المجتمع المدني فيها مصادرة عمليًا، ولا حقوق للإنسان، والقوانين الاستثنائية هي الكتاب المقدس للحكومات، وليست هناك مؤسسات سياسية أصيلة، بل بقايا أنظمة مهترئة، وتصرفات أشخاص يقولون عن أنفسهم إنهم حكام لأنهم أطلقوا على أنفسهم ذلك. رهافة حس عمر بن الخطاب وتقوى علي بن أبي طالب بيعت في السوق منذ زمن بعيد، وتتحرك في الساحة أشلاء أفكار، قد تسودها علمانية منافقة، أو دين مزيف، وتسامح اصطناعي لا روح فيه ولا حياة. وربما أغرقت أمم بكاملها في نشوة كاذبة ومتاع قريب وتغريب وتخريب أخلاقي واجتماعي واقتصادي. في مثل تلك الأحوال تنكمش كل مجموعة من الناس على بعضها وتشعر بالخطر، وينعدم التواصل بينها، فتزداد المشاعر اغترابًا وتوحشًا، وتزيد الأزمات والاحتكاكات من الغربة، ويبدأ القلق أو التمرد. ولكن مهما كان اللصوص شرفاء فإن طبائعهم لا مكان للأمانة فيها، وهكذا تتصارع الأنظمة العالمية أو المحلية، وتبدأ بالبحث عن نقاط ضعف في الأنظمة المنافسة، وتجد ضالتها في توجيه الغرائز الطائفية المتوحشة، وتظن كل طائفة أو مجموعة من الناس أن خصمها هو الطائفة الأخرى، وتنسى أمورًا أخرى وتبدأ بحقن ذاتي في داخلها وبشكل غير معقول، وهذا الحقن لا يمكن أن تتسع له الساحة المحدودة، ولا بد أن يندفع إلى الخارج بشكل مرعب. يعين على تفجر الأمور ما تقدمه أنظمة بائسة من فكر هزيل يتحدى مكونات الناس ودينهم وثقافتهم وأخلاقهم، بل يسرق أموالهم ويغتصب أحلامهم، وهذا الفكر الهزيل لا يستطيع أن يطرح في الساحة شيئًا لأنه عين الإفلاس والخواء، ويزيده اتقادًا أعمى متغربون يلهون، ورجال دين جهلة من كل الطوائف، يحقنون الناس أو يروضونهم ويعلمونهم نجاسة دم الذباب ويسكتون ولو ذبح أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم. أتذكر دائمًا بيتًا لجبران: وقاتل الجسم مقتول لفعلته وقاتل الروح لا تدري به البشر وأتساءل إلى متى يحاسب المجرمون الصغار، ضحايا الكبت والقهر والإذلال، وينجو كبار مجرميها؟ إلى متى؟ أشعر أحيانًا بالخوف أكثر مما قد يحس به المسيحيون، وأخشى من زلزال قادم ما لم يتدراكه العقلاء. إننا وبكل صراحة مقصرون مع بعضنا، مسلمين ومسيحيين، ويجب أن نمد الجسور بقوة فيما بيننا. المسيحية كانت أول من فتح دياره للإسلام ومنع الأذى عن أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، ويعتريني البكاء حقيقة كلما تذكرت وقوف ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم: جعفر بن أبي طالب بين يدي النجاشي وبكاء النجاشي لما سمعه من كلام الله بحق السيدة العذراء أمنا مريم عليها خير الصلاة والسلام. لقد عشنا يدًا واحدة في السراء والضراء، نحترم دين بعضنا، ونرى في الآخر مكونًا أساسيًا حضاريًا وإنسانيًا من لوحة عظيمة في هذا الكون الرحيب، صارت بها سورية فسيفساء الدنيا وإحدى لوحاته الأجمل، وأحد أروع ساحات العالم لا في التسامح بل التراحم الطائفي والمحبة والأمان