|
سلام على مصر
شهد وطن العرب توسعًا أفقيًا في عدد المدارس والجامعات، وعدد حملة الألقاب الجامعية، خلال العقود الأربعة الماضية. كما شهد تزايدًا هائلاً في عدد المساجد والمصلين والحجاج والمعتمرين وحفظة القرآن الكريم. لكن هذا التوسع في هاتين الساحتين الهامتين المركزيتين لم يلجم العنف وتمجيده لدرجة أصبح معظم القتلى في العالم هم في الوطن العرب وبلاد المسلمين. وإن معظم الرصاص والقذائف التي تطلق إنما يطلقها مسلمون ضد مسلمين أو غيرهم من المواطنين، أو يطلقها محتلون ضد ضحاياهم. وفي جميع الحالات فإن الدماء التي تسفك هي دماؤنا والقتلى الذين تزهق أرواحهم هم أهلنا. والعنف يترك لنا كثيرًا من الأرامل والثكالى والأيتام والمعاقين، وكذلك الباحثين عن طريق للهروب من الوطن نحو الأمان والاستقرار. وما التفجير الذي جرى في الاسكندرية في الدقائق الأولى من العام الجديد، واستهداف كنائس في العراق، وفي نيجيريا، إلا أعراض لأزمة مستحكمة ستؤدي إلى وهن وهوان إضافيين للأمة كلها، واستغوال وصلف إضافيين للاحتلال، وكل القوى التي ليست لها غاية سوى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ وتفتيت المفتت، وأدوات تحقيق ذلك هي الطائفية والمذهبية والقبلية والعنف. اقتراف جرائم قتل ضد مواطنين مسيحيين بدعوى تقوى الله والغيرة على الإسلام إنما هي دعوة مفضوحة وعارية عن الدين والخلق وكل قيم الخير، وكذلك ردة عن ما أراده الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد". (الحج 22-17). والأعمال الإجرامية انحراف خطير عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي استقبل نصارى نجران في المسجد في المدينة المنورة، والأعمال الإجرامية كذلك مزايدة على سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه الذي أعطى (العهدة العمرية) يوم فتح بيت المقدس، والتي نصت على: هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها ولا من صلبانهم، ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود... وأطلق الفاروق مقولته العظيمة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا" إنصافًا لحق مواطن قبطي في مصر أساء معاملته ابن عمر بن العاص الذي كان واليًا على مصر. هذا النهج القائم على احترام عقائد جميع المواطنين واخضاع الجميع لسيادة القانون، لم يكن نهج عمر بن الخطاب فحسب، وإنما هو التزام لجميع الصحابة وأجيال المسلمين، ومنهم الإمام علي بن أبي طالب رضى الله عنه الذي جاء في وصيته إلى الاشتر النخعي والي مصر: ولا تكن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق. واستمر قادة المسلمين على هذا النهج بدرجات مختلفة، وهذا مؤسس الدولة الأموية الذي أعاد بناء كنيسة مدينة الرها، على نفقة بيت مال المسلمين، بعد أن دمرها الزلزال. وتاريخ أمتنا زاخر في العيش المشترك، وليس التعايش، ليس فقط بين المواطنين المسلمين والمواطنين المسيحين، وإنما بين جميع المكونات العرقية والدينية والمذهبية والقبلية لكل المواطنين. وكان من المألوف أن يكون في وزارات الدولة الفاطمية كثير من الوزراء المسيحين، والوزراء اليهود، حيث إن الله سبحانه وتعالى رب العالمين وخالق الجميع يفصل بين الجميع يوم القيامة، فإن من سوء الخلق أن يفرض البشر أنفسهم أوصياء على بشر آخرين في قضية هي من خصوصية الخالق سبحانه وتعالى. وكان من المألوف أن يزور كثير من الخلفاء في بغداد والقاهرة وقرطبة، الأديرة، ويشاركوا الأساقفة في مجالسهم، وفي مواكب الاستسقاء حينما ينحبس المطر. ويزخر تاريخ أمتنا بكثير من المطارنة الذين أرسلهم الخلفاء في مهمات سياسية دبلوماسية، بل كان بعضهم سفراء. وفي العصر الحديث كانت ثقافة السماحة تلمس ثمارها في طول الوطن