|
أوراقٌ سافرة... من دفتر عربية مسافرة
"1" أحكي لكم عن نعامةٍ، كانت في وقتٍ من مواقيته، ترتع وتلعب مع بنات جنسها، في روضٍ خصيبٍ، أخضرٍ، مديد، كفسحة أحلامها وخيالاتها، بيد أنَّه كان محاطًا بسورٍ عالٍ، يحجب ما وراءه تمامًا، عن معشر النعام. وكان جناحاها من القصرِ والعجزِ، بحيث لم ينفعها مدُّ العنق لترى ما خلف السور، رغم المحاولات الأنثوية الوادعة. فأحبت واقعها، واعتبرته جنَّتها، ودار خلدها، والوطن الأجمل في العالم، ورفلت بثوب الرضا، تجمِّل حياتها البسيطة بتعداد نعمائه عليها، فتزداد غبطة وسكينة، بينما تغزل على منوالها حلمها الملوَّن السرمدي، بأن يتاح لها يومًا أن تطير، لترى ما وراء أفقها المرسوم بيد ما أسموه لها "مشيئة القدر". فجأة وفي نعيم أحلامها، سمعت النعامة هديرًا صاخبًا، هالها ورفيقاتها، وسرى الذعر بينهن بالعدوى، فتصورن أنفسهن مذبوحاتٍ، عارياتٍ، أو لقمةً سائغةً في فم مفترس. استيقظ إرث القهر والعجز والخوف دفعةً واحدة، وخيمت لعنة الأنوثة عليهن، وصار الموت عندهن أرحم من انتهاك حرمتهن، فوهب الخوف لأجنحتهن العزم ليطرن من فوق السور، ورحن يركضن ويركضن مذعورات، قبل أن يتبين مصدر الصوت، أو يلتفتن ولو التفاتة صغيرة ليرين حجم الخطر المحدق بهن. ركضت النعامة حتى أعياها التعب، ولم تعد ساقاها تقويان على المزيد من الجري، فدفنت رأسها مع سائر النعام في الرمال، وهي تحسب لسذاجتها أن ذاك منجيها من مصير محتم. حتى إذا ما طال عليها الأمد، وأوشكت على الهلاك، فيما هدير الصوت يصلها بنفس الرتابة والديمومة، أخرجت رأسها متحديةً، تنشد الحياة ولو لبرهة قصيرة. أية أبجدية تقدر أن تصور لحظة القرار تلك، بل أية لغة مهما اغتنت تملك أن تسطِّر بحروفها المحدودة انبعاثها من جديد من كثيب الخوف المتراكم، لتأخذ شهيقًا طويلاً، وتزفر كل شيء سواه. استجمعت النعامة قواها الواهنة لتستحضر تفاصيل الواقعة، فرأت رفيقاتها قد اختنقن في الرمال، رحلن كالكثيرات قبلهن، وزهقت الظلمة نفوسهن الضعيفة بلا ثمن، فيما بيوضهن وصغارهن هناك في موطن النعام الساحر، الذاخر بالخيالات والصور، وسيل الكلمات، ينتظرن بالأمل فرجًا تأتي به السماء، وعدت به الأمهات مرارًا ولم يأت قط. أدارت النعامة رأسها فيما حولها بأسى، تستطلع وحشة المكان، وابتسمت في سخرية مرَّة حين رأت أن الصوت ما كان إلا طاحونًا قديمًا متداعيًا، عاد يهدر ويهدر بلا توقف، يحلم ويحلم بالطحين... وما ثمَّ طحين. شيعت بنظرة أخيرة رفيقاتها، ضحايا الخوف المتجذر في النفوس منذ عهد البداوة والجاهلية الأولى، بينما امتدَّ أمامها درب الرجوع نحو الحقيقة الكامنة هناك في أعماق موطنها، ضيقًا ووعرًا بلا ملامح أو علامات دالة. عادت النعامة إلى وطن النعام، وحيدة، متعبة، فارغة، لكنها بوجه آخر، عادت حرَّة، قويَّة، وغير خائفة. عادت لتحيا الحرية "الفطرة" التي كرَّمها بها الله على العالمين، والتي لا تُستجدى بل هي حقٌّ إنسانيٌّ فطرت عليه منذ أول خلق. عادت لتتنشق أنفاس الحرية المسؤولة باعتبارها "أمانة الله" والتي حملت صليبها اختيارًا، رضى وطواعية، لتكون قانونها الأوحد، الملزم بلا رقيب أو حسيب، ولا ترغيب ولا ترهيب. عادت تغني نشيد الحرية لأجيال لا بدَّ قادمة، في بلاد لا تعرف عن الحريَّة إلا صورها. أغنية طويلة يقول مطلعها:
"من قال وللنشيد بقية... |
|
|