|
النأي الساحر لدى فاتح المدرس
حوَّل المدرس الجنرالات إلى أشباح وظلال، أظهر منهم، بعد تفريغهم من رعب حضورهم الجسدي، أكثر ما أظهر خطوطًا تدل على الصدر والكتف والرأس، النياشين وبقع الدم والقبعات، حيث يلتئم بمرارة صمتُ الإشارة المحتقن. خفَّف من وقع ثقلهم الكابوسي، كما يجدر بما هم عليه، إلى مهرجين عزَّل جامدين. حرَّك رؤوسهم قليلاً، أحناها وثبتها وقد غطاهم بالضوء وأحاطهم بالفراغ، كأنما يسائلهم دونما منع وبلا تمهيد، باغتهم في عراء سطوتهم فعزلهم، عراهم بمرح وفطنة ليحللهم ويكشفهم. في المقابل رفع من شأن ومكانة الأطفال إلى مستوى يليق بأيقونات محزنة وباهرة.
نظر من الداخل ولم يخرج منه سوى الغرق في الضوء. ضخَّم نفوذ العسكر، منحهم مساحات كبيرة ليتلفهم داخلها. حاصرهم بالزرقة الداكنة من كل صوب كما تحاصر السماء نظرة الغريق والموت تلويحة المذعور، وأنبت زهورًا نحيلة طالعة في قبعاتهم، دلَّى شرائط ألوانٍ على أكتافهم، وخطَّ أفواههم ضئيلة سوداء ليصغرها كمباسم صغيرة. أظهر الأصل وجذر المحن، أظهر نقط الدم وجوف الصدور. أعادهم إلى ما أتوا منه وأتوا به: القسوة والمحو حيث يمكن للهزء أن يظفر بالجميع في النهاية، وللزهور أن تنتعش من جديد داخل رؤوس الهواء الفارغة.
لكنه جعل للطفل مكان القداسة المستحقة، أفرده عن السلالة والأصل. ذهَّبه ودفأه، لمَّه عن الخوف ونشله من قاع البرد، ملأه بعسل الضوء الصافي كما يجدر بسحابة ملاك أن تمتلئ وتمنح. أغرق ليل الحرب إلى زرقة شاملة. كأنما لا ليل هنا، إنما غرق وتيه، سخرية ومحبة بلا ثمن وبلا شرط وبلا سبب، فنتائج خيال قوي كخيال المدرس لا تعوز أسبابًا من منطق أو نظرية. مسيحه بلا هالة مسيحية، بلا كنيسة ولا تعاليم ولا كتاب. مسيحه ألم محض، توجع، ولا سماء حوله سواه. جحيمه أرض وحجر وحيوانات حيث التحلُّل والذوبان والرجوع إلى كل شيء من الصفر الواحد على قول له: "من الصفر يولد رائعُ الواحد"، من لاشيء – بداية تأتي الصور كلها.
ألا نعثر على إشارة عدمية توحيدية وموحدة هنا، على نوع من قحط وصلادة التساوي والطباق القاسيين، التعادل الماحي الذي يلغي كل تفاضل وكل رفعة أو اختلاف. فالولادة من لا شيء كالخروج من باب السحر والبقاء على العتبة المسحورة؛ إذ ضوء الداخل مازال يغشي العين التي لم تعد أسيرة ولا حرة، قدر ما هي متوسلة وغافلة ومندهشة. كان بوسع فاتح المدرس الانتقال من التفجُّر الساخن إلى السكون البارد ومن الصفاء الخلاب إلى عتمة خانقة في اللوحة الواحدة؛ فالزمن الأرضي الذي حاقبه وضغطه وراكمه في لوحاته يسعفه ويغريه ويطلق كائناته كما لو خارج الزمن داخل الشعور المصبوب كتلاً حارة ومتداخلة، فالعاطفة زمنُ حالها ومبتدؤها، والتجذر في اللوعة والأسى مكانُ الأمكنة. لا تبدو وجوه المدرس معاصرة، ليس لها شأن في الحاضر ولا اليومي، لكنها مع ذلك أليفة وقريبة، غالبًا ما تأخذ مقدمة اللوحة من الأسفل وتظل تنظر إلى لاشيء.