وعرضه وفي كل تفاصيل الحياة. وأشير إلى صورة واحدة من ملايين الصور الجميلة التي عبرت عن ما في الإسلام من سعة ورحابة صدر واحترام لكل المؤمنين، والحرص على التعاون والتكامل معهم بما يحقق مصلحة كل المواطنين، بعيدًا عن رذائل الطائفية والتعصب والتحزب: أورد الدكتور رفعت السعيد في كتابه الإرهاب إسلام أم تأسلم، منشورات سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1995: كانت مصر في عام 1920 تخوض معركة استقلالها الوطني، وكانت أحوج ما تكون إلى توحيد كل جهد فيها، وإلى حشد كل طاقة، كي تقف موحدة في مواجهة الاحتلال القوي والغاشم معًا. ودعا سعد زغلول الشعب المصري كله ليقيم الصلوات في المساجد والكنائس كي يكلل الله بالنجاح مساعي الوفد المسافر إلى لندن للتفاوض. وكان سعد يحتاج إلى أن يذهب محصنًا بتأييد شعب مصر كله. وتقرر أن يكون التأييد عبر (دعاء) يتردد في آن واحد في مساجد مصر وكنائسها، يتجه به كل المصريين إلى الله كي ينصر سعد والوفد. وفي 4 يونيو 1920، احتشد المسلمون والأقباط في المساجد والكنائس ليرددوا معًا وفي صوت واحد دعاءً كتبه شاعر مصر العظيم أحمد شوقي: "اللهم يا قاهر القياصر، ومذل الجبابر، وناصر من لا ناصر له، هذه كنانتك فزع إليك بنوها وهرع إليك ساكنوها، هلالاً وصليبًا، بعيدًا وقريبًا، شابًا وشيبًا، نجيبة ونجيبًا. مستبقين كنائسك المكرمة، التي رفعتها لقدسك أعتابًا، ميممين مساجدك المعظمة التي شرعتها لكرمك أبوابًا، نسألك فيها بعيسى روح الحق، ومحمد نبي الصدق، وموسى الهارب من الرق. كما نسألك بالشهر الأبر والصائمية، وليلة الأغر والقائمية، وبهذه الصلاة العامة من أقباط الوادي ومسلميه، اللهم إن الملأ منا ومنهم قد تداعوا إلى الخطة الفاضلة، والكلمة الفاصلة في قضيتنا العادلة فأتنا اللهم حقوقنا كاملة، واجعل وفدنا في دارهم هو وفدك، وجندنا الأعزل إلا من الحق جندك. يفتك العنف بنا جميعًا فتكًا شديدًا تحت كثير من الدعاوى والشعارات، لكن العنف له طبيعة واحدة إذا استهدفت كنيسة أو مسجدًا أو مؤسسة أو مقرًا حكوميًا. تعرضت عشرات المساجد والحسينيات في العراق وفي باكستان لتفجيرات أودت بحياة آلاف المواطنين، لكن استهداف الكنائس والمواطنين المسيحيين ليس له غرض سوى تسريع عملية تهجير المواطنين المسيحيين من وطنهم وهو الوطن الذي أنزل الله سبحانه وتعالى فيه سيدنا المسيح، وكثيرًا من الأنبياء عليهم السلام. وذلك ضمن مخطط قوى الموت التي تهدف إلى تفريغ المشرق من أهله ومواطنيه المسيحيين. كما يتجاهل الذين يتباكون على المسيحيين العرب ويدعون الحرص على حقوقهم، يتجاهلون ما اقترفه الاحتلال بكثير من الكنائس في بيسان، وطبريا، وإقرث، وبرعم، وكذلك المجزرة التي نفذها في مسجد الحاج خيل دهمش في مدينة اللد في العام 1948. وكذلك مئات المساجد التي هدمها الاحتلال واستخدم كثيرًا منها زرائب وحظائر ومطاعم ومقاه ومواخير. وبناءً عليه فإن العنف يشكل خطرًا علينا جميعًا، ولا يمكننا أن نصنف العنف إلى عنف شرعي وغير شرعي. كما أن استهداف الكنائس يفتح الطريق أمام من يتباكون على المسيحيين العرب، رغم أنهم ينتهكون يوميًا رسالة سيدنا المسيح عليه السلام بكثير من القسوة والعنف. وبدأت الطائفية والمذهبية تتسلل إلى مجتمعاتنا لتفسدها وتلوثها وتستبدل نعمة السماحة والمحبة بنقمة التعصب والكراهية. الطائفية نقيض الدين في جوهرها وأدواتها وغاياتها تمامًا كما أن الوضاعة نقيض التواضع. لذلك أراد الاستعمار أن يفرض الطائفية على وطننا، وهذا واضح في وعد بلفور الذي أصدره وزير خارجية بريطانيا عام 1917، الذي ضم 67 كلمة، لم يذكر فيها العرب ولا المسلمين ولا المسيحيين، علمًا أنه ذكر الحقوق السياسية لليهود أكثر من مرة، وطبعًا لسنا ضد