|
العلاج الحيوي الطاقي
رحلة اكتشاف الذات لا يهدف المنهَج الحيوي الطاقي للعلاج فقط، كما هو الأمر بالنسبة للتحليل النفسي الذي لا يتعامل حصرًا مع العلاج التحليلي للاضطرابات الانفعالية. يهتم كلا النظامَين بتنمية الشخصية الإنسانية، ساعيَيْن لفهم سياق كهذا في مصطلحات الأوضاع الاجتماعية التي تحدث فيها. على الرغم أن العلاج والتحليل النفسي هما حجرا الزاوية التي يستنِد عليهما هذا الفهم، وذلك بقدر ما يكون من خلال عمل حريص على كل مشاكل الشخص الفردية التي بوسعها بلوغ نوع ما من الإيضاح بخصوص تنمية شخصية الفرد. وفضلاً عن ذلك، فالعلاج يتأسَّس على قاعدة فعَّالَة لكي تثبِتَ صلاحية المعطيات التي تمَّ الحصول عليها فيما يتعلَّق بالفرد، وذلك دون الإمكانية في أن تكون مجرد أبحاث. وبالتالي، لا يمكن فصل المنهَج الحيوي الطاقي عن العلاج الحيوي الطاقي. العلاج في نَظَري هو رحلة اكتشاف للذات. وهو ليس مسيرة قصيرة وبسيطة، وأيضًا ليسَت خالية من الأوجاع والعثَرَات. فثمة مخاطِر، وثمَّة مجازفات والتي لا تخلو الحياة نفسها منها. في حين أنها تشكِّل في حدِّ ذاتها رحلةً نحو المجهول، الذي هو المستقبَل. يستعيد العلاج الماضي المنسي، وهذا ليس عصرًا آمِنًا وهادئًا، لأنه إذا كان كذلك لمَا أتينا منه موسومين بجراح المعارِك ومحميين من خلال درع لا يُختَرَق من التوترات العضلية. هذه ليست رحلة بوسعي أن أنصح أحدًا في القيام بها وحده، على الرغم من التأكُّد من أنه وُجِدَ الشجعان الذين قاموا بها وحدَهُم. يعمل المعالِج كدليل أو بحَّار، حَمَلَه تدرُّبه إلى التعرُّف على المخاطِر، والتعلُّم في كيفية مواجهتها، وفضلاً عن ذلك، فلسوف يَكون هو الصديق الذي يقدِّم يد العون والتشجيع عند قدوم الوقت السيئ. من الضروري على المعالِج الحيوي الطاقي أن يكون قد قام برحلته الشخصية أو أن يكون في منتصَف الطريق، ومع مستوى كافٍ من التجارب المخزَّنَة لكي يستطيع لتوِّه أن يكون قد بنى حسًّا راسخًا لنفسِه ذاتها. وكما ذكرنا، عليه أن يكون متصلاً بشكل كافٍ بحقيقة (متصلاً بالأرض) شخصه نفسها لكي يستطيع أن يخدم مريضَه عن كثب في اللحظات التي تصير فيها المياه ثائرة بإفراط. وثمَّة بضعة نقاط ضرورية، ولا غِنَى عنها لمن يرغب العمل كمُعَالِج: على الشخص أن يكون متمكِّنًا من معرفة نظريةِ الشخصية جيدًا بشكل كافٍ لكي يعرِف كيف يواجه مشاكل كالمقاومَة والتحويل: وعدا عن ذلك، فعلى المعالِج الحيوي الطاقي أن يمتلِكَ "حساسية" على المستوى الجسماني على نحوٍ يكون قادِرًا فيه على قراءة لغته الجسمانية بدقَّة. لكن لا، فإن كائنًا إنسانيًا كاملاً (وبالمناسبة إذا كان ثمة أحد كامل؟) سيكون غير حقيقي التوقُّعَ منه أن يكون حرًا بشكل كامِل من مشاكله الخاصة. ويحملني هذا الجانِب إلى اعتبار هامٍّ. لا تنتهي رحلة اكتشاف الذات البته، وليس ثمة أرض موعودَة حيث نستطيع الوصول والبقاء فيها بشكل نهائي. فطبيعتنا الأصلية تفلت منا بشكل مستمر بالرغم من أننا نصل بالقرب منها في كل لحظة أكثَر. وتكمن إحدى أسباب هذه المفارقة في واقع أننا نعيش وسط مجتمع متحضِّر وتِقَني بأعلى درجاتِه، آخِذًا بنا بسرعة كبيرة في كل مرة أكثر بعدًا عن المحيط الذي طوَّرنا فيه طبيعتنا الأصلية. حتى عندما يكون العِلاج ناجحًا بشكل جيد فلن نصير أحرارًا من كل التوترات العَضَليّة، آخِذين بعين الاعتبار الظروف التي تفرضها الحياة الحديثة بشكل دائم، والتي تدفع بنا إلى توتُّرات جديدة. إن القدرة التي تدفعنا بها العِلاجَات على إلغاء آثار الصدَمَات المُعَاشَة بالكامل أثناء التطوُّر والنموِّ لهو أمر علينا أن نضع أمامه إشارة استفهام. حتى عندما تشفى كل الجراحات، فتظل هناك آثارها المتعذَّر محوها. من الجدير بالتساؤل إذن، ما الفائدة من القِيَام بالعِلاج إذا لم يكن ثمة تحرر كامل من التوترات، ولا ثمة نهاية للرحلة. لحسن الحظ، إن السوادَ الأعظم ممن يسعون لهذا العِلاج ليسوا ممَّن ينتظرون النيرفانا ولا جنَّات عدن. فالأشخاص المضطربون واليائسون هم أحيانًا بحاجة للمؤازرة لكي يُكمِلوا مسيرة الحياة. كما أن إرجاعهم إلى فترات سابقة يمكن مدُّهم بهذه القوة إذا توفَّر تحسُّن في وعيِهِم الذاتي، وإذا استطاعوا أن ينتقِلوا للتعبير عن ذاتهم بشكل أفضل، وإذا تكامل لديهم الضبط الذاتي. وسيكونون بدون أدنى شك مهيَّئين بشكلٍ أفضل لكي يجاهدوا إذا كان لديهم حس بذواتهم أكثر قوَّةً. ويستطيع العِلاجُ مساعدتَهم بهذا المعنى، لأنه يحرِّرهم من قيودهم وتشوُّهاتهم المتَّصِلَة بطبيعتهم المكتسَبَة، ويضعُهم أكثرَ قربًا من طبيعتِهم الأصلية، ينبوعِ قوَّتِهم وإيمانِهم. إذا لم يكن للعِلاج الشروط الكافية لجعلنا نعود إلى طبيعتنا الأصلية أو حالة النعمة، فبإمكانه وضعَنا أكثر قربًا منها، مقلِّصًا بذلك من الاغتراب الذي عانَيْنا منه كثيرًا. ربما الاغتراب هي أفضل كلمة تعبِّر عن تعب الإنسان المعاصِر. فهو مثل "غريب في أرض مجهولة" دائمًا يواجه أسئلة مثل: "ما الفائدة من هذه الحياة؟" "ما معنى هذا كله؟" الكفاح ضد فقدان معنى وجوده، والشعور بفراغ وعدمية كل شيء، معذَّبًا من خلال إحساس غادر بالعزلة التي يعمل جاهدًا للتغلُّب عليها أو إنكارها، سجينًا لخوف بعيد الغور من حياته التي تفلت من بين أصابع يديه، وذلك قبل أن يكون لديه الحظ لكي يحياها. وعلى الرغم من أنني كمحلِّل نفسي أركِّز انتباهي على العوارِض أو الشكاوى التي يأتي بها المريض في اللحظة الراهنة، فأنا لا أواجه بشكل محدود جدًا الهدف العلاجي فيما يتعلَّق بهذه الإشكالية فقط. فإذا لم أستطع مساعدته على الدخول أكثر في اتصال مع نفسه ذاتها (أو بعبارة أخرى، مع جسده، ومن خلال هذا مع العالَم الذي يحيط به) فإنني أشعر بأن جهودي للتغلب على اغترابه لم تلقَ نجاحًا وبأن العِلاج قد انتهى بشكلٍ سيء. بالرغم من أننا تكلَّمنا عن الاغتراب على أنه كابتعاد بقدر ما يعيشه الإنسان عن الطبيعة كذلك أيضًا عن الكائنات الإنسانية الأخرى، وقاعدة هذه المشكلة هي الابتعاد الذي يعيشه الإنسان عن جسمه نفسه. ناقشتُ هذا الأمر بشكل موسَّع أكثر في كتاب آخَر. وإذ أعود ثانية إلى هذا الكتاب في هذا الأمر لكونه مركزيٌّ بالنسبة للمنهَج الحيوي الطاقي. إنك تختبِر الحياة التي تحيي وجودَك في العالَم فقط من خلال جسمِك. ولكن هذا ليس كافيًا لاحتياز اتصال بالجسم. فيجب على الشخص أن يبقَى على اتصال، ويمثِّل هذا التزامًا في حدِّ ذاته مع واسِطَة الجسم. إن التزامًا كهذا لا يجب أن يستثني العقل، ولكنه يستثني الالتزام مع الذكاء المنفصِل، ومع العقل غير المتنبِّه للجسم: فالالتزام بحياة الجسم هو مفتاح الأمان بأن الحياة سوف تنتهي على خير، وذلك باكتشاف الشخص لنفسه ذاتها. باعتبار العلاج على أنه سياق لا ينتهي، يُطرَح سؤالٌ بشكلٍ عملي: "كم من الوقت عليَّ الانتظار حتى أستطيع الوصول إلى مبتغايَ؟" يسألني المرضى. وإجابة عملية: "ستستمر في العلاج وقتًا لابأس به حتى تشعر أنه يستحق العناء، والوقت، والمال". وهو أيضًا سؤال بدرجة عملية يشير إلى واقع أن الكثير من العلاجات تنتهي بسبب عوامل تتجاوز سيطرة المعالِج أو الزبون، مثل تغيير السكن إلى ولاية أخرى على سبيل المثال. وأستطيع أيضًا أن أوقف علاجًا إذا شعرت أنه لا جدوى منه – بمعنى منع المريض من استعمال العلاج كعكَّاز وجوديٍّ. في حين سينهي الزبون الرباط العلاجي عندما يشعر أنه قادِر على تعهُّد المسؤولية عن ذاته من خلال استمرارية تطوُّره أو بمصطلحات أخرى، عندما يجد أن بوسعه متابعة الرحلة بدون دليل آخر. الحركة هي جوهر الحياة، نمو وانحطاط هما مظهران لهذه الحركة. فإذا توقف النمو فيما يتعلَّق بتطوُّر الشخصية، فإن الانحطاط هو ما يحلُّ، والذي يكاد لا يكون ملحوظًا في البداية، وعاجلاً يصير الأمرُ جليًا. يكمن المعيار الحقيقي لعلاج ناجح بشكل جيد في جعل الزبون يقوم بمبادرة ويحافظ على سياق النمو الذي يدوم بمعزل عن المنافع العلاجية. ذكَرتُ في الفصل