|
نحو حوار "مفتوح"
في لقاء مع مجموعة من الباحثين الجامعيين وغيرهم دار حوار خصب ومفتوح حول مسألة طالما أتى عليها باحثون ومفكرون ومثقفون عرب وأجانب (خصوصًا من ألمانيا)، وهي "الحوار" وخصائصه في الفكر العربي بمختلف مرجعياته وتياراته الدينية والدنيوية. وحدثت انقسامات بين التيارات المتعددة، كما في حقل التيار الواحد. ومع الاختلاف في تقويم ما نتج عن ذلك، فإن رهْطًا من المقوِّمين كان لهم بروز خاص، وترك أثرًا كان أحيانًا عميقًا في الثقافة العربية عمومًا وخصوصًا. وسواء تمَّ ذلك بالكلمة أو عبْر الاحتراب، فإن قيمته التاريخية والمعرفية والأيديولوجية اعتُبرت تعبيرًا مهمًا عن عصرها. ومن ضمن تلك الحوارات المتقدمة يمكن الإشارة إلى بعضها، وفي مقدمتها حوار الخليفة الرابع علي بن أبي طالب مع الخوارج وغيرهم، وحوار الإمام الغزالي مع الفيلسوف ابن رشد، ثم حوار الإمام محمد عبده مع المفكر السوري المسيحي فرح أنطون، إضافة إلى حوارات أخرى كثيرة سابقة ولاحقة وراهنة. ويلاحظ أن معظم الباحثين العرب، الذين يرفضون وجود مثل الحوارات المفتوحة (والتشديد هنا يأتي على هذه اللفظة الأخيرة)، يستندون إلى ما كتبه الباحث الغربي الشهير برنارد لويس في كتاب له تُرجم إلى اللغة العربية بعنوان لغة الإسلام السياسي، مع أن عنوانه الأصلي بالإنجليزية هو: اللغة السياسية للإسلام، أو بالأصح لغة الإسلام السياسية، والفرق اللغوي واضح بين العنوانين، ممَّا يشير إلى بعض التقصير لدى بعض المترجمين العرب. أما في هذا الكتاب فيرى مؤلفه الرأي التالي: "فالمسلمون الثائرون ينسحبون من النظام القائم أكثر مما ينهضون ضده"، ونحن هنا نتحدث عن الفكر العربي في منحاه الأيديولوجي الإسلامي، كما في توزعه المكاني الإسلامي. إن حركة الفكر تنشأ في الداخل (الإسلامي العربي)، وتنتهي فيه، وبمعنى آخر، فإن "الحركة المكانية" تظل في حدود مكانها وداخل الذات دون الموضوع، أي الواقع السوسيو ثقافي والاقتصادي التاريخي المشخص، مما يجعل حركة المكان المذكورة تعبيرًا عنه، وإنْ باتجاه الداخل، كما هو الحال الظاهري في حقل التصوف. إن حوارًا فكريًا أو سياسيًا إلى آخره، إنما هو نمط من "حوار الطرشان" يتم بين جزر متعددة لا يربط بينها رابط موضوعي. وهذا ما عبَّر عنه الأستاذ محمد عابد الجابري في كتاب له بعنوان بنية العقل العربي، حيث رأى أن الرَّمْلة لا تلتقي بالرملة لغياب الثالث (الماء)، الذي يربط بينهما. ومن ثم "الفكر العربي" عمومًا قائم بين مرجعيات تعود كل منها إلى موقعها الذاتي المتفرِّد. وهذا بدوره، يشي بأن الفكر المذكور لا يجمع بين بِناه وعناصره إلا ما يجعل منه فكرًا مغلقًا. وإذا وجدنا نمطًا آخر من "الفكر العربي" يتسِّم بكونه بنية موحدة في تعدديتها، فإننا نكون قد وقعنا في وهم "معرفي"، هو أن هذا الفكر أصبح كذلك على ما هو عليه، بعد أن لقَّحه الفكر الغربي العقلاني الديمقراطي. لقد ظهرت آراء من هذا القبيل في مداخلات قدَّمها باحثون ألمان وأتراك وآخرون، اعتبروا أن تلبُّس المنظومة الفكرية السياسية الغربية بلبوس عربية يمثل عملية ضرورية للنهوض، أخيرًا، بالفكر العربي والحياة العربية عامة. ويُذكر أني في اليوم التالي على سقوط بغداد على أيدي التدفق الأميركي الغربي، كتبت بيانًا ثقافيًا سياسيًا وُزِِّع باليد، تضمن سؤالاً أتى بالصيغة التالية: لماذا (والخطاب هنا وُجِّه للنظام السياسي العربي ومن ضمنه السوري) لا تفتحون الدائرة أنتم، قبل أن يفتحها الأخيار، الغرب بتلاوينه المتعددة؟ لقد ظهر ذلك السؤال في مداخلة قدمها أحد الحضور، وكان قد قرأه في وقته، ضمن "البيان المذكور" باللغة العربية، فقدم سؤالاً على ذلك السؤال، وهو: لماذا يرى طيب تيزيني في البيان إياه والآن أن الداخل العربي هو القادر على إنجاز تلك المهمة "المستحيلة عليه"، وهل يعتقد أن مشروعًا عربيًا في النهضة والتنوير يمكن أن ينجزه العرب، بعد أن خرجوا من التاريخ هكذا أو هكذا؟ وفي أعقاب ذلك، نشأ حوار ذكي ومنتج مثمر، دلَّل عبره المتحدثون على أن نهاية "نهائية" للتاريخ العربي أمر يمثل مفارقة منطقية وتاريخية مستحيلة. وفي الحق، إن إقصاءً للتاريخ العربي الجديد المحتمل والمفتوح والمتمنطق بكل أو بمعظم أنماط المعرفة المعاصرة، هو حالة ليست بعيدة عن الاستحقاقات، التي تطرحها اتجاهات ما بعد الحداثة في العالم العربي. ولعل التدليل على خطى ذلك يأتي الآن ونحن نتحاور في الشأن ذاته، وذلك بالأخذ بالاعتبار أن الحوار إياه استطاع أن يخرج من الدائرة المغلقة، وربما كذلك أن يهيئ لما بعده بكيفية أو بأخرى. *** *** *** الإتحاد الإماراتية 16-12-2008 |
|
|