الريفي محل حنين معهود، لكن هذا الحنين توق وتألم حارقان، إذ لا فردوس في الماضي ليستعاد ولا مدينة في الحاضر لتعاش ولا أمل في المستقبل. حاصل الأزمنة حصارٌ على نشيد دمها وارتطامها وتحللها وتمازجها وانكماشها وتقاطعها وتحجرها. التذكر العصي يدوخها، يجعلها مختلطة بالتراب الذي يوازيها قوة وصبرًا ومنعة وسطوعًا، والحلم الهش يرفعها هشة إلى أفق صغير وبعيد، لكن فاتن ومحلق وشفيف. اللوحة هنا شهادة مزدوجة ومركبة، على مرور الزمن الذي يمحو الشخوص ويكنز المصائر كما لو كانت ذخائر متحفية، يستعيدها داخل مهد أو لفافة كالقماط، يجعلها طفلة حياتها المستحيلة. اللوحة شهادة على العبء والضمور والعتق والتراكم، امتحان لتزاوج الحسي مع العدمي والغيبي مع الحقيقي، إشارات دامغة إلى اللطف والعناق والترك والتخلي والحنان الدامع وضراوة الشهوة والكبت والحبس. لذلك تخرج الهيئات مفتونة ومعتقلة، فما يسحرها نأى عنها، وما يحيطها ليحميها يقلقها ويهينها، وما يحبسها رهين فمها المغلق وعينها الراجية.
السطح هو كل الصورة، والصورة لذلك تتجاور ولا تتناظر، تنبسط وتتماوج وتغمق، تختلط ولا تتنقى، تمتزج وتلح في الغوص طبقة إثر أخرى في المستوى نفسه حد الغيبوبة البصرية. إنها تدور كما لو كانت مخمورة روحها وبحثها، وتشهد في حال من ثبات جواني مثار وجلد مسطح مشوي كما لو أن التعب حجَّرها بعد أن طفحت بوهج الشمس وحرارة التلال وخضرة الشجر الطيفية. ليس من قيمة للبعد هنا إلا كونه الغطاء الذي لا يخفي التألق والمسافة التي لا تمحى رغم انطفائها. لذلك هي الألوان نوافذ داخلية مشرعة، وعجينة الزمن تطفو عبرها مثلما يطفو بخار الساعات فوق وجوه كامدة، والنظرة الخائفة أخت الحنان الكسير تموج وتتلطخ لتلتئم في النهاية بالمكان السابح كطير فوق مقبرة المكان وفوق هاوية الزمن.
قلَّص المدرس من الحس الانفعالي المباشر، قصفه وحوله إلى أقل إشارة ممكنة. عبر هذا التحويل المكثف اكتفى من الوجه بلمحة، ومن الأفق بشجرة أو تلة أو طائر صارخ. قلص الوجه ليتفتح أكثر، وراكم اللون ليشع وينطبق كأنه على وشك نطق بالدمار. تبدو معظم وجوه المدرس خاوية، ثمة إشارات قليلة، خط منحن أو بقعة غائرة بدل عين كاملة، خضرة عشبية مشبعة بدل الصدر أو الكتف أو القبلة، لون بني طاغ بدل الصخور والتراب. قدم فاتح المدرس من الأبسط والأقرب الأصعب والأدق والأكثر إلحاحًا. الطبيعة في وجوه البشر، والبشر في قلب العزلة، الناس هناك وهنا انتهوا غير مرة بأطراف حيوانية، جنب بعضهم البعض كما في وداع جنائزي للخليقة أو احتفاء بها، والأشياء زمن ذكريات على وشك أن تلمس أو تنمحي. كما لو أن القبور فتحت، القبور التي لا مسافة بينها؛ فزمن الموت لحظة في سياق الولادة المستمرة.
من داخل هذه العتمة التي تصف التناقض ولا تلغيه، تتأمله ولا تمدحه، تحفره ولا تردمه، من داخل جسد سؤال كوني، قدَّم المدرس جسدًا بلا صاحب، ومكانًا بلا ملك، وأفقًا بلا حد سوى المخيلة التي تعيد جمع العناصر لتمنحها تحت ضوء الغموض فرصة قدر آخر وحياة ثانية أقرب إلى لطافة الغيم ونور الأرض وجناح طائر في السديم. شخوص المدرس مدار لانفعالات وتعابير، والوجه الذي يحمل التعبير كما يوفي دينًا للعالم، هذا الوجه المضغوط والساحر ليس وجه أحد. العاطفة هي التي تصنع الوجه لا العكس، ومن هم أبناء العاطفة غدوا شهداء على اللوحة وعلى مفاتنها.
|
|
|