الأول بعضًا من تجاربي الشخصية بعلاجي الذي قمتُ به مع رايش، والذي تابعتُه لاحِقًا مع جون بيِرّاكوس John Pierrakos وكان هذا العِلاج الأخير السبب في ظهور قواعد طريقة المنهج الحيوي الوظيفي الطاقي. وبالرغم من أنه قد توسَّع إحساسي بذاتي نفسها على نحوٍ لا يُقاس (إدراك ذاتي، وتعبيرية ذاتية، وضبط ذاتي). فأظنني لم أصِل حتى الآن إلى نهاية رحلتي. وكان قاربي الصغير يُبحِر في تلك الأوقات هادئًا، ولم يكن يوجد أي توقع بمشاكل أو صعوبات، ولكن لم يدُم هذا التقدير بشكلٍ غيرِ محدَّد. فقد اجتزتُ على مدار السنين التالية بعض الأزمات الشخصية التي كانت لدي الشروط لمواجهتها بشكلٍ إيجابي بسبب علاجي الذي قمتُ به. تحصل أزمة شخصية فقط عندما تدخل صلابة ما في الشخصية بتوتر مفرِط. وبالتالي، فهي لحظة خطيرة أيضًا، وملائمة حتى إلى انطلاقة أعظم وتطوُّر لاحِق. وبقدر ما أخَذَت حياتي تنبسِط، فقد استطعتُ لحسن الحظ اختبار النمو اللاحِق للألَم. وبدون الدخول في تفاصيل الأزمَات في حدِّ ذاتها، سوف أصِف مجموعةً من التجارب الشخصية المتعلِّقَة بموضوع العِلاج. بدأتُ أعي منذ ما يقارِب الخمس سنوات، وجعًا في الرقبة. فأدركتُ في البداية أنه كان يأتيني فقط من حين لآخَر، ولكن مع مرور الوقت كان الوجع يصير كل مرة أكثر وضوحًا، وذلك في كل مرة حين أدير رأسي على نحوٍ مفاجئ. ليس أنني كنتُ قد تجاهلتُ جسمي أثناء الوقت الذي مضَى بعد انتهاء العِلاج الفعَّال لأنني كنتُ أقوم بشيء من الانتظام بالتمارين الحيوية الطاقية التي أستخدمها مع مرضايَ. وعلى الرغم من أنها ساعدَتني بشكل هائل، فلم تصِل هذه التمارين إلى أن تكون فعَّالَة مع ذلك الوجع الذي كنتُ أتوجَّس خيفةً أن يكون التهاب مفاصِل عنقي. ولم أسعَ أبدًا للتأكُّد من شكوكي من خلال أشعَّة إكس، على نحوٍ أنها حتى اليوم لم يتجاوَز الأمر كونه مجرد افتراض. عدا عن كون ذلك أو لم يكن نتيجة التهاب، فقد استطعت جسَّ بعض العضلات المتوتِّرَة نسبيًا في الرقبة، والتي كان يشملها الوجَع. كانَت هناك أيضًا توتُّرات عضلية في الثلث الأعلى من الظهر وفي الكتفين. أدركتُ أيضًا من خلال الأفلام التي سجَّلْتُها عني أثناءَ عملي مع المرضى، أنني كنتُ أحيانًا أترك رأسي يميل إلى الأمام. وكانت هذه الوضعية تعطي مجالاً لتقوُّس خفيف للظهر بين الكتفين. مارستُ خلال عام ونصف تقريبًا، وبشكل منتظَم بعض التمارين الموجَّهَة لتسكين الوجَع وتقويم الظهر. وكنتُ أُخضِعُ نفسي أيضًا إلى تدليكات منتظمَة مع معالج حيوي طاقي. وكان هذا الأخير يشعر أيضًا بالعضلات المتوتّرَِة، والتي كان يشتغِل عليها بشكل لجوج لكي يُنقِصَ قليلاً من الانقباض. كانت التدليكات والتمارين مفيدة لبعض الوقت، فشعَرتُ بنفسي حرًّا أكثر وعلى نحوٍ أفضل بعد الجَلَسَات، على رغم استئناف الوجَع واستمرار التوتُّرات. حصَلَت لي تجربةٌ أخرى خلال هذه المرحلة، أعتقد أنه كان لها دور حاسِم في حلِّ المشكلة. فعند نهاية ورشة عملٍ للمهنيين قال اثنان من المشاركِين (وهما معالجان حيويَّان طاقيَّان متدرِّبان) أنه جاء الآن دوري، وأخذا يشتغِلان عليَّ. ولم أتَّخِذْ هذه التجربة بشكل متواتِر، ولكن في تلك اللحظة استسلمْتُ لإغرائها. وهكذا فقد اشتغلَ واحدٌ منهما على توتر في الحنجرة، والآخَر توجَّهَ نحوَ القَدَمَيْن. وشعرتُ بشكل مفاجئ بوجعٍ حاد كما لو كان أحدٌ قد قطع حنجرتي بسكين. وللحال، أحسستُ أنها كانت والدتي، وقد فعلت شيئًا، بالمنحَى النفسي لا الحرفي. أدركت أن المفعول كان في منعي من التكلُّم بصراحة أو التحسُّر على نفسي. كان لديَّ صعوبة دائمًا في إضفائي صوتًا لمشاعري، وعلى الرغم من أن المشكلة قد خفَّت بشكل واضِح مع مرور السنين. ففي بعض المناسبات، وصل هذا الانحصار إلى جعلي أشعر بوجع في الحنجرة، وبشكل رئيسي عندما أشعر بالتعِب. وعندما أشعر بالوجَع كنتُ أصرف كل المعالِجين، وأصرخ من الوجَع، بعدها كنتُ أشعر بانفراج عميق. بعد هذا الحادث، على الفور رأيتُ حلمين يحملان المشكلة الأولى إلى نقطتها الأعظمية. وقد حصلا في ليلتين متتابعتين. ففي الأول، كنتُ متأكدًا من أنني سوف أموتُ جرَّاءَ سكتةٍ قلبية، إذَّاك شعرتُ أن ذلك كان صائبًا لأنني سوف أموت بوقار؛ كان غريبًا، لكنني لم أشعر بأدنى قلق أثناء الحلم، ولا حتى في الصباح التالي عندما استيقظتُ، وتذكَّرتُه. حَلَمتُ في الليلة التالية أنني كنتُ مستشارًا محطَّ إعجاب ملِكٍ طفل، كان يعتقد أنني كنتُ قد قمتُ بخيانته. وأمَرَ بقَطعِ رأسي. وفي الحلم، كنتُ أدرك أنني لم أكن قد خنتُه، وكنتُ على ثقة بأنه سوف يكتشِف الخطأ، وستتم تبرئتي، وفي النهاية أعود إلى عملي. وبقدر ما كان يقترب موعِد إعدامي، كنتُ لاأزال على ثقة في أنني سوف أُبَرَّأ. وعندما أتى اليوم حين قاموا بقيادتي إلى منصَّة الإعدام، كنتُ لاأزال متأكِّدًا من أن تبرئتي سوف تحصل، وربما يكون ذلك في الدقيقة الأخيرة. كنتُ أشعر في الحلم أن الجلاَّد واقفٌ إلى جانبي، ممسكٌ ببلطة ضخمة. ولم تكن صورته واضحة. وبالرغم من كل شيء كنتُ أنتظِر تبرئتي. وإذَّاك مالَ السيَّاف لكي يقطع الأوعية الدموية التي تربط ساقيَّ، وقامَ بذلك بيديه لأن الأوعية الدموية التي تحيط بكعب قَدَمِي كانت مصنوعة من شريط معدني دقيق للغاية. وأدركتُ فجأة أنني أنا نفسي كان بمقدوري القِيَام بذلك، واستيْقظتُ في الحال. أيضًا، لم يسبِّب لي هذا الحلم أيَّ قلق فيما يتعلَّق بموتي الوشيِك. شعرتُ أمام غياب القلق أن لكلا الحلمين معنى إيجابي. وبالتالي، لم أقم بجهود كبيرة لتفسيرها. فالأول كان على وشك إعطائي تفسيرًا، وقبله، كنتُ أقدِّر لبعض الوقت إمكانية حدوث سكتة قلبية. وكنت قد بَلَغْتُ آنذاك حدودَ الستين عامًا، ولم تكن في هذه المرحلة السكتات القلبية نادرة، وكنتُ أعرِف أيضًا أن هذه هي نقطة ضعفي العظمى. في الحين أنني كنتُ أعي صلابة صدري منذ جلستي العلاجية الأولى مع رايش، ولم أستطِع البته التحرُّر منها بشكل كامل. كما كنتُ أيضًا مدخِّنًا عريقًا للغليون مع أنني لم أكن أقوم بالبلع أثناء تدخيني. لم يُرِحني الحلم بخصوص استحالة سكتة قلبية، بل بالعكس صار الحدَث بحدِّ ذاته في الدرجة الثانية لاهتمامي. وكانت النقطة الهامة هي موتي بوقار، ولكن هذا كان يعني أيضًا كما أدركت للحال، العيش بوقار. وبدا هذا الإدراك كما لو أنه قد أطفأ خوفي من الموت في داخلي. لم أقُمْ في بادئ الأمر بالإفصاح لأحد عن هذين الحلمين. ولكن، بضعة أشهر مؤخرًا رويتهما لمجموعة من المعالِجين الحيويين الطاقيين خلال ورشَة عمل في كاليفورنيا. كان لقاءً موجَّهًا لمناقشة حلمي في تلك الليلة. وفي هذه السانِحَة، لن أتعمَّق كثيرًا في تفسير الحلم الثاني. وكان لدي الإحساس بخضوعي أثناء وقت طويل لمظهَر طفولي من شخصيَّتي، الأمر الذي كان يجذب لي الصعوبات فقط. فقد كان علي أن أتَّخِذَ مكاني الحقيقي كحاكم لمجالاتي (شخصيتي، وعملي) حيث كنتُ المسؤول عنها. ووجدتُني بخيرٍ عند اتخاذي قرار مثل هذا. حوالي شهر ونصف فيما بعد، التقيتُ مجموعةً أخرى من المعالجين الحيويين الطاقيين من الساحل الشرقي، ورويتُ لهم مجددًا الحلميْن. وفي هذه الغضون، خطَرَت لي بعض الأفكار التي تعود إلى الحلم الثاني. ظنَنْتُ أنه كان يوجد نوع ما من العلاقة بين هذا الحلم والوجع في الرقبة. ففي الحلم، تعيَّن عليَّ أن يُقطَعَ رأسي وكانت البلطة وشيكة السقوط على رقبتي. وبدأتُ اعتبارًا من هذه العلاقة أصف الوجع المزمِن لرقبتي، والذي شعرتُ به إذَّاك أنه متعلِّق على نحوٍ ما بواقع أنني لم أدعَم رأسي لكي يظلَّ مرفوعًا. وعندما اتَّخَذتُ هذه الوضعية فعلاً، زالَ الوجَع من تلقاء نفسه. إلا أنني، كنتُ أدرك أيضًا أنه لم تكن لدي الشروط الكافية للقِيَام به بشكل واعٍ من خلال استخدام إرادتي. ذلك أن الأخيرة كانت لتبدو اصطناعية، ولن يكون بمقدوري البقاء في هذه الوضعية. وضع الرأس بشكل مرتفِع كان عليه أن يكون تعبيرًا عن الوقار الذي أشرتُ إليه في حلمي الأول