اليهود كما لم نكن في يوم من الأيام، وإنما ضد الصهيونية التي حرصت أن تعمل في دفيئة الطائفية والعنف. ورغم الموقف القوي للمصريين الذين تدافعوا إلى المستشفيات للتبرع بالدم لجرحى التفجير الإجرامي بدون تحديد المستفيد من التبرع، وذلك لأن الدماء جعلها الله فصائل محددة لكل البشر، الذين كرمهم الخالق سبحانه وتعالى لمجرد أنهم بشر. قال تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً". (الإسراء، 17 : 70). رغم كل الأصوات الواعية، في مصر وفي كل وطن العرب، التي عبرت عن تمسكها بالوحدة الوطنية وبسماحة الإسلام العظيم. هل نكتفي بهذه المواقف الواعية الجميلة؟ وهل نكتفي بالمعالجات الأمنية؟ أم أن اجتثاث ظاهرة العنف في مصر، وكل وطن العرب، تقتضي معالجة أكثر عمقًا وجدية؟ وهل نستطيع اجتثاث العنف بالحزن والغضب فحسب؟ أم أننا بحاجة إلى اجراءات لتخليص الأجيال من ملوثات تقوم بدور الدفيئة للجهل والللاعقلانية، وبالتالي العنف؟ وكما قال الشاعر: "القاه في اليم مكتوفًا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء". وقال الحكيم: "متى يستقيم الظل والعود أعوج". لتحقيق علاج غير تسكيني وغير مرحلي لظاهرة الطائفية والعنف فإننا بحاجة إلى اجراءات، اذكر منها: - كبح جماح الفساد والتهميش كرافدين أساسيين من روافد العنف وإحساس المواطنين بالاغتراب. - إدخال مواد غير طائفية إلى المناهج المدرسية. - استحداث مساقات جامعية عن دور المسيحين العرب في الحضارة العربية الإسلامية، وفي اللغة والأدب والمقاومة، وكل ميادين الحياة. - تنقية وسائل الإعلام المختلفة من استخدام مصطلحات غير سليمة مثل (الطوائف المسيحية) و(الطوائف الغربية أو الشرقية) وذلك لأن المواطنين المسيحيين في وطن العرب ليسوا طائفة وإنما هم مكون أصيل وجميل من مكونات الوطن والأمة والماضي والحاضر والمستقبل، وإن دورهم ووزنهم ومكانتهم، وغيرهم من المواطنين، لا تقاس بالأرقام والنسب، وبتعبير الأقلية والأكثرية، وإنما تقاس بالدور الفاعل في الجسم الواحد. فأهمية العين واللسان والقلب والغدد مثلاً لا تقاس بحجمها ولا بوزنها. - ضرورة تبديد الوهم لدى المشتغلين بالسياسة بأن الخطاب الديني لا يتحقق بعدد من كبار الموظفين في المراكز الدينية المرموقة، وذلك لأن الأئمة والخطباء في المساجد هم أكثر أهمية من غيرهم لأنهم على تواصل واحتكاك يومي مع المواطنين. وبالتالي فإن عدم إنصاف هذه الشريحة التي تتمتع بثروة أدبية ومعنوية، وتعاني في نفس الوقت من انخفاض في رواتبها من شأنه إبقاء ثغرة وخلل في هذه الساحة الهامة جدًا في توجيه الرأي العام، ويحسن أن يتزامن الإنصاف الوظيفي لهذه الشريحة بدورات دورية توسع آفاقهم وتجعلهم أكثر قدرة على صناعة الرأي العام وتوجيهه بصورة تنسجم مع جوهر الدين وغاية الشرع ومصلحة البلاد والعباد. إن مسؤولية التصدي القوي والفعال لظاهرة العنف هي مسؤولية كل مواطن. ومجابهة العنف لا تكون بالعنف ولا بالقمع والتنكيل، وإنما بالحريات والعدالة والتواصل اليومي. ظاهرة العنف ليست مشكلة أمنية في أصلها وجوهرها بقدر ما هي مشكلة تربوية فكرية ثقافية. لذلك فإن تهميش المثقفين وملاحقة أصحاب الأقلام، وإضعاف الحركة الثقافية والتذمر من نقدها، حيث لا ثقافة بلا نقد. إن تهميش المثقفين يعني عمليًا إبراز الفهلويين والأميين والأميين المقنعين. وبالتالي إذا أردنا مقاومة جدية للطائفية والعنف فإننا لن ننجزها بالسجون والرصاص، وإنما بالعلم وبالوعي، بإدراك قوة الناس لقوتهم الكامنة في أنفسهم، بوضع حد للإذعان، وكذلك للخطاب المتردد المجامل. لا تكون مقاومة الطائفية والعنف بآلاف من رجال الشرطة فحسب، وإنما بملايين المواطنين الواعين الموحدين الذين هم ضحايا للطائفية والعنف. |
|
|