والسكينة. أرتجف من أعماقي عندما أتصور أن السيد المسيح عليه السلام قد مشت رجلاه الطاهرتان على التراب الذي نعيش عليه، وأشعر بالفخر العظيم أن تكون سورية هي المكان الوحيد في العالم كله الذي لا تزال تعيش فيه اللغة التي تكلم بها روح الله وكلمته، هاديًا فيها الشعوب إلى الله العظيم. لم يعد هناك وقت للتسويف، وبعض مكوناتنا العقلية والثقافية بحاجة للمراجعة، وإن الأصل العظيم الذي يجمعنا لا بد من إعادة إحيائه، أما قال تعالى: "شرعَ لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" [الشورى:13]. ليس ذنب أي مسيحي في العالم أن يجتاح العالم الغربي بلاد المسلمين، وليس ذنب أي مسيحي في الأرض ما يتفاقم فيها من خراب أخلاقي، بل لعل أكثر من يتأذى بهذا هم المسيحيون الصادقون، الذين ترتكب باسمهم أعمال مخزية وهم منها براء. وإن مسيحيي الشرق يحملون اسم المسيح الطاهر وأمه المقدسة أينما ذهبوا، ولعل بعضهم أقرب إلى جوهر الالتزام الأخلاقي من آخرين يذوبون أو يريدون هم الذوبان. ليس المسيحيون الصادقون هم الذين يستدعون الاستعمار، بل كانوا من أوائل المدافعين عن كرامة بلادنا التي يعشقونها كما نعشقها، ويبكون لكل أذى يحصل لها، ويكفي سورية فخرًا أن يكون فيها مثل فارس الخوري الذي علَّق على ما فعله الجنرال غورو عندما قصد قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاً: ها قد عدنا ياصلاح الدين؛ قال فارس الخوري لطلابه: لقد أراد غورو التستر باسم الدين كما فعل من قبله الصليبيون، بغية شق العرب بعضهم عن بعض، وقصد أن ينشر بين المسيحيين أن مجيء فرنسة إنما هو من أجلهم... وما قوَّضَ غورو للعرب كيانهم في قوله ما قال، وإنما قوض الثقة بفرنسة لكونها تعمل للتفريق ولِتَفقُدَ العروبة ذاتها... وليس من شك في أن دفع خطر الاستعمار يتوقف على وعينا لكل ما يُدس بيننا، ويعمل على تفرقتنا، قدر ما يتوقف على تجنب كل ما يثير خلافًا، وقدر ما يتوقف على تحسسنا بمشاعر بعضنا البعض، وبالمزيد من تفكيرنا بوطننا والعمل لسلامته وتحريره... إن الظلم والاستبداد والظروف القاسية تضع الناس دائمًا وبمكر شديد في مواجهات قد تصل إلى حد التوحش، ووحده الفعل الإنساني، والوجدان الديني بمعناه العميق، يُبطل تلك المواجهات ويعيد وشائج التراحم والمعاني الإنسانية النبيلة بين البشر. ولقد كان الوعي السائد عند الجميع شيئًا أخاذًا حقيقة. وبينما أعلن غورو نفسه حاميًا للمسيحية (في الأرض التي يعتقد جميع سكانها أنها شُرِّفت بالمسيح عليه أزكى الصلاة والسلام)، ومتناسيًا بفجاجة أنه غريب ومحتل كريه، قام المسلمون والمسيحيون معًا بتواصل مدهش، من خلال تلك العريضة القيمة التي جلت موقف المسيحيين، بل اليهود، وبينت إدراكهم العميق للدور الفعال الذي قام به المسلمون تجاههم، والتراحم العميق الموجود بين كل الطوائف، فرفع الرؤساء الروحيون وزعماء الطائفتين، عريضة إلى رئيس الوزراء، علاء الدين الدروبي، توثق التضامن