|
لماذا نقرأ؟
إن الذي جذبني هذه المرة إلى كتاب شارل دانتزيغ لماذا نقرأ، والذي أصدرته دار غراسيه في الأيام الأخيرة، هو على العموم فرادة موضوعه، أو بالأحرى ما يعد به العنوان فيما يخص القراءة وشؤون شجونها. خاصة وأن ذلك السؤال الذي لوَّح به مشحون بنوايا كثيرة، بل هو مفتوح على احتمالات في المعنى أكبر. إذ يمكننا صياغته على طرق مختلفة تفضي إلى نتائج متباينة، بدءًا باقتراحي لفهمه على مبدأ لماذا تعتبر القراءة ضرورية، ثم في سعيه ثانية إلى معرفة ما يكونه هدفنا من القراءة، وأخيرًا المعنى الذي يحتمل التقصي حول الدواعي التي قد تحثُّ أحدنا على فتح كتاب، وتجعل أغلبنا، على دأب قول الحكمي في الخمرة، مدمنين؛ فـ: من ذاقها مرة لن ينسها أبدا حتى يغيَّب في الأكفان والتُّرُب شغلت الكاتبَ فكرةُ أن لا طائل من قراءة الأدب لأنها لا تفيد في شيء. إذ نهدر في سبيلها وقتًا، كان من الممكن أن يُستثمر في عمل آخر قد يدر علينا، خلافًا لها، مالاً عميمًا. لذلك فقد لخص في ثلاثة أمور ما يورط الواحد منا في هذا المأزق، ويتجه طرًا إلى هذه القراءة ذاتها، سواء من أجل السعي إلى: 1. فهم العالم. 2. فهم ذاته. 3. فهم الكاتب (وذلك في حالات نادرة). غير أنه يرى بأن القارئ يقرأ من أجل نفسه وليس من أجل الكِتاب. فـ "ليس هناك من هو أكثر أنانية من القارئ". لهذا كله يرى بأن القراءة ليست ممارسة تتوخى الترفيه. ذلك أننا لا نقرأ لكي نتسلى. لأننا نقرأ كي نستفيد ونفهم العالم من حولنا. كما أننا نقرأ، كما كتب، كي نفهم الذين لا يرغبون في الفهم. ألم يقرّ فيما يخصه بأن كل ما تعلمه من أشياء حسنة تأتى له عن طريق الكتب؟ فأن نقرأ، في رأيه، هو أفضل بكثير من أن نتسلى. مشيرًا إلى ما خبرَه في طفولته، إذ كان ينهمك خلالها في المطالعة على الدوام. ما يجعل أبويه يرغمانه أحيانًا على أن يركن إلى اللعب قليلاً، خوفًا منهم عليه من شرها، ما كان يشمئز منه اشمئزازًا. إذا ما علمنا بأنه كان يقرأ في طفولته الأولى كتبًا أكبر منه. سوف يفسر ذلك فيما بعد عندما أشار إلى فكرة أن علينا أن نرشد الأطفال إلى قراءة كتب هي أعلى من مستواهم، ودون تخوف من ذلك، لأنهم لا يهتمون فيها، في نظره، بما لا يهمهم منها! فالكتب كما كتب في مكان آخر من الكتاب لا تغيرنا، ولا تؤثر فينا، لا سلبًا ولا إيجابًا. لكن، ماذا كان قصد دانتزيغ حقيقة؟ وهل أستوفى كتابه حقه للسؤال الهائل الذي طرحه، بل وعنون به الكتاب، وما أدراك ما العنوان؟! ألم نكن نتوقع مبحثًا لطيفًا ومرحًا في دواعي القراءة، والأسباب التي تدفعنا إليها؟ دراسة، ما كنا نطالبها بالتحجر الأكاديمي ولا بالتحري السوسيولوجي الجاف، ولكن بعمق التناول وجماله. فأين كتابنا من كل هذه التطلعات والرغبات إذن؟ لم يُجب الكاتب عن سؤاله بأكثر مما ذكرناه أعلاه، ولم ينشغل نهائيًا بالسؤال الذي طرحه، إلا في بعض التفاتات قزمة. هذا، إذا ما قسونا عليه نوعًا، ولم نعتبر كل مضامين كتابه في مجموعها بأنها إجابة بشكل أو بآخر عن السؤال ذاته.
