|
تساؤلات في القصيدة الحديثة
كلما رنَّ في أذني نقد لاذع البطانة، أو ساخر الملحقات، حول قصيدة النثر، أو الشعر الحديث أدندن لاشعوريًا أغنية فيروزية جبرانية: "وظلَّ المصطفى المختار الحبيب، الذي كان فجرًا بذاته..."، وألحقها شعوريًا بأغنية ماجدية أُنسية: "ابحث عني... أنا في مكان ما... أغوص وأنتظر يديك..."، وأتساءل: تُرى هل كانت عبقرية اللحن إعجازية أكثر من عبقرية الكلمات، فأبدعت لحنًا لنثر مرسل؟؟ وهل جاء الملحن إله إيقاع وضعه في خلق لا يحويه؟؟ لا أعتقد!! بل أظن أن المعجزة كانت في اكتشاف الملحن لإيقاع الشاعر الخاص الفريد. أكتب في هذا لا لأدافع عن قصيدة النثر، لأن في كلمة دفاع اعتراف آخر بإشكاليتها، وإعادتها إلى قفص الاتهام، لتشهد محاكمات وجدالات أخرى. لكن في ذهني بعض التساؤلات، مجرد تساؤلات مبتدئة لا أكثر، أبدؤها بعتب على تعثُّر التسمية بحد ذاتها، وتعدد إشكالات تحديد الشعر والقصيدة، ولماذا كانت الجنس الأدبي الوحيد الذي تلعثم النقاد والكتاب حتى اعتمدوه؟ وهل اُعتمد بشكله النهائي الآن؟! لقد ظهرت تحديدات القصة والمسرحية والرواية بشكل طبيعي مع تطور المنظومات الثقافية والحركات الأدبية، بشكل سلس لا إشكال فيه أو تعقيد، في التسمية خاصة، أما عندما وقفوا أمام ظهور قصيدة النثر، تعسَّر المخاض، وحاولوا إخراج التحديد بعبارات مختلفة، وغصُّوا فيه كل مرة. هذا الجنس الغريب الذي جاء ليشوِّه الصورة المثالية لديوان العرب! ومتى؟ في الفترة التي كانت فيها قصيدة التفعيلة قد دخلت ديوان العرب بمعركة لم تبرد رحاها بعد! ليأتي ذلك الكائن الفضائي الغريب ويضعهم أمام مشكلة إنقاذ العالم. والمُستغرب أن اكتشاف كوكب جديد يدور معنا في المجموعة الشمسية، يؤثر ويتأثر في دورانه شأنه شأن بقية الكواكب، جاء احتفاليًا مباركًا قبوليًا انتشت الإنسانية بغبطة الإنجاز والتفوق فيه... أما قصيدة النثر فهذا أمر له شكوك؟ وهذا يقودني إلى تساؤلي الثاني: ألم تكن بذور قصيدة النثر منثورة في المقامات ونثر الصوفيين والمهجريين الذين فاقوا بنثرهم شعرهم إحساسًا وحفظًا لدى الناس؟ ألا يُعتبر هذا تطورًا طبيعيًا لشكل لم يكن غائبًا أبدًا، بل تطوَّر من أشكال مختلفة بتطور الإنسانية وسبرها أعمق مشاعرها، والتفوُّق في أساليب الكشف والغوص نحو الداخل، نحو الإعجاز الحقيقي؟ ليكون التساؤل دائمًا: كيف جاءتنا هذه القصيدة؟ وكيف سمحنا لشعرائنا أن يستوردوا بذورًا لا تصلح زراعتها في أرضنا؟ وحجة المعركة دفاعية قومية جاهزة. لأتساءل مجددًا: لماذا يصل ظلم بعض النقاد على قصيدة النثر الحديثة بأنها طالما هي "نثر" فعليها، على الأقل، أن تحمل ما تحمله الجبال من فكر، وإغراق فلسفي مبطن، وصيغ لامنتهية من الرموز، مما قد يؤدي إلى ما يعيبونه أولاً فيها وهو أنها قصيدة النخبة فقط، وأن القارئ العادي لن يحملها إلا ليطيح بها من النافذة، ويؤكِّد المقولة: فعلاً هذا ليس شعرًا! لماذا لا تستطيع قصيدة حديثة أن تتباهى بدفقة تناغمها اللفظي الشعري، بسيط السرد، لطيف الفكرة، حرَّ التوجُّه والأغراض، شأن كل المشاعر والنيات وتعدد الثقافات؟ ولمَ في ديوان العرب، في ذاكرته الذهبية، لا يُصاغ الشعر إلا بقوالب مسبوكة؟ لم عليه أن يكون مهيئًا دائمًا بوزن جاهز؟ لم عليه أن يكون مشروع أغنية سهلة؟ في كتابة الشعر تنسى أصوات كل موسيقى لتصغي إلى أنغام أفكارك في الداخل، لتتضح رؤاك. وكثيرًا ما تعاني تشويشًا يحفر في نفسك مجرى مفاجئًا، يريد كلمات تنساب فيها المشاعر والأفكار والصور بهدوء مسالم، بدرجات إيقاع متمايزة، وتفرض الضرورة بأن يمشي الشاعر مع أفكاره، يداعبها قليلاً، يسايرها، ويحابيها دون نقاش مضنٍ أو رقص متعب، لتخرج قصيدته البهية بأفكاره الراضية المطمئنة؛ أن لا سيوف فوق رأسها لتقطِّع الرقاب. وأتساءل مجددًا: الشاعر الجاهلي كان ينظم قصائده دون أن يعلم أن الفراهيدي المنتظر سيأتي، ولكنه بفعل طبيعة دواخله نظم، لقد كان يدندن رجز الإبل حتى في نومه، فتأتي حتى أحلامه موزونة، مقيدة إلى عماد خيمته؛ أما شعراء اليوم المساكين، هؤلاء الذين يستمعون إلى كل ضجيج العالم، عليهم أن يحكموا إقفال نوافذهم المدعمة، ويقرأون ما يتيسر لهم من شعر فصيح بليغ جاهلي الأوزان، ليأتوا بقصيدة حديثة الأفكار، تحمل تصريحًا وزنيًا لدخول ديوان العرب. تساؤل أخير فقط: ماذا عن جارية الشعر الموزون (القافية)، حبيسة التفعيلة؟ ألا نستطيع أن نفكَّ قيدها المحكم إلى حرملك قصر السلطان؟ نستسمحكم ألا نستطيع أن نخرجها، ولو من الجدار، بآلة زمنية عجيبة لتعيش في عصر الحرية، فتمشي بين الناس في الشوارع وتدخل أي مكان تشاء؟ ألا نستطيع الاحتفال بقصيدة حديثة، تتدفق مشاعرها الفريدة لترسم لحظتها الخاصة، فتقدم لنا "جنسًا أدبيًا قائمًا بذاته"؟ *** *** ***
|
|
|