الموجود وتقطع الطريق على اليد التي تحرك الطائفية: إعلانًا للحقيقة واعترافًا بالفضل لذويه نرفع نحن المسيحيين والموسويين المستقرين في دمشق وضواحيها على تعدد مللنا وطبقاتنا القومية، تشكراتنا القلبية، موجهة إلى العلماء والأعيان والوجهاء والعامة من إخواننا المسلمين في دمشق وضواحيها، لما صدر منهم في الأيام الأخيرة المخوفة من السهر على الراحة العامة وإقامة جنود وطنية للمحافظة على الأمن والسكينة ومنع الاضطرابات المقلقة، مما يسطر لهم الذكر الجميل في صحف التاريخ، ويوجب لهم لدى معاليكم يا دولة الوزير أن يفوزوا بتكرمة وتقدير... إن الحفاظ والدفاع عن كرامة ودماء وأموال وأرواح وأعراض المسيحيين (وأي مكون اجتماعي آخر كبير أو صغير) هو تمامًا عين الحفاظ على كرامتنا ودمائنا وأموالنا وأعراضنا، ومن العار أن يؤذى واحد فيهم بيننا، ولو كان في جسدنا ألف جرح ينز دمًا وتحيط بنا مصائب وابتلاءات. نحن بقية تلك الروح الآسرة التي يحدثنا عنها التاريخ في فتنة 1860 حيث: هاجت الفتنة وأشتد القتل وكثر، حتى صاروا [أي القتلة] يتعرضوا للذين في بيوت المسلمين [من المسيحيين]! وقوي الأمر وصعب، وكثر الواردون إلى القلعة [من المسيحيين] منهوبين جائعين، امتلأت دور المسلمين منهم ومن أولادهم ونسائهم. وخلال تلك المذابح الرهيبة كان للكثير من مسلمي الشام أياد بيضاء بفتح دورهم للاجئين المسيحيين، وإنقاذهم من الغارات والتعديات كالعلامة محمود أفندي الحمزاوي [مفتي الشام]، وأخيه أسعد أفندي، والشيخ سليم أفندي العطار، وسعيد آغا الوزِّي، وعمر آغا العابد وصالح آغا المهايني في الميدان [كما أن] نحو خمسمائة من النصارى، رجالاً ونساء وأولاد، غالبهم خرجوا من دار السيد عبد القادر [الجزائري]. أما خلال الحرب العالمية الأولى فكانت هناك خشية من تعرض المسيحيين في دمشق إلى أوضاع جائرة، ولكن التراحم الطائفي قام بدور مؤثر، مما دعا المونسنيور إبراهيم مسابكي، مندوبًا من حبر الفاتيكان، أن يقوم بزيارة الشيخ بدر الدين [الحسني] وشكره حيال محافظته على المسيحيين، حيث أجابه الشيخ إنه قام بواجبه ولا شكر على الواجب، وإن المسيحيين إخواننا وشركاؤنا في هذا الوطن فما ينالهم ينالنا من خير أو شر. هذا جزء من أخلاقنا، وهي حق الله فينا لمن أُمِرنا بالإحسان إليهم وحسن جوارهم، مهما كان انتماؤهم. ولعل من أجمل الكلمات في التراحم تلك اللفتة الرائعة مما ذَكَّرَ به سلطان باشا الأطرش في كلمته لتأبين الشهبندر ما كان قد صرح به الأخير في خطاب له: اجمعوا قلوبكم إلى قلوبنا، وضموا قلوبنا إلى قلوبكم، لا توصدوا أبواب الوطن في وجه من كان عاملاً صادقًا، لأن جنة هذا الوطن تتسع للجميع من غير تفريق في الملة. ولعل من أرق صور التراحم كذلك بين الطوائف في سورية وفاة المجاهد الكبير صالح العلي (ابن الجبل العلوي الأشم) بين يدي صديقه الشيخ المجاهد محمد المجذوب (العالم السني). إن أساس الدين هو العدل بين الناس، وما