المؤلف أعتقد أن دانتزيغ وضع كتابه مجزأ ومنجمًا، قطعة في كل مرة، حتى اجتمع له كما هو عليه الآن. أو ربما أنه نشر في الصحف والمجلات قطعًا أولى، ثم تبادر إليه أن السعي في الكتابة بنفس الصياغة قد يؤدي في النهاية إلى عدد جم من الأوراق والتي قد تصنع بلا شك كتابًا. إنها مجرد تخمينات، لكنها ليست مبنية على فراغ، بل هي مستنبطة بكل بساطة من الحالة التي يوجد عليها الكتاب الذي بين أيدينا. إذ نكاد نشم منه التواريخ المتباعدة لكتابته. فإذا أشرت إلى هذا الأمر، فليس لأنه مستهجن في ذاته، ولكن لكي أفسر لماذا لم يكن العنوان إحالة حقيقية على ما سوف يصدر عنه الكتاب. وأنه فقط، مثلما في بعض عناوين المجموعات القصصية، التي لا تعدو أن تكون مجرد عنوان لواحدة من التي تتضمنها المجموعة عينها، مجرد عنوان. لمن لا يعرف شارل دانتزيغ فهو كاتب يُقدَّم عادة على أنه قارئ من الطراز العالي. رجل قرأ كتبًا كثيرة، ولم ينته الأمر بعد. فبغض النظر عن بعض التباهي (أو حتى التعالي) الذي لا يكاد يفارقه، فقد وضع، إضافة إلى بعض الروايات، قاموسًا شخصيًا للأدب الفرنسي! نفهم من هذا إذن لماذا يتعرض للقراءة. فلأنه، بطبيعة الحال، يرى في شخصه أهلية لذلك. وربما لهذا السبب نفسه تخيل تصميمًا آخر لكتابه عوض أن ينشغل بسؤال عبثي من قبيل لماذا نقرأ؟ إذ بناه عبر فصول قصيرة جدًا في غالبيتها، وهذا من جانب الإجراءات المظهرية، أما من ناحية شكل المضمون وطبيعته، فإن دانتزيغ قد قرر استغلال عنصر لا فكاك منه لدى التطرق إلى القراءة، ألا وهو السيرة أو حياتنا والقراءة، متى قرأنا لأول مرة؟ ماذا قرأناه؟ أين وكيف؟ ثم إلى غير ذلك من التداعيات النرجسية المتعلقة بهذا الجانب من سيرة كل قارئ "كبير" (نهِم)، والتي لا تخلو أبدًا من اختلاق. الكتاب إذن هو، بمعنى ما، "خواطر" الكاتب حول القراءة، الكتب والقراء. يتعلق الكتاب إذن بطرح آراء الكاتب في الأدب وفي قراءته. ما يعني بأن الأمر يتعلق فقط بتأملات ذاتية خاصة، ولا سبيل بذلك إلى معرفة هامة تمضي أبعد من التجارب الشخصية لقارئ/كاتب. لذلك لا نقنط كثيرًا بخصوص وعود العنوان. قليلة هي الكتب المهمة التي ذكرها دانتزيغ، ولم أجد من ضمنها، شخصيًا، كاتبًا جديرًا بالقراء المهووسين الذين يدعي الكاتب الانتماء إليهم. بغض النظر عن كتاب معروفين في الآفاق مثل بروست، ستندال، موزيل، مونتيني، باسكال، لابريير، أو فلوبير وشاتوبريان، وإن لم يرق له هذان الأخيران، أو أنه وجد فقط مؤاخذات معينة عليهما. لم يصدر الكاتب كثيرًا عن منطق نقدي في كتابه، بل انطلق، عكس ذلك، من نوع من انثربولوجية "خفيفة"، على مستوى التعرض إلى الأماكن التي قد نقرأ فيها، من شاطئ البحر إلى مقعد في الطائرة، ساردًا كل مرة حكاية عن شخص آخر، مثل حديثه عن صديق له يعتريه الفزع لدى ركوب الطائرة وكيف أنه يقرأ كل مرة إحدى كتب الفيلسوف كانط التي تتطلب مجهودًا ذهنيًا كبيرًا، لكي تشغله عن جحيم مخاوفه أثناء الرحلة الجوية. لا يخلو الكتاب كله من هذه الحكايات، حتى أن الكاتب كثيرًا ما عمد، بشكل مرن، إلى تصفية حسابات له مع كتاب آخرين أو مع النقاد أو الذين يصف بأنهم "قراء عن ضغينة". غير ذلك كثيرًا ما يدس تعليقًا أو موقفًا سياسيًا في ثنايا كتابه، ما لم يقه شر الانزلاق في التفاهة أحيانًا وفي الإساءة المُرة أحيانًا أخرى، وأبسط مثال عن هذه الأخيرة هو عندما وصف ما صار المسافر يتعرض له اليوم من إهانات التفتيش في المطارات، إذ كتب في الصفحة 178 مشيرًا إلى ذلك وواصفًا إياه بما لا يستقيم فيه الشبه "مهانون مثل سجناء سجن "بوغريب"!! لم أذكر أيضًا أنه زين كتابه ببعض الصور، رسومات تجسد قراء، وما إلى ذلك، لكن الذي أثار انتباهي هو ما جدوى (بل ما القصد؟) من تثبيت صورة الجنرال الليوطي (الذي يعرفه المغاربة أكثر) على الصفحة 220 من كتابه؟ تبقى القراءة فعلاً انعزاليًا، وعندما نقرأ، كما كتب، نحيي فكرة غافية. وربما لذلك يكون القراء الكبار ممقوتين. لن نطالب دانتزيغ بأكثر من هذا. فإن لم يشبع جوعنا إلى قراءة جميلة فقد حرض فضولنا إلى كتاب كان فيه حديث عن القراءة، رديفة الأدب كما وصفها بنفسه. ألم يكتب في هذا الكتاب عينه ما يلي: "باعتباري قارئًا، وحده الجنون هو الذي يمتعني، وكثيرًا ما نفرني من نفوسهم المتعقلون"! إيلاف
|
|
|