|
قراءة في تجربة ريجيو إيميليا لفاديا حطيط: الممتع والصعب
رواية تجربة ريجيو إميلييا الإيطالية في الطفولة المبكرة، الصادرة عن "دار النهضة" و"أصالة"، لفاديا حطيط، بدت لي وصفًا لحالة من الحالات الممتعة والصعبة: الممتعة تصوُّرًا والصعبة تطبيقًا. فالكلام عن نشأة التجربة وسماتها، وخصائصها المعرفية والجمهور المعني بها، وجهازها التعليمي، والعناصر التعليمية التي تنطوي عليها والتنظيم المدرسي الذي يحملها، وهي عناوين فصول الكتاب المتعاقبة، هذا الكلام المكتوب بلغة سلسة كان متعة للقراءة. ولأنها تجربة قائمة بالفعل، فقد جاءت الكتابة عنها بأسلوب واثق ومطمئن إلى كونها قابلة للتطبيق في "كل روضات الأرض". هذا الاطمئنان وذلك الوثوق بعثا فيَّ، مفارقة، شعورًا بوجود عوائق غير معلنة في طريق تطبيقها. الكتاب استفزَّني بداية؛ هو استفزَّني، أساسًا، لأنني وفيما أقرأ صفحة تلو الأخرى شعرتُ أنني مدعوَّة إلى زيارة مدينة فاضلة. كان صعبًا عليَّ التعرُّف إلى ملامح أشخاص هذه المدينة، بمن هم بشر تصنعهم أهواؤهم قبل فضائلهم. كما وجدتُ صعوبةً في تخيّل مدرسة/روضة لبنانية يسعها التمثُّل بالمبادئ والممارسات التي تسوِّق لها المدارس التي أنشئت على منوال مدارس ريجيو، وخصوصًا أن الكتاب لم يتناول، بالتفصيل، الصعوبات التي اعترضَتْ تطبيق هذه التجربة في موقعها الأصلي، ولا تلك التي قد تعترض إدماجها في الرؤى التربوية السائدة عندنا. إذ إنني وفي ما أقرأ، كانت تجربتي في التعليم في الثانويات الرسمية اللبنانية، كما في الجامعة اللبنانية، تقفز بين السطور لتعطِّل عليَّ رغبتي في اختبار التفاؤل المبثوث في نصوص الكتاب، والاطمئنان إلى احتماليةٍ معقولةٍ لتطبيق هذه التجربة في بلادنا. لكن لماذا؟ تفاعل وتناغم وانشغال لأن الدينامية الموصوفة في هذا الكتاب لمسار التبادل والتفاعل بين الأطراف المعنيين بالعملية التربوية في مرحلة الطفولة المبكرة، تتضمَّن تبنيًّا متوافَقًا عليه بين هؤلاء الأطراف للمبادئ الأساسية التي تستظلُّه هذه العملية؛ وأن هذا التوافق جاء ويأتي محصلة لعملية مستمرة من النقاش والتبادل بين أشخاص من مواقع مختلفة، قد تكون متباينة المصالح. تنطوي هذه الدينامية، في الوقت نفسه، على مرونة قصوى في اعتماد الآليات التي تنتج اتجاهات الأطراف المعنيين بهذه التجربة، وتشكِّل أسباب سلوكاتهم. لذا فهي تفترض، ضمنًا، بذل جهدٍ مستمر مِمَّن سمَّاهم الكتاب "الجمهور المدرسي": المدرِّسين والأهل والمديرين إلخ، ليبدو كأن الموضوع مستحوِذٌ على كثير من اهتمام المحيط المحلي ومن وقته، ومنفلشٌ على مساحات واسعة من انشغالاته، سعيًا إلى التوصل إلى تناغم بين ناس هذا المحيط الكُثُر من أجل تجسيد رؤية تربوية متبنَّاة. هو تناغم لا يكفيه إعلانُ النيات وتبنِّي الخيارات، بل هو على ما بدا لي عملٌ دؤوبٌ لا ينقطع، بل أسلوبُ حياة لمحيط محلي ولناسه. في الأوضاع التربوية وانشغالاتها، هل يحتاج تحفُّظي إلى تسويغ؟ المعلِّم: متلقٍّ ومتأهب معًا لنأخذ المعلِّم في هذه التجربة، مثلاً. تفترض تجربة ريجيو إميليا معلِّمًا متماهيًا بدرجة كبيرة مع مقاصد مهنته، ومتبنيًّا قيمة أساسية تنطوي عليها هذه المهنة؛ أتكلَّم عن الرغبة برعاية الآخرين واستجابة حاجاتهم. كما تفترض تفانيه في سبيل مهنته لتجعل منها بؤرة تفعيل إبداعاته، ولتبعث فيه حالاً من التأهب الدائم لاستجابة متطلَّبات تجتاحه من كل الجهات: من الطفل أساسًا، المتكلِّم بـ"مئة لغة"- كما يؤكد منظِّرو التجربة ودعاتها - التي يتعيَّن على المعلِّم فك رموزها. لكن أيضًا من انتظارات المحيط المحلِّي ومن الإدارة ومن زملائه، وذلك وفق ما يُمليه عليه أيضًا مخزونُ إعدادِه العلمي؛ أي الخلفية التي تمدُّه بالمعايير التربوية الناظمة لعملية استيعاب processing عناصر الوضعية والتعامل المناسب معها. وتفترض إعدادًا للمدرِّس نظريًا وعمليًا لا ينقطع. كما تتطلَّب استعدادًا نفسيًا وسماتٍ شخصية تسمح له بلعب دور المعلِّم الذي سيستمر في كونه، بسبب ضرورة استجاباته أطروحات الطفل "الطارئة"، متعلِّما متأهبًا خلال مسار الأداء التربوي. إن تجربة المدارس/الروضات التي تنشأ على منوال ريجيو إيمليا لا تستقيم من دون سَوْق هذه العناصر معًا والأخذ بها جميعًا. شعوري هذا بصعوبة التطبيق ناجمٌ، هذه المرَّة، عن انطباع عام لديَّ بأن بروفيل هذا المعلِّم - أو المعلِّمة - لا يشبه بروفيل أكثر الزملاء والزميلات الذين عرفتهم في مسار مهنتي. في مواجهة الشكوك لكن الكتاب، واستباقًا لمواقف شكاكة من إمكان تطبيق تجربة ريجيو إميليا، تقدَّم بشهادتين لمعلِّمتين من مرحلة الروضة من مدارسنا هنا في لبنان. المعلمتان هما جنيفر لوفارج وإيفا كوزما الأسد. فهل عملت هاتان الشهادتان على التقليل من تحفظِّي الشكَّاك؟ إن كون هاتين التجربتين قد جاءتا على شكل شهادتين شخصيتين قد ساهم في إزالة بعض تحفظاتي. ففي ثنايا الكلام حول هاتين التجربتين، يلمس القارئ تماهيًا تامًا مع التجربة؛ كأن يقال، مثلاً، "التجربة جزء مني وأنا جزء منها". ويفترض حماسة لها تكاد تقترب من "الإيمان" بها. وهي حماسة دفعت بإحديهما إلى بذل مواردها الخاصة من المال والوقت والجهد للتعرف إلى التجربة على الأرض في ريجيو نفسها وعدم الاكتفاء بالقراءة عنها؛ كما دفع بالثانية لبذل جهد من أجل إقناع الإدارة بتبنِّي منهج ريجيو إميليا وقامت هي شخصيًا بتوفير الموارد المادية الضرورية وبادرت إلى دعوة الأهل لمشاركتهم فيها ولتثقيفهم حولها. أي أنه، فيما انبثقت الحاجة إلى خوض هذه التجربة التربوية من المجتمع المحلِّي في بلدة ريجيو، فإن معلِّمات الروضة عندنا تنتظرهم، في حال تبني منهج ريجيو إميليا، مهام إضافية