زال العدل قائمًا فينا كمجتمع، وقد كنا نحب بعضنا ويحنو كبيرنا على صغيرنا ونتشارك كسيرات خبزنا في السراء والضراء، ونسر لفرح جارنا ونبكي معه في أحزانه ونفتح له بيوتنا ويفتح لنا بيته. هكذا كنا، أيها المسلمون وأيها المسيحيون، وسنبقى هكذا مهما فعل اللئام والحاسدون. كان إدراك المصالح الوطنية يجمعنا، ومثال ذلك انتخابات عام 1947، حيث برزت هناك قائمة سميت: قائمة الأمة، وقد أيدتها رابطة العلماء ورجالات الوطنية والعلم والجهاد، وقد ضمت وطنيين كبار مثل زكي الخطيب وحسن الحكيم، ورجال التيارات الإسلامية مثل محمد المبارك وعبد الحميد الطباع وعارف الطرقجي، وعلي الطنطاوي، وأبرز شخصيات التمدن: أحمد مظهر العظمة، وضمت: فارس الخوري، عن الطوائف المسيحية غير الممثلة، وقسطنطين منسي عن الروم الأرثوذوكس، وفريد أرسلانيان عن الأرمن. إن ما تحظى به المسيحية في الوجدان الإسلامي من الاحترام شيء مميز، ويكفي ما ذكرته سورتا الروم ومريم عليها السلام لبيان ذلك، وكيف كان الصحابة يسرون بانتصار المسيحيين الروم على الوثنيين الفرس، وقد نشرت جمعية التمدن مقالاً حاولت النفاذ فيه إلى الحقائق المجردة فقالت: إذا حصل ما يعكر الصفاء بين المسلمين ونصارى هذه البلاد في بعض الظروف فهذا ناجم عن دسائس الدول الاستعمارية التي تعمل دومًا، في الخفاء، على تفريق أبناء الوطن، وتعصبِ بعض رجال الدين الذين يسعون (جهلاً وحمقًا) لإلقاء العداوة والبغضاء بين البسطاء باسم الدين [...] والدين الإسلامي والمسيحي بريئان من جرائمهم [...] وتعصب بعض الولاة من المسلمين الذين كانوا يجهلون أبسط مبادئ دينهم. هل ترى ذلك المستبيح للدماء يفهم أن من قتل نفسًا واحدة فكأنما قتل الناس جميعًا، وهل يعلم أن النبي الهادي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال المسلم في بحبوحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا". إن الدين عندما يفقد بعده الأخلاقي الذي جعله الله فيه، يتحول إلى فتنة وبلاء. ولا يمكن قبول فلسفة الدمار والنار والتصفيات الدموية، ويا بؤس من ظن أنه يفيد المسلمين بذلك، بل هو يدمر الدين والحياة والإنسان. ليس الأمر شيئًا يتعلق بدمار مبنيين بل هناك جريمة مروعة بحق مكاني عبادة، حيث يجب أن تتوقف الأضغان وتنطفئ شهوات القتل والعنف والكره والبغضاء، وترجع النفس إلى الواحد الأحد ويسود ما لا يُستمد إلا من اسم الله العظيم: السلام. في العراق أيضًا تجري حوادث تصفيات تقشعر لها الأبدان، وربما طالت في العراق الجميع مسلمين (سنة وشيعة)، عربًا وأكرادًا، مسيحيين ويزيديين، ولكن هناك مخططًا ماكرًا وشديد الخطورة يهدف إلى اقتلاع وتصفية بعض الطوائف الأصغر، من الآشوريين والكلدان والسريان، مما لا يهتم لها البعض كثيرًا، وتلك الطوائف هي أقدم سكان المنطقة، ومكون رئيس في نسيجه الحضاري العريق. ومن المؤسف أن أقل القليل من الناس من يعرف عن السريان شيئًا، بل إن الجهل بأنها لغة