كتفسير له. بعد أن رَوَيتُ حلميَّ، تذكَّرتُ بضعة انطباعات في مرحلة الطفولة. فقد كنتُ البكر، والذكَر الوحيد من العائلة. وكانت أمّي تكرِّسُ نفسَها لي بشكل كبير، وكنتُ طفلةً في عيْنَيها. وكانت تعبِّر لي بأشكالٍ كثيرة عن طريقتها في رؤيتي كأمير صغير. ومن جهة أخرى، كانت تلحُّ دائمًا على أنها أكثر معرِفةً مني وكانت تُظهِر نفسَها قاسية في مراتٍ كثيرة حينما كنتُ أتصرَّف على نحوٍ تمرُّدي. كانت إمرأة طموحة، ونقَلَت طموحَها هذا إليَّ. كان والدي أيضًا متعلِّقًا بي كثيرًا. وكانت شخصيته مناقِضَة عمليًا لتلك التي لوالِدَتي. فقد كان سهل المعشَر، ومحبٌّ للسرور. وبالرغم من عمَلِه كثيرًا فقد كان لديه ميل للفشل في أعماله تلك التي لم تكن ذو أهمية. واعتدتُ على مساعدتِه بالكتابات لأنني كنتُ أقوم بالحسابات بشكل سريع. وعلى امتداد طفولتي كلها كان والديَّ يتشاجران الواحِد مع الآخَر بسبب المال بشكل عام، وليس نادرًا ما كنتُ أضع نفسي في وَسَط الشجار. على نحوٍ ما كنتُ أشعر بتفوُّقي على والدي، ولكن من جهة أخرى فهو كان أعظم وأكثر قوة، وكنتُ أخاف منه. لا أعتقد أن خوفي منه كان هو السبب، لأنه لم يكن قاسيًا، وضرَبَني مرةً في سانِحَة. أما والدتي، فقد توصَّلَت إلى وضعي في موقف منافس له، وهذا أمر، ما من صبي يستطيع تحقيقه بالشَّكل المرضي. أدركْتُ أنني لن أتوصَّل البته إلى حلٍّ لهذا الوضع الأوديبي بشكل كامل لأن الأمر كان يتعلِّق بدون أدنى شك بهذا الوضع. فوالدي كان الملِك الطفل الذي لم أستطِع خلعه عن عرشه، على نحوٍ أنني ظلَلْتُ كالأمير الصغير مليء بالوعود، ولكنني أسيرٌ لدورٍ ثانوي على نحوٍ صارِم. عندما عرَضتُ هذا الوضع وصفْتُ نفسي من خلال هذه المصطلحات، وأدركتُ فجأة أن الأمر قد انتهى. كان ذاك هو الماضي. وكل ما كنتُ بحاجة إليه لتحريري هو فكُّ ذلك الشريط المعدني الذي كان يربط كعبَيْ قدَميَّ. فوالدي كان قد تُوفِّيَ منذ عدة سنواتٍ، ودون أن أكون قد فكرتُ بهذا الأمر، أدركتُ أنني منذ تلك اللحظة وما بعدها، كنتُ قد صرتُ أنا هو الملك، وكما هو طبيعي بالنسبة للملوك فقد كان بمستطاعي أن أمشِيَ بطمأنينة ورأسي مرفوع. انتهى التفسير عند هذا الحدِّ، ولم أعد أعطي أهمية لهذا الموضوع لأنني أدركتُ الآن أين أضع قدميَّ. وبدون التفكير أكثر من ذلك في هذا الموضوع، اكتشفتُ ذات يوم أن الوجَع في الرقبة قد زالَ، ولم يعُدْ مطلقًا. بدأتُ منذ ذلك الوقت أعي موقفًا مختلِفًا في علاقاتي مع الآخَرين. فقد علَّق بعضُ الأشخاص حتى عن تغييرات. ووفقًا لهم، صرتُ أكثر لباقة، وأكثر سهولة في التعامل، وأقل تحديًا، وأقل إلحاحًا لكي تلاقِيَ أفكاري القبول. وكان صراعي يهدُفُ قبل هذا الوقت لكي يتم الاعتراف بي، فقد كنتُ أريد الاعتراف بي كرجل، وليس كصبي، كملك، وليس كأمير. لكن، لا أحد كان بإمكانه منحي شَرَف هذه الميزات التي تعود لاعترافٍ أنا نفسي لم أكن أمنحه لذاتي. والآن لم يكن هناك ثمة أية حاجة للصراع. أصبحتُ مسرورًا جدًا في هذا الحل للعقدة، لكن هذا لم يكن يعني انتهاء رحلتي. وعلى أثَر تحرُّري من التوتُّر في رقبتي، بدأتُ أعي أكثر للتوتر في كتفيَّ وصدري. كانت توترات لم تصل إلى حد الألَم. وبمعزلٍ عن هذا الأمر، تابعتُ تماريني الحيوية الطاقية من تنفُّس، مع تمارين الاتصال بالأرض grounding وأعطيتُ لَكَمَات في كيسٍ من الرمل لكي أُطلِقَ الكتفيْن. أما الاتصال بالأرض grounding فهو يشير إلى تحرير المشاعِر حتى القدميْن. فوفقًا لحلمي كنتُ مربوطًا من خلال كعبَيْ قدميَّ. تجربة أخرى لها بروزها في هذه القصة. فمنذ عامين تقريبًا، تعرّفتُ على مدرِّسَة للغناء متآلِفَة مع المفاهيم الحيوية الطاقيَّة، ومع الدَّوْر الذي يلعبه الصوت في مصطلحات التعبيرية الذاتية. ذكَرتُ قبل قليل أنني كنتُ أشعر بأن والدتي كانت قد قَطَعَت حنجرتي. وهذا ما أدَّى بي إلى مشاكل في الكلام، والبكاء، وبشكل رئيسي الغناء. كنتُ أرغب دائمًا بالغناء، لكنني لم أقم بذلك البته. كنتُ أخشى أن يضعُفَ صوْتي، وأشرَع في البكاء. لا أحد في عائلتي كان يغني عندما كنتُ طفلاً. وهكذا، قرَّرْتُ البدء في دروس الغناء مع هذه المدرِّسَة لكي أرى ما سوف يكون ممكنًا تحقيقه. أصرَّت عليَّ أن أفهَمَ مشاكلي، ذلك أن الدروس سوف تكون خصوصية، ولن يكون هناك بالتالي أدنى مشكلة في البكاء في حال شعرتُ بالرغبة في ذلك. ذهبتُ إلى الدرس باستثارة معتبَرَة. وبدأتُ بجعل نفسي تُصدِر صوتًا أيًا كان، عفويًا، وحرًّا. بعدها، غنَّيْتُ عبارة – "لعبة الشيطان" – شيء سمحتُ لنفسي من خلالِه أن أفتح حنجرتي وأغنِّيَ بامتلاء. تركتُ نفسي الذهاب في الأمر بدون تحفُّظات. وأخذتُ أمشي عبر الصالة وأمثِّل الأغنية. وأصبح صوتي أكثر طلاقَةً. وعند لحظة ما، أصدرتُ صوتًا خرج على نحوٍ طبيعي جدًا، ومليء جدًا، وكان يبدو أنني كنتُ أنا الصوت، وأن الصوت كان أنا. فالصوت انعكسَ من خلال كياني كله. وبقِيَ جسمي في حالةٍ مستمرة من الاهتزاز. لمفاجأتي، لم أشعر بالرغبة في البكاء ولا أية مرة. وببساطة، انفتَحْتُ وتركْتُ الأشياءَ تحدُثُ. كنتُ أدرك أنه بإمكاني الغناء، ذلك أن لبضعة أصوات كان لديها نوعية موسيقية جميلة جدًا. وعندما تركتُ الدرس، شعَرتُ بفَرَح شديد يمكن معايَشته فقط في مناسبات قليلة جدًا. وبالطبع، فقد استمريْتُ في متابعة دروسي. ذكَرتُ هذه التجربة لأنني متأكِّد من كونها لعِبَت دورًا بارزًا بالنسبة للخطوة القادِمَة. فعلى مدار السنة التالية، لم أعطِ أهمية لأحلامي، على الرغم من عدم كونها بعيدة جدًا عن مستوى وعيي. فقد كنتُ أفكِّر في هذه الأحلام، وفي والِدَيَّ أيضًا فقط من حين إلى آخر. إذَّاك، وذات يوم، حدث ما يلي: أدركتُ من كان الملِك الطفل. فلقد كان قلبي ذاته. أما الحلم الثاني فقد اتخذ معنى مختلفًا بشكل كامل: لقد قمتُ بخيانة قلبي، متخلِّيًا عن ثقتي به، فقد كنتُ قد أغلقتُ على هذا العضو داخل قفص الأضلاع الصدري الصلب. فإن "أنا" حلمي كانت أنايَ، أي عقلي الواعي، وذكائي الفكري. وباعتبار الأمر على هذا النحو فـ"الأنا" أي الذكاء الفكري كان المستشار العارِف الذي ينظِّم كل شيء من أجل مصلحة الملك السجين، الطفوليّ. عندما فهمت أنه كان الملك، لم يكن لدي أية شكوك حول نزاهة هذا التفسير. ومن الواضِح أن القلب هو الملك الذي تتوجَّب معرفته. وخلال أعوام دافعتُ عن فكرة أنه يتوجَّب علينا الإصغاء إلى قلوبنا واتّباعها. فالقلب هو المركز أو جوهر الحياة، وقاعدته الأساسية هي الحب. وهو أيضًا طفل، ذلك أن القلب لا يشيخ. فمشاعِر قلب طفل، وتلك التي لقلب شخص أكبر سنًا هي نفسها – الحب، أو الألَم من عدم كونِه قادرًا على الحب. لكن، وعلى الرغم من مناداتي بهذا المبدأ، فأنا نفسي لم أكن أتبعه بشكل كامِل. كنتُ قد استعملْتُ تعبير "الملِك الطفل" بكيفية مقلِّلَة للقيمة، كما لو كان النضج وظيفة الذكاء الفكري. وعدا عن ذلك، فلم أكُنْ حتى الآن قد سامَحْتُ والدتي عن الوجَع الذي سبَّبَتْه لي، وأنه كان على قلبي أن يعتذر بدون أي تردُّد. وبدون شك، كنتُ قد خنتُ الملِك، وهو كان قد تولَّى كل سلطته، آمِرًا: "إلى الخارِج مع هذا القلب"، "لستُ بحاجة إلى مستشار زائف كهذا". إلى درجة أنني ما كنتُ على صواب. فلم أكن فعلاً قد خنتُ قلبي، فقد كنتُ أحميه وأتصرَّف وفقًا لأفضَل اهتمامٍ له. وكنتُ أتذكَّر أيضًا والدتي في تلك اللحظة. ولكن، هناك حقيقة في هذا كله. فقد كنتُ اختبَرتُ وَجَعَ القلب المتروك بسبب خيانة عندما كنتُ لم أزل طفلاً. تراءَت لي والدتي تتَّجِه صوبي ممتلئة غضبًا، عندما كان كل ما أريده هو أن أبقى إلى جانبها. إذَّاك بدأتُ أحمي قلبي لكي لا يُجرَح شعوره مرة أخرى، وبشدة كبيرة. ولسوء الحظ، فقد اتَّخذَت هذه الحماية هيئة أسْرٍ، وانغلاق في قناة الاتصال بين القلب والعالَم، وكان قلبي الفقير يضمُر حتى الموت. وكان مقدَّرًا له أن يعاني سكتة قلبية. لم يتعطَّل رأسي عن العمَل، ولم يعانِ قلبي سكتة قلبية. وأصبحتُ حرًا