|
الأمهات السوريات جمالُهنَّ يودُّ أن ينام بعد القصف
السوريات أمهات. للسوريات أطفال يشبهون عيسى الذي كان الابن الوحيد لمريم بنت عمران. نسخ متعددة من صورته المتخيلة. في مرآته نبتت دموعهم. هناك سوريات في كل مكان من بيروت. يلتقيهن المرء في الشارع والفندق والمقهى وعلى شاطئ البحر. الكلام الناعم لا ينفع أحدًا. يكاد الجمال يحضر متشنجًا. جمال السوريات يختصر فكرة الطرد من الجنة. هذه أمة من عسل تفكر في أن تتجهم. أفكر في العقاب الجماعي وأنا أرى عائلة سورية في المصعد. جدٌّ وأحفاد وما بينهما أمٌّ وأب. صورة نموذجية للعائلة المقدسة. لم تعد هناك جدة. عينا الجد تشيران إلى مقبرة في حلب. لم أسأله عن الفقرة الناقصة التي تكسر الظهر. المرأة العظيمة التي لم تهاجر. ظلت مقيمة هناك. حلبية مثلما ولدتها أمها. أخبرني ياسر صافي أنه يود لقائي لتوديعي فقد قرر العودة إلى الشام. شامه التي هي مربَّع صغير من الأرض التي لم تلمسها قدماه من قبل. أخبرني في وقت سابق أنه قد هجر مرسمه وبيته، بعدما وقعا في خط التماس. الحرب تتشظى وتتشكل من جديد كل لحظة. الحرب لها ألسنة كثيرة وتتكلم لغات لا حصر لها. قلت له: أنا خائف على صديقتنا رامية. لقد رأيت في عينيها حيرة، هي أشد قتامة من الحزن. قال: رامية تشعر بالضياع ومع ذلك فإنها لا تزال قوية. أعرف أن النساء قويات بالقياس إلى ضعف الرجال. السوريات أقوى النساء في العالم. ما هذا الحظ العاثر؟ كنت قد تعرفت إلى جمال السوريات في لحظة قلقة من حياتي. كنت على وشك لأن أطوي الدفتر. قلت لنفسي إنها رحلتي الأخيرة إلى الشرق الذي صار بعيدًا. لا أمل. الأشياء تتكرر هناك. كل شيء صار ملكًا لبداهة مملة تتحرك بطريقة عشوائية. سأعود إلى بلادي الافتراضية من أجل أن أكون ملكًا في غابة لن يسألني أحد فيها عن أوراق الملكية. لا من أين أتيت ولا إلى أين تمضي. غير أن جمال الدمشقيات سدَّ الطريق أمامي. فصرت أتعثر بين مربَّعات ودوائر فسيفساء خيالية، مادتها نساء كن يمشين على الضفة الأخرى من النهر، كل واحدة منهن هي زنوبيا القادمة من السينما. صرت أرى في زينة الوجه مقياسًا عادلاً لفكرة التماس مع الآخرة. السوريات في حقيقتهن هن الوارثات الحقيقيات لحواء الأم، التي لم تتخلَّ عن دورها عشيقةً إلى الأبد. كنت أمشي على أرض الواقع فيما كانت الرمزية تأخذ بيدي إلى مواقع تحتاج إلى الترميم العاطفي. سأعود إلى الشام، يقول لي ياسر. لم أسأله: هل ترغب في أن أعود معك؟ تذكرتُ فراشي في بيته، الذي هو فراشه الذي تخلى عنه في لحظة كرم صافية. لقد كنا النبي وصاحبه. لم أقل: لا تحزن إن الله معنا... كنا في الكهف. في مقهى الدار صرت أنظر إلى رامية كما لو أنها هي التي ستذهب. سيكون عليَّ أن لا أودع ياسر. السوري الذاهب إلى بلاده. ساحة الحرب رأيتها من قبل في لوحاته. ما الذي تفضله لكي تكون سوريًا؟ سؤال عتيق لن يجرؤ أحد على طرحه. كان ياسر مولعًا بالأسئلة القديمة. فجأةً اكتشف العالم أن هناك أمهات سوريات. صورة المنتحبة في الفاتيكان وخارجه تغري المنتحبين في البكاء. الجمال يتلظى ويتألم ويشقى. لن يكون هناك أمامنا سوى جمال مشويٍّ. الجمال الصاعد بجلاله إلى القيامة. هل تفضله نيئًا؟ لا أفكر في اللحم. هناك حياة منسية. حياة لن يعيشها أحد تقف في انتظارنا. سأقول له في الغد: إنني أشبهك. المريميات على الطريق يجعلن المعادلة تضحك. ما من مريم تشبه مريم أخرى. السوريات صرن غذاء لآلهة لم تُخترع بعد. الأم المثالية ترضع في البراري عجولاً عمياء. سيتلفت القدر باحثًا عن ضحية لا تقع عليها الشبهة. لن تعين ضحية منسية صديقي صافي في العثور على موهبته. هذه بلاد يكاد الشبه فيها يكون مطلقًا بين الهاربين. لم أسأل رامية: هل الهاربات صرن يتشابهن أيضًا؟ هي لا تشبه إلا شبحها الذي تركته في محترفها بدمشق. ابنة حمص تقول لي "إنك تحبطني" وهي تفكر في من يقف بها على الجبل. لقد تغيرت الحياة يا رامية. لن يهبط أحد من الجبل مهزومًا. كانت المعادلة تأسر نساء، هنَّ الأجمل في العالم، من أجل أن لا يوافق أحد على أحد. هل مر ببالك يا ياسر أنني في الوقت الذي كنت فيه أودعك كنت أفكر في جارتك الحلوة؟ كنت قد حدَّثتني عن الخيانة. كنتُ مثاليًا في خيانتي. السوريات أمهاتنا القادمات من الأسى. صار لدينا بالتأكيد ما نفعله من أجلهنَّ. العبارة التي تذهب إلى السوق مباشرة. ما من أحد يبحث عن بيت. رامية وحدها تبحث عن بيت يؤويها. في البدء كانت تبحث عن مرسم يجمعها بأخريات. الآن صارت تبحث عن مرسم يكون لها بيتًا. لن تكون رامية أمي المقترحة. فأنا في سنِّ أبيها. في إمكانها أن تكون ذريعة لهموم منتحلة. كانت حائرة هذه المرة فعلاً. لم يعد هناك مجال للاستعارة. هي المرأة الكاملة التي شعرت أن هناك نقصًا في مكان ما من حياتها، لذلك قررت أن ترى من بعد. يذهب ياسر وحيدًا. السوريات وحيدات. رامية ستكون وحيدة. ينبغي لي أن أكون وحيدًا من أجلها ومن أجلهن. ولكنني حين أكتب أكون وحيدًا. هذا يكفي لكي أنتظرك في المحطة المقبلة. لم أقلها لياسر. لقد وصلت. جملة مضحكة. على شاشة هاتفي النقال لمعت كلماته. كما لو أنه أراد أن يقول لي: لقد عبرت. الكلمات تتقاطع، يحل بعضها محل البعض الآخر. تمنيت لو أننا نتقاطع أيضًا مثل الكلمات. صار لهزيمتنا لسان. الأمهات فكرة لا تصلح لأن تكون مادة للعرض المجاني. سأذبح حمامة من أجل سلام صار يبكي. كل الكائنات مؤهلة للاضطراب في هذا الفجر، الفضي الأذان. ما من شيء ينزع عن اسم الجلالة حسرته على العباد الذين أغراهم الشيطان فعادوا وحوشًا. ليس لدى الأم ما تفعله غير الدعاء من أجل أن لا يكون اليتم مطلقًا. من أجل أن تكون طريق الشام سالكة من الجانبين. السوريات الجميلات يفتِّتن المعاني ليصنعن من ذلك الفتات خبزًا لأطفال، قُدِّر لهم أن يكونوا منفيين مثل أوفيد، بلفتة حائرة من نابوليون. في لحظة إلهام خيِّل إليَّ أن رامية تضع تاجًا على رأسها. لم يظهر ذلك التاج في الصورة التي التقطتها لها. في ما بعد صرت أرى ذلك التاج على رؤوس كل الأمهات السوريات اللواتي ألتقيهن في الشارع. لقد عبرنا المغطس. نحن في قلب القيامة. تصلح بيروت لأن تكون منتجعًا لهلاك الأنواع. هناك حرب خفية، صار المزاج اللبناني يطعمها أعشابًا برية. حرب الأمهات وحدها ستكون خالدة. يضعني ياسر صافي في البذرة التي تتسلق الشجرة. جارتي لا تصلح أن تكون موضوعًا للرسم. ما من شيء يجاري الأمهات السوريات في شعورهن العدمي مثل التجريد. سنكون تجريديين كلنا عما قريب. ما من شيء ليُرى. ثمة عتمة تغلظ القول مثل سوط أعمى. ولأن كل شيء يبدأ بالأمهات لينتهي بهنَّ، فإن ذلك التجريد لن يكون أثرًا ذكوريًا. ليذهب المتحاربون إلى الجحيم، هناك جمال يودُّ أن ينام بعد القصف. *** *** *** ملحق النهار، 19 كانون الثاني 2013 |
|
|