العلم
ذلك الابن الضال لمرحلة الحداثة. ولعله يزداد ضلالة بعد أن راح التاريخ
الإنساني، في الألفية الثالثة، يتخفَّف، قليلاً أو كثيرًا، من أثقال
الأيديولوجيا. بدا للوهلة الأولى، منذ منتصف القرن التاسع عشر، على وجه
التقريب، أن ثمة تعايشًا سلميًا بين المعارف العلمية ومثيلتها الإنسانية. توافق
صامت بين الطرفين على تقاسم الأسرار التي قيل إن الاستحواذ عليها مقدمة موضوعية
لمصادرة الكون. والأرجح أنه سرعان ما تحول علاقة انتهازية، بالمعنى الإيجابي،
بينهما على قاعدة أن كلاً منهما يحتاج إلى الآخر في الترويج لمقولاته المعقدة.
ومع ذلك، لم يكن من شأن هذين المتسابقين إلى احتلال الذاكرة الإنسانية الحديثة،
أن يلتزما بالعقد الصامت بينهما. بدا أن كلاً منهما يسعى إلى الإدعاء بأنه
الأوفر حظًا لامتلاك الحقيقة في الزمن المعاصر. بدليل أن الفلسفة بالتحديد أخذت
تزعم أن لديها شرعية مرجحة لتصبح هي علم المستقبل لتضفي بذلك على نظرياتها في
التجريد الذهني ملامح حيوية من الواقعية المتشددة للعلم. بالمثل، وجد العلم
فرصة ذهبية ليضفي على نظرياته الصعبة شيئًا كثيرًا من انفتاح الفلسفة وسواها
على الذاكرة الإنسانية الحديثة. وفي النتيجة أن كليهما استُخدم، بشكل أو بآخر،
مطيَّة جاهزة، إذا صح القول، لهذه الأيديولوجيا أو تلك وهي تتقدم رويدًا رويدًا
لتجبر التاريخ على تقديم استقالته بقوة الإكراه. بدت الأيديولوجيا الاشتراكية،
منذ قيام الاتحاد السوفياتي، الأكثر تحرشًا بالعلم لحمله على الانصياع
لتوجهاتها الواقعية المزعومة. وجدت في العلم ضالتها المنشودة. سرعان ما
استدرجته إلى كنفها ثم وضعته في الإقامة الجبرية.
على
الرغم من بعض الإخفاقات في البداية بدأ المصادم الكبير للهادرونات
LHC المبني قرب جنيف في مراكمة المعطيات
في درجات عالية جدًا من الطاقة لم يسبق الوصول إليها. والهدف من ذلك هو ملاحظة
ورصد بوزون هيغز. كان هيغز قد تخيل وجود هذا الجسيم عام 1964، وسرعان ما أصبح
له مكانة مركزية في فهمنا لبنية المادة. مع ذلك، وفي الوقت الذي بدا فيه أن
الفيزيائيين بدأوا يلامسون هدفهم، راح بعضهم يشكك بالمسألة برمتها، فماذا لو لم
تكن بوزونات هيغز سوى محض خيال؟ لا شك أن ذلك سيؤدي إلى انهيار عدد كبير من
النظريات المعاصرة. وفي المقابل، فإن ذلك سيفتح أمام العلماء حقلاً لم يسبق له
مثيل من إعادة بناء التصورات والأفكار، ولعل ذلك هو الأكثر تحفيزًا وحماسة.
مكانة الفينومينولوجيا كمنهج بحث وفلسفة صارمة:
تشغل الظاهراتية أو الفينومينولوجيا
La phénoménologie
حيزًا مهمًا في الفلسفة المعاصرة من حيث أنها منهج بحث، فهي ليست فكرًا مدرسيًا
scolastique
كما كان سائدًا في أوروبا فترة العصور الوسطى، كما أنها
ليست كالفلسفات الحديثة (الوضعية المنطقية
Positivisme logique
والماركسية مثلاً) فلم تقدم على ما يبدو هذه الفلسفات إلا
فكرًا مدرسيًا. وأكثر ما يميز الفلسفة المدرسية هو وجود مبادئ عامة تحدد آراء
المنتمين لهذه الفلسفة حيث أنَّ أي تراجع عن أي مبدأ من هذه المبادئ يعتبر
تنازلاً عن العقيدة الأساسية. أما الظاهراتية فهي تشكل تيارًا فلسفيًا قام
بقطيعة إبستمولوجية عن الفكر السائد في القرن التاسع عشر، أضف إلى ذلك أنَّ
الظاهراتية، باعتبارها منهجًا لوصف ما هو معطى، تبتعد عن عمل أي تقييم محاولة
الوصول بذلك إلى أكبر قدر ممكن من الموضوعية.