|
الـحـافـلـة
نحن ركاب حافلة تسير إلى الأمام أبدًا. نحن قاعدون في أماكننا. اعتادت حواسنا وأجسادنا الثبات حتى عددناه ليس حقيقة وحسب وإنما بديهة. الثبات وَهْمنا الثابت. نجهل أننا – في حقيقة الأمر – نسير، ونسير بسرعة. لدينا وهم آخر: أن عالمنا في داخل الحافلة هو كل العالم، ونجهل أننا جزء منه لا غير، جزء عابر بسرعة شديدة، جزء لا يكاد يُذكر بالقياس إلى العالم اللامتناهي خارج الحافلة. معرفتنا مقتصرة على عالم الحافلة الداخلي، ومع ذلك ندافع بأنها هي المعرفة ولا معرفة غيرها. في البدء كنا ننظر عبر النوافذ إلى الموجودات وهي تمر. ولا يخطر على بالنا أن الموجودات ثابثة وأننا نحن الذين نمر، أن الموجودات باقية ونحن نختفي. وعلى اعتقادنا بالثبات صرنا نربي أحاسيس، ونؤسس أفكارًا، ونبني آمالاً. أحاسيسنا وأفكارنا وآمالنا صارت تعزز – بدورها – اعتقادنا بالثبات، وتتعاون فيما بينها لتحويله إلى يقين. ومنذ ذاك لم تعد لأحد الجرأة على النظر عبر النافذة. * * * أثناء سير الحافلة، نتغير. التغير هو مضمون العلاقة بين الموجودات والزمن. أنتَ يا مَن نزلتَ من الحافلة، لستَ نفسك الذي صعدتَ إليها. * * * أثناء الطريق يقيم الركاب علاقات مع بعضهم. منهم من يتلاشى في السعادة حد أن ينسى مرور الوقت/ سير الحافلة. منهم من ينغمر في التعاسة حد أن ينسى مرور الوقت/ سير الحافلة. منهم من يبقى نائمًا طوال الرحلة. منهم من يصل دون أن يدري. يصل؟ – نقول عن الذي يغادر الحافلة أنه وصل (وذلك زيادةً في تضليل أنفسنا) ولا نقول أن رحلته انتهت. * * * أثناء الرحلة يتناقشون: ما هي هذه الحافلة؟ كيف انطلقت أول مرة؟ إلى أين تمضي؟ أي محرك يسيِّرها، إن كان لها محرك أصلاً؟ وكيف؟ ولماذا؟ ذات مرة انبرى أحد الركاب ليسأل الآخرين بوقاحة: هل أنتم جادون في نقاشاتكم أم أنها ثرثرة الطريق؟ التفت إليه الركاب مستنكرين، فواصل قائلاً: أعني أنكم تقضون الرحلة كلها مندغمين في تساؤلاتكم. تقضون الرحلة حائرين ومتفكرين، فهل إن مضمون تساؤلاتكم هو المقصود لذاته من نقاشاتكم؟ هل خطر لكم – مثلاً – أن المقصود من جدالاتكم كلها هو قضاء الوقت بأمر يأخذ اهتمامكم وينسيكم أن الرحلة – كما تعلمون – مملة؟ * * * في آخر المقاعد من المركبة، تقبع ثلة من الركاب تشكو من حالة نادرة: ما تزال حتى الآن مقتنعة بأن الحافلة واقفة وأن الموجودات حولنا هي التي تمشي إلى الوراء. *** *** *** |
|
|