عندما أدركت في الحلم أن قضيب الحديد لم يكن سوى شريطٍ معدني دقيق جدًا، والذي كان وهمٌ يربطني من القدَمَيْن. في الحين كان ممكنًا أن أحرِّرَ نفسي منه عندما أشاء. ولكن حتى أكون على علم أن الأمر لا يتعدَّى كونَه مجرَّدَ وهمٍ، وامتيازه عن الحقيقة. اعتبارًا من ههنا، فالوَهم عَمِلَ بكامل قوته وتواحَدَ مع الحقيقي. يحتاج كل ملِك إلى مستشَارَيْن. ويحتاج كل قلب إلى رأس يمنحه عينَيْن، وأذُنيْن على نحوٍ يتمكَّنُ فيه من التواصل مع الواقِع. أما ما كان خيَانةً لقلبي فهو أنني لم أسمَح لقلبي أن يتولَّى الحكم. هذا تفسير جديد لأحلامي يمكن تسميته بالتفسير الحيوي الطاقي، لأنه يشير إلى تفاعلٍ ديناميكي متبادَل لأجزاء من جسمي هي مظاهر لشخصيتي. كان التفسير السابِق يميل أكثر للفرويدية. وأعتبِر كلا التفسيرين صحيحًا، وفقط أن الأخير هو أكثر شمولاً من الأول. أعترِف وأقبَل بأن الحلميْن يتلاقَيَان خاضِعَيْن لعدَّة تفسيرات وأنها كلها صحيحة على قدر ما تكشف عن تصرُّفات ومواقِف الحالِم. تركَتني الرؤية الناجِمَة عن أحلامي مع مشكلة صلابة الصدر. وكان على التوترات العضلية أن تسترخي من انقباضاتها، لكي أتمكَّن من إطلاق قلبي. ولم تفتح قلبي بعد الرؤية الناجمة عن الحلم، وبدون شك فتَحَت الطريق لكي يحصَل مثل هذا التغير. يتناوَل الأمر مبدأ هامًّا داخل المنهج الحيوي الوظيفي الطاقي، فالتغيرات في الشخصية مشروطة بتغيرات في الوظائف الجسمانية، وللمعرفة أيضًا فثمَّةَ التنفس الأكثر عمقًا، وقابلية حركية واضِحَة، وتعبيرية أكثر انطلاقًا وتكاملاً. ومع احترام لهذه الوظائف كانت صلابة صدري تمثِّل تقييدًا لشخصي. وكنتُ أعي هذه الصلابة منذ زمن ما وضمنيًا اشتغلتُ عليها. وعدا عن هذا، كان مدلِّكي متدرّبًا في المنهج الحيوي الطاقي، وكان قد حاول إطلاق عضلات القفص الصدري. وكادَت النتائج تكون لا شيء. فقد كان صدري يتوتر لأدنى ضغط يُطبَّق عليه، وبمعزَل عن إرادتي كلها بالاستسلام لم أستطع التوصُّل لكي أستسلِم. وبدأت هذه الحال في التغيُّر على مدار السنة الأخيرة. كان هذا التغير يقوم على إدراك في الإقلال من المقاومة. وكنتُ أشعر بأنه إذا ما طُبِّقَ الضغط الآن، فلسوف تتوفَّر لي الشروط لاستسلامي. وبكوني موجَّه من خلال هذا الإحساس، فبالتالي، طلبتُ من معالج حيوي طاقي أن يقوم بضغط خفيف وإيقاعيٍّ على الجدار الصدري، بينما كنت أميل على الكرسي الحمَّال للتنفُّس. وعندما شرعتُ العمل وفقًا للإرشادات، بدأتُ في البكاء، وكان البكاء يتعمَّق تدريجيًا حتى صار صوتًا محتضِرًا يخرج كحشرَجَة من خلال الحنجرة. شعرتُ أن هذا الصوت كان آتيًا من وَجَع قلبي، ومن الرغبة في أن أُحِبّ، وأكون محبوبًا، ولمفاجأتي فإن النشيج المنازِع لم يدُم وقتًا طويلاً. وبشكلٍ مفاجئ بدأتُ في الضحِك، وانتشر شعور خفيف في جسمي كله. جعلَتني هذه التجربة أشعر بكل التقارب الموجود بين الدموع والضحِك. كان هذا الفرح يمثِّل بالنسبة لي في تلك اللحظة على الأقَل أن صدري كان طليقًا وقلبي كان منفتحًا. مع ذلك، فهذه ليست هي التجربة الوحيدة التي تحوِّلُنا وتجعلنا أشخاصًا جديدين. فعلى السياق أن يُكرَّر مرات ومرات كثيرة. وبعد وقت قليل من هذه التجربة شعرتُ بردَّة فعل مماثلة لطريقة عمل أخرى. كنتُ أنا وزوجتي نمارس بعض التمارين الحيوية الطاقية، وذات يوم أحد في الصباح، كان كتِفَايَ متوتِّرَيْن، وإذَّاك طلبتُ منها أن تشتغِلَ عليهما قليلاً. كانت المنطقة الأكثر إيلامًا متوضِّعةً في الزاوية بين الرقبة والكتفيْن، بالقرب من النقطة التي تندمِج فيها العضَلات المثلثية الشكل في الأضلاع العليا. كنتُ متمددًا على الأرض وهي انبطحَت فوقي، وضغطَت على هذه المنطقة بقبضَتيْها، وكان الوجع لا يُحتمَل. انفجرتُ في نشيجٍ عميق الشدَّة. ومجددًا بعد دقيقة تقريبًا، انفجرَت ضحكةً من زَوَال الانقباض عائدًا إليَّ الشعور الأكثر فرحًا من تجربة أخرى. باختصار، فإن تجاربي على مدى الخمس سنين أخيرة أخذَتني إلى استخلاص بعض النتائج. تؤكِّد الأولى فكرةً تمَّ التعبير عنها سابِقًا بأن العِلاج هو سِيَاق نموٍّ وتطوُّر لا ينتهي. يُرسي العَمَل مع المعالِج قواعِد هذا التطوُّر الدائم، وفي الوقت نفسه، فإن ما يضع قوى باطنية للشخصية ذات وظيفة في مسيرة هو توسيع ونشر كل مظاهر الذات (الإدراك الذاتي، والتعبيرية الذاتية، والضبط الذاتي). فعلى قدر ما تعمَل هذه القوى على المستوى الواعي فإنها تعمَل أيضًا على المستوى اللاواعي. الأحلام هي إظهار لعملية هذه القوى على المستوى اللاواعي. على الشخص في المستوى الواعي أن يتعهَّد هذه التغيُّرات أو أن يبقيَ نفسَه في حالةِ نموٍّ وتطوُّر. النتيجة الثانية هي أن الالتزام بالنمو يشمل التزامًا مع الجسد. فاليوم ثمة أشخاص كثيرين مفتونين بفكرة النمو، والحركة لصالِح الطاقة الإنسانية التي تقوم على هذه الفكرة، وتتبنَّى عددًا كبيرًا من نشاطات تهدف لتطور الشخصية. يمكن لهذه النشاطات أن تكون نافعة لكنها تتجاهَل الجسد، وبوسعها أيضًا أن تتحوَّل إلى ألعاب، ربما هامة، وحتى مسلِّية، لكنها ليسَت سياقات جادَّة تهدف للنموِّ. لا تستطيع الذات أن تطلِّقَ الجسد، ولا يستطيع الإدراك الذاتي الانفصال عن الوعي الجسماني. وبالنسبة لي، فعلى الأقل، إن طريقَ النموِّ يكون في الاتصال مع الجسد وفهم ما يقوله لي. تُدخِل النتيجة الثالِثَة علاقة التواضع بهذا المبحث. فنحن لا نستطيع أن نحوِّل أنفسَنا بمجرد مجهود الإرادة. وسيكون الأمر نفسه بأن نحاوِل الخروج من الأرض من خلال شدِّنا لسِير حذائنا. سيحصل التغيُّر عندما نكون مهيئين لرغبات كهذه، وقادِرين على التغيير. فليس بالإمكان أن يكون الأمر مفتعَلاً. يبدأ سِيَاقُ التغيير من خلال قبول الذات، ومن خلال الإدراك الذاتي، وبالطبع مع الرغبة بالتغيُّر. ومع ذلك فالخوف من التغيير هو أمر عجيب. كمثل خوفي من الموت جرَّاء سكتة قلبية. علينا أن نتعلَّم أن نكون صبورين، ونحقِّق التسامح، فهذه كلها مظاهر جسمانية. يأخذ الجسد في تطوير التسامح بشكل تدريجي لكي يعيش حياةً أكثر امتلاءً بالطاقَة، ومع مشاعِر وأحاسيس أكثر اقتدارًا، ومع قدرة أعظَم وأكثَر امتلاءً بالتعبير الذاتي. جوهر العلاج تشتمِل تجربتي الشخصية في اكتشاف الذات منذ الفترة التي بدأتُ فيها بأول جلسة علاجية مع رايش وحتى الآن، مدَّةً تراوِح الثلاثين عامًا. عند رؤية التجارب الموصوفَة في الفصل السابِق، بوسعي القول أنني احتجتُ لثلاثين عامًا كي أصِلَ إلى قلبي. ومع ذلك، فهذا ليس كل الحقيقة لأنني بلغتُ قلبي مرارًا على مدار هذه السنين. وخصوصًا أنني وقعتُ في الحب بعمق، وفي الحقيقة ما زلتُ واقعًا في الحب حتى الآن. عايشتُ تجربة فرح الحب سابِقًا، إلا أنه كان هناك اختلاف في نهاية الثلاثين عامًا. ففي الماضي كان بلوغ قلبي يحصَل من خلال حبي لأحد أو من خلال حبِّي لشيء ما يقَع خارج ذاتي: شخص، أغنية، قصَّة، السيمفونية التاسِعَة لبيتهوفن، وهكذا دوَاليك. كان قلبي بنفتِح، ولكنه كان ينغلِق ثانيةً عقِبَ ذلك، خصوصًا أنني كنتُ أشعُرُ بالخوْف واعتقَدتُ أنه توجَّبَ عليّ حمايَتَه. الآن قد زالَ هذا الخوف، ويظلُّ قلبي منفتِحًا بشكل نسبي. تعلَّمتُ أيضًا الكثير حول الأشخاص خلال الثلاثين عامًا إذ مارستُ العِلاج الحيوي الطاقي، وفوق ذلك كله كيفية الاشتغال عليهم. بنحوٍ ما، كانت صراعاتُهم الشخصية تشبه تلك التي لديَّ، وكانت مساعدتُهم أيضًا مساعدةً لنفسي أنا أيضًا. كنا في بحثٍ عن الغاية نفسها على الرغم أن قلَّةً منا كان لديها الوعي بوجود هذه الغاية. كنا نتكلَّم عن مخاوفِنا، ومشاكلِنا، وانحصاراتِنا الجنسية، ولكننا لم نكن نقوم بأيِّ تنويه حول خوفنا من انفتاح قلوبنا وإبقائها على هذا النحو. كما كانت منظورياتي الرايشية توجِّهُني نحوَ بلوغ القدرة الانتعاظية – شيء شرعي دون شك – ولكن، لم يَجرِ التعبير عن العلاقات بين قلب منفتِح، وإمكانية الحب بعمق وبين القدرة الانتعاظية. كانت هذه الارتباطات