تتمثَّل في إقناع الإدارة ببذل الموارد غير القليلة الكلفة، يضاف إليها تثقيف الأهل، واستطرادًا المجتمع المحلي وصانعو السياسات التربوية إلخ على أهمية التجربة. لذا، تبدو دافعية المعلِّم، في تبنِّي هذه التجربة شرطًا ضروريًا لكن غير كافٍ. إن وضع التجربتين المعروضتين في هذا الكتاب بإزاء المعايير الحاملة لتجربة ريجيو إميليا كما جاءت في النص الأساسي (القسم الأول) الذي كتبته فاديا حطيط، يطرح مسائل ينبغي التعامل معها؛ أطرح، في ما يأتي، مثلاً منها. أيَّة قيم؟ المتعلِّم–الطفل لا يكتسب وفق هذه الرؤية معارف ومهارات فحسب، بل أيضًا قيم المجتمع. فإذا كانت التجربة - كما يؤكد الكتاب في أكثر من موقع فيه - قد تطوَّرت في بلدة إيطالية في ظروف تاريخية ومجتمعية معيَّنة، فهي مثقلة بقيم ومبادئ تستجيب لذلك المجتمع ومتطلباته. من هذه، مثلاً، الموقف المتساهل من الوقت، العناية الفائقة بجمالية الفضاء العام المادي، أهمية التضامن والتعاون، الشعور العام بالمسؤولية تجاه المستقبل وناسه (الأطفال)، محورية حقوق الطفل، إلخ؛ فما هي القيم التي يتعيَّن على معلِّمة الروضة تعزيزها عندنا؟ تطرح لوفارج، مثلاً، مسألة أساسية، تقول "علينا أن نجري أبحاثًا لتحديد القيم الثقافية في المجتمع اللبناني". وهو قولٌ ناجمٌ، على الأرجح، من مواجهة الكاتبة/المعلِّمة لهذه المسألة. من يحدد، يا ترى، مضمون هذا التثقيف؟ هذه أيضًا مسألة ينبغي النظر فيها. هذا، فيما تعترض إيفا الأسد مسألة أخرى تتعلَّق بقيمة العمل التضامني بين الأطفال أنفسهم وجعل الواحد منهم مرجعًا محتملاً للآخر؛ وذلك، بدل توجهه إلى المعلِّم/ مرجِعًا على رأس هرم – بما هو تكرار مضمر للبنية الأبوية التي تحكم هيكلة مؤسساتنا وأسرنا. وهذه تنقض واحدًا من أسس تجربة ريجيو إميليا، القائمة على التشاور بين متساوِين في أهلية اتخاذ القرار. كيف نحدد أيًّا من القيم تعتمد المعلِّمة؟ سؤال إضافي محتاج لإجابة. ... وهبة لـ"مدينتنا" تؤكد الكاتبات الثلاث أن تجربة ريجيو إميليا هي "هبة المدينة" التي تحمل اسمها؛ لكن تقديم التجربة، أكان من موقع الباحثة العلمية (فاديا حطيط) أم من موقع التطبيق (لوفارج وكوزما الأسد)، شاءته هؤلاء الكاتبات هبةً لـ"مدينتنا". إن الشغف الذي يلمسه المرء في سعي هؤلاء إلى استعارة التجربة، يجعل القارئ يثق بأن هؤلاء حَدَسْن أن الأسس التي حملتها هذه التجربة، والمبادئ التي استظلَّت بها، يسعها أن تتآلف مع أفكار ومعتقدات وممارسات من ثقافتنا الاجتماعية؛ وبأن الدعوة إلى تبنِّيها، بل مباشرة ذلك، ذات جدوى تربوية تستحق المغامرة. وبأن العملية التربوية بمثابة فسحة مفتوحة لاستيعاب قيم واتجاهات وممارسات سبقنا آخرون إلى إثبات أهميتها، بل ضرورتها، إذا شئنا مشاركة العيش مع "الآخرين" في هذه القرية الكونية. *** *** *** النهار |
|
|