السيد المسيح عليه السلام يعم الغالبية بعد أن صار الخطر يهدد العربية نفسها، وكان الدكتور عدنان الخطيب رحمه الله قد ألقى محاضرة في إثبات عروبة السريان وأنهم عرب أقحاح لهم جذور ضاربة في تاريخ مجيد. في اجتماع للحوار بين أصحاب الديانات قال أحد كبار رجال الكنسية كلمة تدل على نبله وهو يذكر أن الكنائس الشرقية بقيت أكثر دفئًا من الكنائس الغربية، لأنها تعيش بين المسلمين، ثم تحدث بمرارة عن هجرة المسيحيين في الشرق، وقال كما أذكر: لا يكفي أن نقول لشبابنا لا تهاجروا! بل عليكم أيها المسلمون أن توجهوا لنا رسالة طمأنينة، وتقولوا لنا: ابقوا معنا. إن الظلم وعدم تكافؤ الفرص والفساد وسيطرة العقلية الفردية، قد جعل كثرة من شباب سائر المكونات الاجتماعية يرغب في الهجرة، وأقول لغبطة البطريرك المبجل ولكل مسيحيي سورية بل الشرق كله، ولمسلميها وسائر من يحبها، باسمي وبصفتي الإنسانية و الشرعية وباسم كل محب للعدل والخير:
إننا نعيش جميعًا في رحمة الله عن صفحة الكاتب على الفيسبوك *** *** *** المراجع: - أحد كبار علماء الشام الأحرار، ومؤسسي جمعية التمدن الإسلامي عام 1932م في دمشق، وانظر بحثًا عن أثر السياسة الدولية في إثارة النعرات الطائفية والوعي الإسلامي تجاهها، جمعية التمدن الإسلامي نموذجًا، وهو منشور في عدة مواقع منها موقع الأكاديمية السورية للتدريب والتطوير: www.sia-sy.net. - فارس الخوري، أوراق فارس الخوري، بعناية كوليت خوري، دمشق، دار طلاس، ط2، 2001، ص 2-83. - ساطع الحصري، يوم ميسلون، 305، وقد وقع العريضة كل من: بطريرك الروم الكاثوليك: تقلاوس، متروبوليت بصرى وحوران: ميخائيل بخاش، مطران السريان بدمشق: أستودس كيسسهان، النائب الأسقفي الماروني بدمشق: الخوري إبراهيم مساكي، فارس الخوري، ناصيف أبو زيد، أسعد أبو شعر، قسطاكي الحمصي، إبراهيم طويل، ميخائيل وإلياس صحناوي، ميشيل أواديس، شفيق قدسي، أنطوان أبو حمد، خليل عنحوري، اسبر الخوري، موسى سعد شامية. وقد نشرت في جريدة العاصمة بتاريخ 2 آب 1920. - محمد سعيد الأسطواني، مشاهد وأحداث دمشقية، ص 175. - عبد العزيز العظمة، مرآة الشام، ص 325. - محمد سعيد الأسطواني، مشاهد وأحداث دمشقية، ص 176. وقد ذكرت بعض المراجع أن الأمير عبد القادر قد أمن الحماية لحوالي إثني عشر ألفًا من النصارى واليهود، ممن احتموا به من غضب جماعات ثائرة، وانظر لذلك: خلدون بن مكي الحسني، الأمير عبد القادر، الحلقة 13. - المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني (1851هـ/1935م) كان المرجع الأعلى للمسلمين في بلاد الشام وكبير علمائهم، وانظر لذلك: محمد رياض المالح، عالم الأمة وزاهد العصر: العلامة المحدث الأكبر بدر الدين الحسني، دمشق، 1397هـ/1977م. - جريدة فتى العرب، العدد 1543، الخميس 15 شعبان 1335هـ/17 شباط 1917م، وانظر المرجع نفسه، ص 230. - سلطان باشا الأطرش (1886-1982): القائد العام للثورة السورية، وبقية