مع ذلك معروفةً بالنسبة لي مُسْبَقًا لفترةٍ ما. فالأطروحَة الجوهرية لكتاب Love and Orgasm (الحب وهزَّة الجماع) الذي نُشِرَ في عام 1965 حيث إن الحب فيه شرط sine qua non أي "شرط لا غِنَى عنه" من أجل استجابة انتعاظية كامِلَة. وبالتالي كان الحب والجنس متساويَيْن على قدر ما يُفهَم الجنس على أنه تجلٍّ للحب، على رغم تطرُّق هذا الكتاب بشكل مخصَّص للمشاكل الجنسية، ولامَسَ بطريقة عرضية فقط مخاوِفَ الأشخاص وعدمَ استطاعتِهِم في جعل قلوبِهِم تنفتِح للحب. ليس لديَّ شكوك من أن خوفي نفسَه كان السبب في عَدَم معالجتي هذا الموضوع بشكلٍ أكثر اتساعًا. فقط بعد أن تمَّ حلُّ مشكلة خوفي نفسه استطعتُ الوصول إلى لبِّ المسألَة العِلاجية. الجوهر هو القلب. وفي اللاتينية cor تعني Coração أي "قلب". والمصطَلَح coronaries أي "شرايين القلب" تعكس هذا المعنى. علينا القبول بأن القلب هو ربما العضو الأكثر حساسيةً في الجَسَد. فوجودنا متعلِّقٌ بنشاطه الثابِت والإيقاعي. وإذ يعاني هذا الإيقاع تغيُّرًا ولو لحظيًا، فعلى سبيل المثال، إن وقفةً قلبيةً خاطِفَة أو تسرُّعًا في القلب، يجعلنا نشعر بقلق في مركز وجودنا. فشخص قد مرَّ سابِقًا بتجربة قَلَقٍ مثل هذا في بداية حياته، لسوف يطوِّر عددًا كبيرًا من الدفاعات لكي يحمي قلبَه من مخاطِر خلَلٍ آخَر في نشاطِه. وهو لن يسمَحَ بأن يتمَّ بلوغ القلب بسهولة. ولن يستجيب للعالَم على قاعِدةٍ يشكِّلُها قلبه. وسوف تصير هذه الدفاعات مهيَّأةً على مدار الحياة حتى تشكِّلَ أخيرًا عائقًا مقتدِرًا ضد أية محاوَلَةٍ في رؤيتِهِ وقد لامَسَه أيُّ شيء. وفي علاج مأخوذ بالمعنى الجيد للكلمة، تجري دراسة هذه الدفاعات وتحليلها في علاقاتِها مع التجارب الفردية في الحياة، والعَمَل عليها بحذَر في كل أطيافِها حتى يستطيع الشخص أخيرًا الوصولَ إلى قلبه. لذلك يجب فهم هذه الدفاعات كسياقٍ للتطوُّر. ويمكن شرح هذا التفصيل جيدًا من خلال رسم بياني يوضِّح تموضع الطبقَات الدفاعية من خلال دوائر متَّحِدَة المركز:
يمكننا تلخيص هذه الطبقات بالتوالي، بدءًا من تلك المتموضِعَة الأبعد عن المركز أي الخارجية: وهي طبقة الأنا، وتحتوي على الدفاعات النفسية، وتشكِّل الطبقة الأكثر ظهورًا من الشخصية. ودفاعات الأنا هي من نوع: أ. رفض ب. ريبة ت. الشعور بالذنب ث. إسقاط ج. عقلنة وفكرنة الطبقة العضلية حيث نعثر على التوترات العضلية المزمِنَة المقاوِمَة والمسوِّغَة لدفاعات الأنا، وتحمي في الوقت نفسه الشخص من الطبقة التحتية للمشاعِر والأحاسيس المكبوتة التي لا يجازِف المرء في التعبير عنها. تتضمَّن الطبقة الانفعالية للمشاعِر الانفعالات المكبوتة كانفعالات الغضَب والرعب أو الذعر واليأس والحزن والألم. المركَز أو القَلب من حيث تنبُع مشاعِر الحب وأن يكون المرء محبوبًا. لا يمكن للمقارَبَة العِلاجية أن تُحِدَّ نفسَها فقط في الطبقة الأولى مع أنها هامَّة. وبالرغم أنه بوسعِنا مساعدة المرء في جعلِه يعي ميولَه للرفض، والإسقاط، والشعور بالذنب، والعقلنة. فمن الصعوبة بمكان أن يؤثِّر هذا الوعي على المستوى الفكري في التوتُّرَات العضلية أو إطلاق المشاعِر المكبوتة. فهذه هي بالضبط نقطة الضعف للمقاربة مجرد شفهية، وذلك لطبيعتها التي تحدُّ نفسَها خصوصًا بالطبقة الأولى. وإذا لم يتمّ التأثير على التوتُّرَات العضلية، فيمكن للإدراك الواعي أن ينتكِس بسرعة كبيرة إلى نوع مختلِف من العقلَنَة مع هيئة ملازِمَة ومعدَّلَة من الرفض والإسقاطات. إن فشَلَ العلاجات الشفهية في إحداث تغيُّرات ذات معنى في الشخصية مسؤول عن اهتمام في كل مرة أعظم بالمقاربات غير الشفهية أي الجسمانية. والميل الشائع لكثير من هذه الأشكال الجديدة للعِلاج هو استدعاء وإطلاق المشاعِر المكبوتة. ويقوم التأكيد عمومًا على التوصُّل إلى جعل المريض ينفجِر صراخًا. وليس نادرًا على نحوٍ كبير أن يشعُرَ الفرد أيضًا بحزنه وغَضَبِه وأن يعبِّرَ عن رغَباتِه الأكثر سريَّةً. إن الصراخ ذو تأثير مقتدر على الشخصية في مصطلحات تنقية النفس. فخلال وقت طويل كان الصراخ هو التقنية–النموذج للمنهَج الحيوي الطاقي. فالصراخ هو مثل انفجار داخل الشخص في شخصيته، والذي يضع للحظة على الأرض كل الصلابَة المتكوِّنَة بسبب التوتُّرَات العضلية المزمنة، والذي يلغي دفاعات الأنا على مستوى الطبقة الأولى. البكاء والنشيج بعمق يحدثان آثارًا مشابِهَة حَسَبَ تخفيفِهِم وتقويضِهِم لصلاَبَة الجسد. إن إطلاق الغضَب هو إيجابي أيضًا عندما يكون تحت السيطرَة وضمن وضعٍ علاجي. وليس هو في هذه الشروط رد فعل مدمِّر، ولكن يمكنه أن يكون متكامِلاً مع أنا الفرد أو بعبارة أخرى، يمكنه أن يصير دلالةً للأنا. بينما الخوف هو الأكثر صعوبة في استدعائه، والأكثر أهمية كي يتمَّ إخراجه. فإذا تمَّ جلب الرعب والذعر إلى النور، وتمَّ العمل عليهما بكثافة، فإن التأثير المطهِّر لإطلاق صراخ الغضب والحزن ستكون ديمومته قصيرة الأمَد. طالما أن المريض لم يستطِع التوصُّل لمواجهَة خوفِه وفهمِ الأسباب وراء ذلك كله، فلسوف يستمر بالصراخ، والبكاء، والغَضَب، وقلَّمَا يتغيَّر في شخصيَّته. وسوف يترتَّب عليه إذَّاك أن يبدِّلَ السياقَ التطهيري بآخَر ذي طبيعة كابِتَة، بدون أن يتمَّ تعديل اتجاهاته بطريقة ذات معنى في اتجاه النمو. وسوف يظل أسيرًا بين القوى الكابِتَة – التي ليس عليه فهمها وأقل من ذلك أن يكون مهيأ لذلك – وبين الرغبة في التوصُّل إلى إطلاق تطهيري لحظي. بالرغم أنه مهم بالنسبة للعلاج السماح للمشاعِر المكبوتة أن تُعبِّرَ عن ذاتها. يعرف القرَّاء المتآلِفون مع نصوص أخرى عن المنهَج الحيوي الطاقي بأن واحدة من سياساتنا الثابتَة هي تعرية ومناقشة مشاعر كهذه، نظرًا إلى أن إطلاقَها يجعل الطاقَة الضرورية لسياق التغيُّر متوفِّرة. يجب استعادة مشاعر كهذه بشكل متكرِّر حتى تصير الطاقة الضرورية للنمو متوفِّرَة. من وجهة نظري، إن العمَل على الطبقة الثالِثَة فقط، فهذا لن يُحدِثَ النتائج المطلوبَة. وواقِعُ أن لا تقوم بتحليل الطبَقَتين الأوليَيْن لن يغيِّرَ المشهَد، لأنها ستظل غيرُ فعَّالة أثناء ديمومة الفعل التطهيري. إلا أنه عندما يكون على الشخص أن يعود مرة أخرى إلى العالَم ويتفاعَل مجددًا كراشد مسؤول، فسوف ينشِّط دفاعاته مرةً ثانية. ليس هناك وسيلة أخرى للفعل، لأن الأسلوب التقهقري أو التطهيري غير ملائم بعيدًا عن الوضع العلاجي. لمن الممكن أن يبدو منطقيًا العمَل على الطبقة الأولى والثالِثَة بما أنهما تتكاملان – فالأولى تتعَامَل مع الدفاعات العقلية والثالِثَة مع الدفاعات الانفعالية. لكن هذا الخليط من الصعوبة بمكان الحصول عليه، نظرًا لأنه فقط من خلال طبقة التوترات العضلية نستطيع التوصُّل إلى صِلَةٍ مباشَرَة بينهما. إذا تمَّ الشروع في العمَل على مستوى الطبقة الثانية، فمن الممكن الدخول للأولى أو للثالِثَة في كل مرة يكون فيها ذلك ضروريًا. وباعتبار الأمر على هذا النحو، فالعمَل على التوتُّرات العضَليّة يمكنه أن يساعِد الشخص على فهم كيف أن مواقِفَه النفسية مشروطةٌ بدرع أو صَلابَة الجسَد. وفي اللحظات المناسِبَة، من الممكن بلوغ واقتحام المشاعر المكبوتة بتحريك العضَلات المنقَبِضَة والتي تقيِّد وتحصر ظهورها. فعلى سبيل المثال، تمنع توترات عضلية في الحنجرة الشخص من الصراخ، وبتطبيق ضغط بالأصابع بعزم على العضلات المثلثية الأمامية التي تمتد على طول العنق، وحينما يُصدِر الشخص صوتًا عاليًا، فغالبًا ما يتحوَّل هذا الصوت إلى صراخ. وهذا يظلُّ بشكل عام حتى بعد أن يوقَف الضغط، بشكل رئيسي عندما توجد حاجة للصراخ. وبعد الصراخ، يجب استقصاء الطبَقَة الأولى لكي يتحدَّد بما يتعلق هذا الصراخ ولماذا كان ثمة حاجة لكبته. وعلى هذا النحو، تصير الطبقات الثلاثة محتواة في التحليل وفي عمل الوضعية الدفاعية. وعند إبقاء البؤرة على المسألة الجسمانية في هذه الحال، حنجرة متوترة ومنقبِضَة، فإن طريقة العَمَل تتغيّر من مجرَّد مناورَة تطهيرية إلى سِيَاق انفتاح موجَّه نحو النمو. ليس ضروريًا أن أُشَدِّدَ على واقِع العمَل على التوتُّرات العضلية بشكل حصري، دون القيام بتحليل الدفاعات النفسية، وبدون استدعاء المشاعِر المكبوتة، وإلا فلن يكون سياقًا عِلاجيًا. إن أعمالاً جسمانية كالتدليك واليوغا لها قيمة إيجابية، لكنها ليسَت علاجية في حد ذاتها بشكل نوعي. إلا أنه من وجهة نظرنا، فمن المهم جدًا أن يَبقى كل شخص على اتصال مع جسمه ويُنقِص من مستوى توتُّرِه، الأمر الذي نحثُّ فيه كل مرضانا على أن يمارسوا التمارين الحيوية الطاقية بشكل فردي أو ضمن مجموعة، وأن يخضعوا أيضًا لتدليكات. نتعهَّد بالنسبة لغايات هذا البحث أنه من الممكن إلغاء كل حالات الشخص الدفاعية. كيف بالإمكان أن يحيا فرد سوي؟ وكيف سوف يكون علينا رسم خطَّه البياني؟ سوف تظل موجودة الطبقات الأربعة مع اختلاف في أنها لن تكون أكثر دفاعية، وإنما تنسيقية فيما بينها وتعبيرية في حد ذاتها. سوف تنساب كل الدوافِع اعتبارًا من القلب، أو بعبارة أخرى سوف يضع الشخص قلبه في كل ما يقوم به. وهذا يعني أنه سوف يحبُّ القيام بكل ما يفعله، سواء كان عملاً أو تسلية أو ممارسة للجنس. فإنه سوف يستجيب هكذا انفعاليًا في كل الحالات، وهذه الاستجابات سوف يكون لها قاعِدة شعورية. فمن الممكن للفرد أن يظهَر غاضِبًا ومذعورًا أو فرِحًا حسَبَ الظرف الذي هو فيه. وسوف تمثِّل هذه المشاعِر استجابات عفوية نظرًا لكونها معفاة من كونِها باستمرارها المسبَّب من خلال انفعالات مكبوتة وصادِرة عن تجارب الطفولة. وبما أن الطبَقَة العَضَليّة سوف تكون حرَّة من التوتُّرات المزمِنَة، فستكون الأفعال والحركات ظريفة وفعَّالَةً. فمن جهة سوف تعكس المشاعِر، ومن جهة أخرى سوف تكون خاضِعَة لرقابة الأنا. وسوف تكون بالتالي بقدر ما هي ملائِمَة فكذلك هي تنسيقية أيضًا. وسوف تكون النوعية الأساسية لشخص على هذا النحو، الحضور الحَسَن، وليس الحضور السيء: وسوف تكون حالة الروح الأساسية هي الحسُّ الجيد بالفكاهة. وسوف يكون شخصًا فرِحًا أو حزينًا وفقًا لما تملي عليه الظروف، لكن مظاهرها المتفاعِلَة كلها سوف يكون لديها طابِعٌ شعوري.
إنني أتكلم على نحوٍ مثالي عندما أصِف أحدًا على هذا النحو. ناهيكم أن أحدًا لم يتوصَّل إلى بلوغ هذه الحالَة، فإننا لسنا مطعَّمين جدًا بأنفسِنا على نحوٍ لا تستطيع فيه قلوبنا أن تشعر بلحظة فرح عندما نكون منفتحين ومتحرِّرين. وعندما يكون القلب منغلِقًا بشكلٍ مطلَق إزاء العالَم، فسيتوقَّف عن الخفَقَان وسيموت الشخص. إنه لمؤسِفٌ أن نلاحِظَ هذا الكمَّ من الجثامين تطوف من حولِنا. القلق إن الدفاعات النفسية والجسمانية التي ناقشناها في الفقرة السابقة، لها وظيفة أساسية تكمن في حماية الشخص من هَجَمَات القلق. فالقلق الأكثر شدَّةً له صِلَةٌ في اضطرابٍ بعَمَل القلب. وذكرتُ آنِفًا أنه قبل أي عدم انتظام في إيقاع القلب بشكل عام له هذا التأثير. إنها لحقيقة بأن أية إعاقة في العملية التنفسية تؤدي أيضًا إلى حدوث القلق. فالشخص المُصَاب بالربو وهو يصارِع لكي يحصل على الهواء يمكننا ملاحظة القلق الهائل الذي ينتابه بسبب الصعوبة في التنفس. وبوسعنا التصريح في مصطَلَحات واسِعَة الطيف بأن أية مجموعة من الظروف تتدخَّل في عملية النشاطات الحيوية لكائن حي سوف تؤدي إلى مجال من القلق. والتنفُّس هو عمليًا من الأهمية بمكان كما الدورة الدموية بالنسبة للكائن الحي. كان فرويد على معرفة بالارتباط بين الصعوبة في التنفس والقَلَق. وفي كتابي الأخير، Depression and the body الكآبَة والجَسَد، أذكُرُ ملاحظةً لإرنِست جونز Ernest Jones، كاتِب سيرَة حياة فرويد الذي أشار إلى إدراك هذا الأخير لهذه العِلاقَة. "ففي رِسالةٍ يشرَح فيها فرويد بأن القَلَق هو نوعية الاستجابَة لعَقَبَات في التنفُّس – وفاعلية كهذه ليس لها أي أساس نفسي – ومن الممكن لها أن تكون ظهورًا لأي تراكمٍ للتوتُّر". وبترجَمَة ذلك للغَة التقنية للتحليل النفسي، فهذا يعني أن تراكُمَ التوتُّر يخلُقُ عَقَبَةً أمام التنفُّس تؤدي بدورها إلى القَلَق. فإنه لسوء الحظ، لا فرويد ولا المحلِّلين النفسانيين التقليديين سلكوا هذا الطريق الذي يمكنه أن يقود إلى فهم بيولوجي للشخصية القَلِقَة. وهذا الارتباط المكتشَف من قِبَل رايش، والذي قام وحده فقط بدراستِه، صار القاعدة لمُقَارَبَة علاجية ساقَت إلى المنهَج الحيوي الطاقي. يتعلَّق بطبيعَة القَلَق ميدانٌ آخَر تم تقديمه من قِبَل رولو مِيْ Rollo May الذي أرجع أصل كلمة "قلق" في البرتغالية ansiedade إلى الجذر الجرماني Angst الذي يعني "انضغاط في المضايِق". يمكن للمضايِق أن تكون على سبيل المثال تلك التي للمخاض الذي ما من أحدٍ إلا ويمرُّ من خلالِه نحوَ وجودٍ مستقل. يمكن لهذا العبور أن يكون مصحوبًا بقلقٍ هائل كونه يمثِّل الانتقَال إلى تنفُّس مستقل من قِبَل الكائن الحي الجديد. إن أية صعوبة يعانيها كائن حي ثديي لكي يرسِّخَ تنفُّسًا مستقلاً يُعَرِّض حياته للخَطَر، الأمر الذي يؤدي إلى حالةٍ فيزيولوجية من القَلَق. ويمكن للمضايِق أن تشير أيضًا إلى الرقبة، فهذا الممرُّ الضيِّق بين الرأس وباقي الجَسَد، وهو ممرٌّ ينتقل الهواء من خلاله إلى الرئتين من جهة، والدم إلى الرأس من جهة أخرى. إن اختناقًا في هذه المنطقة لهو تهديد مباشَر للحيَاة، الأمر الذي ينجم عنه القَلَق. توفَّرَت لي الفرصة أن أشاهِد حادثًا دراميًا لاختناق تلقائي وتمكَّنتُ التحقُّقَ من الحد الأقصى للقَلَق الذي تسبَّبَ به هذا الاختناق. وحدَثَ خلال معاينة طبية أولى لمريضة كانت مستلقية على الكرسي الحمَّال للتنفُّس وهي تحاول باستمرار في جعل تنفُّسِها أكثرَ عمقًا واكتمالاً. جَلَسَت فجأةً، بسرعة وفي حالةٍ من الهَلَع، وهي تقول بصوتٍ مختنِق: "لا أستطيع التنفُّس، لا أستطيع التنفُّس"!!. طَمْأنتُها بأنها سوف تعود إلى حالتِها الطبيعية، وبأقلِّ من دقيقَة انفجرَت في نشيجٍ عميقٍ ومُعَذَّب. وفي اللحظة التي بدأت فيها بالبُكاء عاد تنفسُها ليصبِحَ سهلاً. كان جليًا بالنسبة لي ما كان قد حصَلَ. ودون أن يكون هناك استباقٌ لإطلاق المشاعِر، كانت الفتاة قد استطاعَت إرخاء صدرِها، وانفتحَت حنجرتُها، الأمر الذي أدَّى إلى دافع قوي لكي تبكي دافِعَةً بالطاقَة التي أخذَت حيِّزًا كبيرًا في ذلك المكان من جسدها. كان هذا الدافِع في البُكاء ناجِمًا عن حزن عميق مغلَق عليه في الصدر. وكانَت ردَّةُ فعلِها اللاواعِيَة إزاءه في محاولتِها لخنقِه، الأمر الذي انتهَى إلى شعورِها باختناق تنفسِها. أشرتُ في الفصل الأول كيف أطلقتُ صرخةً تحت تأثير ظروف مشابِهَة في علاجي الشخصي مع رايش. ففي تلك المناسَبَة، لو كنتُ قد حاولتُ حصر صرختي، فأنا متأكِّد بأنني كنتُ سأواجِه اختناقًا، وسأدخل بالتالي في قَلَقٍ عميق بفعل احتباس صرختي. وبعد أن أطلقَت مريضتي بكاءَها الذي دامَ لوقتٍ ما، فقد صار تنفُّسُها أكثرَ عمقًا وانطلاقًا مما كان عليه قبل الحادِث. عايَنتُ مرضى كثيرين يخنقون مشاعِرَهُم، ورأيتُ عندما تنفتِح حنجرتُهم، ويصير تنفُّسُهم أكثرُ عمقًا كيف تنطلِق مشاعِرهم هذه، وتأخذ حيزًا كبيرًا. يأتي هذا الاختناق دائمًا مصحوبًا بالتعريف الذي قدّمَه مِيْ May للقَلَق، مظهِرًا في الوقت نفسه الآليّة التي تخلق فيها توترات الرقبة والحنجرة إعاقات للتنفُّس تنتهي بالقَلَق. مجموعة مشابِهَة من توتُّرات عضلية متموضِعَة في الحجاب الحاجز وحول الخصر يمكنها أن تعيق بشكل فعَّال التنفُّس على قدر ما تُحَدُّ حركةُ الحجاب الحاجز. وهذه الحالة مُوَثَّقَة بشكلٍ موسَّع في دراسات الطب الإشعاعي. الحجاب الحاجز هو العضلة التنفسية الأساسية، وفعله خاضِع بقدر كبير للتوتُّر الانفعالي، ويتفاعَل مع حالات الخوف من خلال تقلُّصات. وعندما تصير هذه التقلُّصات مزمنة فإنها تخلق استعدادًا مُسبقًا للقَلَق. أُعرِّف هذا القَلَق كقَلَق السقوط الذي سوف أتكلم عنه فيما بعد. إن الحجاب الحاجز متوضِّع بالضبط فوق الخصر، أي فوق ممر أو مضيق آخَر. فالخصر يوحِّد بدوره الصدر بالبطن، والبطن بالحوض. تمر الدوافِع من خلال هذا المضيق للمُنتصَف السفلي من الجَسَد. وأية إعاقة في هذه المنطِقَة توقِف سَيَلان الدم والمشاعِر نحوَ الجهاز التناسلي، ونحوَ الساقَيْن مسبِّبًا القَلَق وخوف السقوط، ويصبِح التنفُّس معلَّقًا. السؤال الذي يطرَح نفسَه هو التالي: ما هي الدوافِع المنحصِرَة في مستوى الخصر؟ الإجابَة بالطبع هي الدوافِع الجنسية. يتعلَّم الأطفال السيطرَةَ عليها بانكماش البطن ورفع الحجاب الحاجز. كما كانت النساء في العصر الفيكتوري تتوصَّلنَ إلى الهَدَف نفسِه بارتدائهِنَّ مشدَّات تضغط على الخصر وتمنع حركات الحجاب الحاجز. وهكذا، فالقلق الجنسي متصل على نحوٍ باطني بإعاقةٍ للتنفُّس، أو كما هو الأمر في كلمات رولو مِيْ Rollo May بـ"شد كبير في المضايِق". تناوَلَ الأمر افتراضًا أساسيًا من قِبَل رايش، فالقلق الجنسي موجود في كل المشاكِل العصابية. وجَدْنا في المنهَج الحيوي الوظيفي الطاقي وقائع تُثبِت صحَّةَ هذا الافتراض في عددٍ لا يُحصَى من الحالات. وفي عصر من المُغَالَطَة الجنسية، ليسوا قليلين المرضى الذين يسعَوْنَ وهم يشكَوْن من القَلَق الجنسي. إلا أن الاضطرابات الجنسية هي شكوى شائعة بشكل عام. كان يظهَرُ تحتَ مشاكِل كهذه قلَقٌ عميق لا يَصِل إلى مستوى الوعي، ما لم يجرِ الإقلالَ من التوتُّر الذي يحيط بالخصر. وبالشكل نفسِه ليس لدى معظَم المرضَى وعيًا لقَلقِهم التنفُّسي. وما وصفتُه سابقًا، فليس للمريض إدراكًا بأن قلقَه يتعلق بالتنفس. فالمريضة كانت تتوصَّل إلى إبقاء القَلَق تحت مستوى الوعي على قدر ما لم تكن حنجرتها تنفتِح، ولم تكن تتنفَّس بشكلٍ كامِل. وظهَرَ القلَق فقط في اللحظة التي حاوَلَت القِيَامَ فيها بالتنفُّس كامِلاً وبعمق. فالأشخاص بشكل عام يدافِعون عن أنفسِهم بالشكل نفسِه من القَلَق الجنسي بقدر ما لا يسمحون للمشاعِر الجنسية بأن تغمُرَ الحوْض. وبواسطة انقِباضٍ على مستوى الخصر، تقتصِر مشاعِر الحب على القلب ممنوعةً من الانطلاق لإقامة اتصال مباشَر مع استثارة الأعضاء التناسلية. وتقتصِر المشاعِر ذات الطبيعة الجنسية على الأعضاء التناسلية، وبالتالي يعاني الانفكاك سياقًا من العقلنَة على مستوى الأنا، مشكِّلاً مفهومًا بأنه على الجنس أن يكون مطلَّقًا من الحب. ما يحصَلُ أحيانًا هو صدور مشاعِر جنسية قوية ناجمة عن القلب، وتتطور على نحوٍ عفوي على قدر ما أن الدفاعات لا تزال ظاهريًا غير فعَّالَة سواءً في الوضع العلاجي أو خارجه. كنتُ قد أشرتُ في الفصل الأول إلى أنه يمكِنُ لشخصٍ ما في ظروف خارقة أن يطأ "عالمًا آخَر" أو "يخرج من ذاته". ويقود هذا التدَفُّق في المشاعِر والطاقة إلى تجربة التعالي transcendental. فالدِّفاعات تهدأ مؤقتًا معطيةً مجالاً للمشاعِر الجنسية في أن تنساب حُرَّةً، الأمر الذي ينجم عنه تفريغ انتعاظي كامِل مصحوب بلذَّةٍ قوية وإشباعٍ هائل. ولكن، في معظَمِ الحالات يحاوِلُ المرء أكثر خنق مشاعِر كهذه أكثَر لأنه غير قادر للاستسلام في الدفاعات. وعند حدوث هذه الظاهِرَة، تحصَل حالةٌ شديدة جدًا من القَلَق يسمّيها رايش بالقَلَق الانتعاظي. بدأتُ شارِحًا هذه الفقَرَة شارِحًا بأن الدفاعات تهدف إلى حِمَايَة الشخص من القَلَق. وناقشتُ أيضًا طبيعة هذا القَلَق وجعلتُه متَّصِلاً بالإدراك الحسِّي لنوعٍ ما من اضطراب في العمَل الطبيعي للجسم، وإلى إعاقة تنفُّسية هي بشكل نموذجي تضييق في مجرى العبور أو عند الخوف من السقوط. رأينا أخيرًا أنه في غياب الدفاعات أو في اللحظة التي تستكين فيها لا يكون هناك ثمة قلق وإنما سرور فقط. وبالتالي، علينا أن نستنتِج أنه في حالَة حضور الدفاعات فالشخص يصبح مستعدًا مُسْبَقًا للقَلَق، أو بعبارة أخرى، تخلق الشروط المناسِبَة لانبعاث القلق. كيف تعمل الدفاعات وفقًا لهاتين الطريقتين المتناقِضَتيْن ظاهريًا مُعطِيَةً للقَلَق سانحةً للظهور، وفي الوقت نفسِه مقاوِمةً له؟ لكي نجيب على هذه المعضِلَة علينا القبول بأنه لا تتطور الوضعية أو الموقف الدفاعي في هدف حماية الفرد من هجمات القلق (الأمر الذي يصبِح لاحِقًا هو نشاطه المهيْمِن)، ولكنها تهدُف قبل ذلك لحماية الفرد من الزعَل، سواءً في هيئة تهجّم أو رفض. إذا ما كان الشخص متعرِّضًا لهجَمَات متكرِّرَة فهو سوف يُنصِب دفاعاته لكي يحمي نفسَه من محاولات مستقبلية. تقوم بالأمر نفسه البلدان من خلال جهازها العسكري. ومع مرور الوقت سواءً على المستوى الفردي أو الوطني تصير المحافَظَة على الدفاعات جزءًا لا يتجزأ من طريقة الحياة الطبيعية. ومع ذلك، فالإبقاء على الدفاعات هو إبقاء شعلة الخوف متَّقِدَة من خلال هَجَمَات جديدة، الأمر الذي يصبِح مسوِّغًا لتحصين لاحِقٍ للوضعية الدفاعية. وهذه أيضًا لديها الأثر لتأسُرَ في شبكاتها ذلك الذي يدافِع عن نفسه، وبالتالي يصبِح سياقًا ذا نتيجة نهائية تكمن في انحباس الفرد وراء قضبان دفاعاته المنظومَة. وفي حال لم يقُمِ الشخص بمجهودٍ ما للخروج من هذه الدفاعات فلسوف يستطيع البقاء نسبيًا حرًا من القلق، ولكن من وراء قضبان هذه الدفاعات. يظهَر الخطَر – بكون القلَق في المستوى الأول – فقط عندما يحاوِل الشخص فتحَ طريق، تركَ أو تدمير دفاعاتِه. من الممكن ألاَّ يكونَ الخطَرُ حقيقيًا، ويعرِف الشخص هذا الأمر بشكلٍ واعٍ، ولكنه يشعر به كما لو أنه كذلك. كل مريض ينفتِح أو يترك الدفاعات تسقط أرضًا، يعلِّق: "أشعرني مُعرَّضين للأذى". ومن الواضِح أنه قابِلٌ للعَطَب – كلنا كذلك – وهذه هي طبيعة الحيَاة، إلا أننا لا نشعر بأنفسِنا معرَّضَةً للأذَى، ولسنا أيضًا مُعرَّضين للهجوم. كلنا فانون، لكننا نشعر بأننا على وشَك الموت، إلا إذا أدركنا نقصانَ شيء أساسي لعمَلِ جسدنا. يمكن للقَلَق أن يزداد في اللحظة التي نختبِر فيها قابليَّتَنا للعَطَب. إذا دَخَلَ شخص في حالة هَلَع فإنه ينسحِب، ويحاوِل استعادة دفاعاته مارًّا بالتالي من خلال قلق خطير. نرى هذا السياق على نحوٍ حيوي طاقيٍّ. وتمر أقنية الاتصال الأساسية المنطلِقَة من القلب من خلال مضيق الرقبة والخصر، وذلك في مسيرتها إلى الأماكن المحيطية للاتصال مع العالَم. وإذا كانت هذه الأقنيَة منفتِحَةً فلسوف يصبِحُ الشخصُ منفتِحًا، وستكون انفعالاتُه عائدةً للعالَم. والدفاعات التي شيَّدَها تحيط بالضبط بهذه المعابر الضيِّقَة، وبدون أن يقطَعَ التواصل والاتصال بشكل كامل لأن هذا سوف يعني الموت. تعطي الدفاعات مجالاً لتبادل محدود، ولمدخل مقيِّد. ولطالما أن الشخص يستطيع احتواء نفسِه داخل هذه الحدود فلسوف يكون حرًا من القلق. ولكنه يكون منزوِيًا، ومُكرَهًا كطريقة حياة، لأنه ليس ثمة من يريد الانفتاحَ أكثر على الحياة. إننا نتعامَل مع مستويات أو شدَّةِ مشاعِر. وعلى قدر ما أن كمية المشاعِر التي تنساب من الجسد نحوَ العالَم تُبقي نفسَها داخِلَ الحدود المنظومَة من خلال التوتُّرات العضلية، فليس هناك ثمة قلق. ويتطور هذا الأخير عندما تسعى المشاعِر الأكثر شدةً لتجاوز هذا الحاجِز، فتُكبَت في رعب. ويجعل هذا الانفعال الفرد ينكمِش إلى حد ما لدرجة أن كل حياة الكائن الحي تصبِح مهدَّدَةً بشكل جدي. ضمنَ هذا المنظور، ففي بداية التجربة تسبِّبُ أية مناورة علاجية فعَّالَة الشعور بالقَلَق، التي تفسِّر واقِعَ نموِّ القَلَق، ففي العِلاج يُعتبَر ذلك كمؤشِّرٍ إيجابي في مرَّاتٍ كثيرة، لأنه يُجبِر الشخص على النظر إلى دفاعاته بطريقة أكثر موضوعية، مفسِحًا المجالَ لاستحضار مخاوفِه سواءً على المستوى النفسي أو على المستوى العضلي. والتقدُّم العِلاجي متَّسِمٌ بمشاعِر أكثر وقلق أكبر، وفي النهاية سرورٌ أعظَم. يمكِنُ لهذه الأفكار العائدَة إلى طبيعَة القلق أن تُصَوَّر من خلال الشكل التالي، الذي يُظهِر تدفُّقَ المشاعِر التي تخرج من القلب وتمرُّ من خلال المضايِق إلى الأعضاء المحيطية بالجسد.
يمكن ههنا الرؤية بأن تدفُّقَ المشاعِر جنبًا إلى جنبِ تدفُّق الدم الذي هو المسؤول عن تزويد الجسم بالأوكسجين الذي لا غِنَى عنه للحيَاة، وهو مسؤول أيضًا عن نقل الخلاصات الغذائية إلى كل خلايا الجسد. الأعضاء الأساسية للرأس هي الدماغ والمستقبِلات الحسِّية، والأنف والفم. باستثناء الدماغ، فالوظائف الأكثَر أهمية لهذه الأجزاء من الجسد تعود للاستقبال. وتُوضِّحُ الذراعان هذه السِّمَة. فالأوكسجين والطعام والتحريض الحسي يدخلون من خلال الرأس. يعود أسفل البطن والحوض إلى التسليم، أي إخراج الفضلات من البدن، والتفريغ الجنسي. وتُعتبَر في منظور المنهَج الحيوي الوظيفي الطاقي الساقان كعضوي تفريغ على قدر ما يحرِّكان الكائن الحي أو يمدَّانَه بقاعِدَة دعم. إن قطبية العمل الجسماني هي جوهر المفهوم بأن الحدَّ الرأسي تجري في محيطه عمليات تقود إلى زيادة الحمولة أو الاستثارة الطاقية على قدر ما أن الحد السفلي يعود إلى عمليات تدعم تفريغ الطاقَة. يتعلَّق الحفاظ على الحياة بقدر ما هو على تيار طاقي داخلي مستمر (في شكل غذاء، وضرورة ملحَّة، وتحريض)، كذلك يتعلق على تفريغ للطاقة معادلٍ للأول. أؤكِّدُ الآن بأن الصحة هي حالة توازن نسبية متَّسِمَة بجرعة زائدة من الطاقة التي تُستَهلَك في النمو وفي الوظائف التناسلية. وتناول الطعام غير الكافي يؤدي إلى تفريغ الاحتياطات الطاقية ناهيكم عن تقاعس في العمليات الحيوية. ومن جهة أخرى، عندما يكون مستوى التفريغ غير ملائم، فالنتيجة التي يتم الحصول عليها على الفور هي حالةٌ من القلَق. وهذا ما يمكنُه أن يحدُثَ عرضيًا أثناء العلاج عند القِيَام بتنفُّسٍ أكثر عمقًا – فالطاقة أو استثارة الكائن الحي تنمو إلى درجة كهذه بحيث أنه يتعيَّن على الشخص أن يفرِّغ، ولكن ليس لديه الشروط للقِيَام بذلك بسبب كابتات التعبيرية الذاتية التي تخلق عقبات أمام عملية التفريغ الانفعالي. وعلى هذا النحو يصبِح الشخص متوتِّرَ الأعصاب وقلِقًا، تزول هذه الحالَة على الفور في إطلاق الفائض من الطاقة بشكل فعَّال من خلال البكاء أو من خلال منفََذٍ للغضَب. ولكن عندما يواجِه الشخص عدمَ القدرة على إنجاز هذا التفريغ ينتهي إلى الحدِّ من تنفُّسِه. القلق بالنسبة لمعظم الأشخاص هو حالةٌ عابِرَةٌ ناجِمَة عن وضعٍ ما يستثير الجسد على نحوٍ مفرِط. ولسوء الحظ، فإن مستوى الطاقة لهذه الحالَة من التوازن منخفِض جدًا، ومن ههنا يشتكي معظم الأشخاص من انحطاط أو تَعَب مزمنين. إن رفع مستوى الطاقة يُعَرّض لخطَر انبعاث القلق، وهو أمر لا يُحتمَل بالنسبة للفرد الطبيعي بدون عون شكلٍ ما من العِلاج. وتشتمِل هذه المساعدة على فهم الشخص لقلقه، وعلى تفريغِه للاستثارَة من خلال تعبيره عن مشاعره. وعندما يكون طريق التعبيرية الذاتية مفتوحًا، يمكن للمستوى الطاقي البقاء في أعلى درجة من الاستثارة، وبالتالي يحصَل على جسد ذي اهتزاز حيوي ومسؤول عن الحياة بشكل كامل. من الضروري التأكيد ههنا على مظهر آخَر. ليسَت الحياةُ عمليةً انفعاليةً. فعلى الكائن الحي أن ينفتِح ويخرج في سعيٍ عما يحتاج لكي يتمكَّن من الحصول عليه. وبقدر ما يصحُّ هذا الأمرُ بالنسبة للحاجة إلى الأوكسجين كذلك بالنسبة للحصول على الغذاء. فالطفل يستعمِل كلا النشاطين (التنفُّس وتناول الطعام) بالآلية الفيزيولوجية نفسها: الامتصاص. فالطفل يمتص الهواء إلى الرئتين على النحو نفسه الذي يمتص فيه الحليب إلى الفم ومن ثمَّ إلى الجهاز الهضمي. وبالتالي يصحُّ الأمر على كلا الوظيفتين بآلية واحدة فقط، فأي اضطراب في إحداهما سوف ينعكِس على الأخرى. تصوَّر ما يحصَل للطفل الذي فُطِمَ عن الثدي باكرًا جدًا. لا تقبل أغلبية الأطفال بطيبة خاطِر فقدانَ غَرَض حبها الأول. فهم يبكون ويبحثون عن الثدي سواءً باليدين أو بالفم. إنهم هكذا يعبِّرون عن الحب. وبقدر ما يتعذَّبون في هذه المحاولة، يصبحون قلقين وغريبي الأطوار، ويبكون غضبًا. يثير سلوك الطفل هذا ردَّ فعل عدائي من قِبَل الأم، ويدرك الطفل بسرعة أنه يتوجّب عليه تقييدَ رغباته. ويتجسَّد هذا التقييد من خلال خنق الدافع من الخروج في السعي إلى الثدي وخنق دافع البكاء أيضًا. وتصير بالتالي عضلات الرقبة والحنجرة منقبِضَة لكبت الانفتاح وينحصر الدافع على هذا النحو. وبالتالي، يصير التنفس مهدَّدًا نظرًا لكون الحنجرة منغلِقَة وينحصر أيضًا الدافِع إلى الخروج في سعي للهواء ولامتصاصِه. وُثِّقَت العلاقة الداخلية بين اضطرابات الإرضاع والتنفس من قِبَل مرغريت ريبل Margaret Ribble في كتابها بعنوان The Rights of Infants (حقوق الأطفال). استخدمتُ حالةَ الإرضاع كمثالٍ على الطريقة الفعَّالَة للاكتشاف ولخروج الطفل في سعيٍ لغرضٍ بهدف ابتلاعه. الاكتشاف والذهاب في السعي لغرض هما حركتان ذاتا طبيعة متوسِّعَة من قِبَل الكائن الحي في اتجاه ينبوع للطاقَة أو للشعور باللذة. وهو الفعل نفسه الذي يكمن تحت حركات طفل صغير في سعيِه للاتصال بأمه، ومع لعبة عندما يصير أكبر قليلاً، ومع كائن محبوب في طور الرشد. إن قبلةً ودودة هي فعل بالمحتوى نفسِه. عندما يرى الطفل نفسه مجبَرًا على إعاقة هذه الأفعال، فإنه يشكِّل دفاعاتٍ على المستوى النفسي والعَضَلي. وتقوم هذه الدفاعات بدورها في كبت دوافع كتلك. وتصير هذه الدفاعات مع مرور الزمَن منظومةً في الجَسَد مشكِّلَةً توتُّرات عضليّة مزمنة تُصوَّر في النفس على هيئة أنماط يتَّسِم كل منها بسِماتٍ معينَة. وفي الوقت نفسِه، يحصل كبت ذكرى هذه التجربة، فيتكوَّن على أثَرِ ذلك "أنا مثالية" تضع الشخص فوق رغبته بالاتصال والحميمية والمصِّ والحبِّ. بوسعنا أن نرى من خلال هذا المثال الارتباط الموجود بين مستويات الشخصية المتنوِّعَة. فعلى مستوى الأنا يتخذ الدفاع شكل "أنا مثالية" تقول: "الرجل لا يبكي" وأيضًا في رفض إذ يقول: "لا أريد هذا بأي شكل من الأشكال". هذا النوع من الدفاع مرتبِطٌ بشكلٍ داخلي بالتوترات العضلية للحنجرة والذراعين اللتين تمنعان الانفتاحَ والذهاب في سعيٍ لأمرٍ ما. عندما تكون هذه التوترات شديدة جدًا، يصير من المستحيل على الشخص أن يبكي. نعثر على توترات مشابِهَة في الكتفيْن وهي بدورها أيضًا تجعل الذراعين من الصعوبة بمكان امتدادهما بشكل كامل. وفي المستوى الانفعالي الأكثَر عمقًا نعثر على مشاعِر ملغاةٍ من الحزن واليأس والغضَب والبغضاء إلى جانب دوافع للعضِّ والخوف والرغبات الأكثَر سريةً. فعلى كل هذه الكوكبات أن تُستحضَر قبل أن يتوصَّل قلب الشخص للانفتاح من جديد بشكل كامِل. على الرغم من هذا كله فالشخص ليس ميتًا، ويتوق قلبه للحب، وتتطلَّب مشاعره أن يتم التعبير عنها، ويريد جسده الانطِلاق. ولكن قِيَامَه بأيَّةِ حركة مقرَّرَة أكثر في هذا المعنى، فستخنق دفاعاته هذه الدوافِع وترمي به في حالةٍ من القَلَق. وفي مُعظَم الأحوال، فالقلق الأكثَر حدَّةً الذي يهرب منه الشخص ويُغلِق عليه في داخلِه، ومع أن هذا يكلِّفُه التخفيض من مستوى طاقته، والحفاظ على دفاعاته في مستوى أعلى، واتخاذ حياةٍ مشلولَة عمليًا. فأن تحيا بخوف من أن تكون حيًا بشكل كامل هي الحالة الطبيعية للسواد الأعظَم من الناس. ترجمة: نبيل سلامة *** *** *** |
|
|