الأبطال من بني معروف، ولد في قرية القريا، ونشأ على تقاليد العرب الأصيلة من الشهامة والمروءة والشجاعة، وفجر ثورة جبل العرب ضد الاحتلال الفرنسي عام 1925، وقد أبلى في الفرنسيين أعظم النكايات، وهزمهم في عشرات المعارك، وبعد إخماد الثورة عام 1927 هاجر بأسرته وأتباعه ليعيش عشر سنوات في المنافي بين الأردن والحجاز، وعند صدور عفو عنه رفض مصافحة الجنرال الفرنسي كاترو وقبول هديته (ألف ليرة ذهبية) كما لم تخرج منه كلمة شكر، وانظر للاستزادة: - جميل شاكر الخانجي (1898-1976)، ثوار صنعوا الاستقلال (صفحات مضيئة من تاريخ الثورة السورية)، إعداد وتحرير: نشأت جميل الخانجي، دمشق، دار الشرق، 1429هـ/2008م، ص 259-274. والمؤلف كان أمين سر الثورة السورية، وعضو اللجنة العليا للدعاية والاستخبارات. - أدهم آل جندي، تاريخ الثورات السورية، ص 189-213. - حسن الحكيم، صفحة من حياة الشهبندر، ص 195. وقد أقيم التأبين بتاريخ 2 أيلول 1940، وألقى كلمات الأمير عبد الله، وهاشم الأتاسي، وسلطان باشا الأطرش، صديق الشهبندر وتلميذه زكي الخطيب، وقد نشرت الكلمات في جريدة الأيام، العدد 2234، 4 أيلول 1940. - سمعت هذه الرواية من العديد من الأشخاص من أهل الساحل، ثم وجدت مقالة للدكتور خالد الأحمد، يذكر فيها صراحة أنه سمع ذلك في المدينة المنورة من الشيخ المجذوب، والمقالة منشورة على الموقع التالي: http://www.asharqalarabi.org.uk/mushrakat/b-mushacat-207.htm. - محمد المجذوب (1907- 1999)، عالم وداعية وأديب وشاعر، ولد في طرطوس، وشارك في مقاومة الفرنسيين واعتقل واضطهد، وكان من وجوه الإسلاميين في الساحل السوري، وعمل في التربية والتعليم في سورية والسعودية، وله أكثر من خمسين مؤلفًا في الفكر والأدب والشعر. وانظر في ترجمته: - إتمام الأعلام، نزار أباظة-محمد رياض المالح، دمشق، دار الفكر، ط2، 1424هـ/2003م، ص 411. ومقالة بعنوان: محمد المجذوب كما عرفته، بقلم: محمد نعسان عرواني http://www.odabasham.net/show.php?sid=894. - نال أحمد مظهر العظمة 22254 صوتًا، ولطفي الحفار 21672 صوتًا، وصبري العسلي 20463 صوتًا، وحسن الحكيم 18166 صوتًا، وخالد بكداش 9886 صوتًا، بينما لم ينل ميشيل عفلق إلا 10630 صوتًا. وقد تدخلت الولايات المتحدة في تلك الانتخابات بفجاجة مما شرح سابقًا، وغيرت من نتائجها، وانظر لتفاصيل الانتخابات: جريدة بردى اليومية، لصاحبيها جورج فارس ومنير الريس، السنة الثانية، العدد 301، 24 شعبان 1366هـ/13 تموز 1947م، الصفحة الرئيسية. - مجلة التمدن الإسلامي، السنة 14، شعبان 1367هـ/ 1948م، ص 205. - وانظر موقع: http://www.marefa.org للاطلاع على تاريخ الكنسية السريانية الأرثوذكسية. - أثناء الحفل الافتتاحي لأعمال الملتقى الوطني الأول بعنوان: مسلمون ومسيحيون في وجه التحديات، برعاية مجمع الشيخ أحمد كفتارو، بتاريخ الإثنين 13كانون الأول 2004م. دار الأسد للثقافة والفنون. |
|
|