القمر والمرأة

 

نبيل سلامة

 

قبل خروجي من البناية لنزهتي المسائية، بعثت بمعايدة على الموبايل إلى بنات أختي، وذلك من خلال الوسطى منهن وتُدعَى لين، ولين يعني النخيل وهو اسم أيضًا يوحي بالقمر lune، وما أن خرجت من البناية حتى رأيت القمر متربعًا على عرشه في السماء كأحد آلهة الأولمب المجيدين، والذي له رهبته ومخافته وحياته الحميمة الخاصة، وأنا الآن أكتب أثناء نزهتي، والقمر يتخذ شكلاً نصفيًا كرويًا باتجاه الأسفل، وهذا يعني العزوبة التي تنتظر النصف الكروي الآخر باتجاه الأعلى أي المرأة.

هاأنذا أسارع العودة إلى البيت لكي أخطَّ بعض الكلمات، لكن قبل أن أباشر عودتي، ثمة فكرة أساسية في رأسي، على أثر سماعي أغاني موضة اليوم، نعم هي أن الحب هو سرُّ الحياة، ولا يمكن فهمها البته إلا من خلاله! والطاقة الجنسية، هي طاقة الحب بامتياز!

والآن، ما شأن القمر بما بدأت فيه كلامي، والحب؟

لو سألني علماء الفلك حول أصول نشأة القمر، لأجبتهم أن الإله قد استلَّ القمر من ضلع الأرض، مثلما استلَّ حواء، على سبيل الرمز، من ضلع آدم!. فالقمر هو حواء الأرض، والأرض هي آدم القمر، وما بينهما قصة حب أزلية!

مثلاً، اليهود قد سماهم التاريخ بالعبرانيين، إنهم رمز للسلالة البشرية، فالعبرانيون أتت التسمية نسبة للعبور، وكان زمنهم قمريًا، وأول عبور للبشرية نحو الكون، كان من خلال القمر، فالبشرية هي عبرانية بامتياز، وهذا العبور يكون من خلال القمر، فالقمر هو عتبة الإنسانية نحو الكوني، أي الإلهي، أي اللانهائي. ليس بوسع الرجل أو الإنسان أن يتعرف على الكوني أو الإلهي إلا من خلال الأنثى، فالأنثى، أي القمر، هي الحياة السرِّية للأرض، هي التي تنسج أحلامه في الليالي، وهي التي تسهر عليه، وهي التي تهدهده في نومه، وتغني له أحلى التهويدات. إنه حياة الأرض الداخلية، وعتبتها نحو الكون. فالقمر هو سرُّ الأرض، وروحها، وحياتها الحميمة!

فمثلاً، نرى البوذيين ينتظرون اكتمال القمر، أي أن يصبح بدرًا، لكي يرقصوا تحته، أو يتأملوا فيه، فلقد أدركوا علاقتهم السرية بالقمر، فهو، حسب تجربتهم الروحية، يؤثِّر بشكل مباشر على غدتهم الصنوبرية. لطالما هذه الغدة قد حيَّرت العلماء بفعاليتها ونشاطها السري، فهي بالنسبة للبوذيين، المسؤولة الأولى عن النشاط الروحي والتأملي في حياة الإنسان الجوانية. فهم من خلال القمر يلمسون عوالمهم الداخلية، ويقرعون أبواب الكون الداخلي العميق!

والقمر هو الذي يعكس نور الشمس، أي النور الخلاَّق، أي مبدأ الحياة، وذلك ليمدَّ آدم – الأرض، في حياته الحميمة، إنه يمده بجوهر خلاَّق في حياته الداخلية العميقة!

في العربية قمر: قاف قوة، ميم ماما، راء روح.

ليت يتسع لي الوقت لكي أخوض في أساطير القمر، ربما الإلهة إنانا التي ذكرها أحد دارسي الأساطير اليونانية ويُدعَى فيكتور ساليس، على أنها القديسة حنة، وأنها أصل تسمية إلهة الحكمة أثينا والتي تعود إلى إلهة القمر.

ونحن نعلم جيدًا أن محاق القمر هو ثلاثة أيام، هي نفسها الأيام التي نزل فيها يسوع إلى العالم السفلي!

ولكن، ما علاقة ذلك كله؟! إنه ولاشك إن أشار إلى شيء فهو يشير إلى الولادة الجديدة من الرحم، أي من القمر، وهذه هي رحلة القمر المتجددة هلالاًَ حتى يكتمل بدرًا ثم يختفي ليولد من جديد!

على أية حال، أرى العلاقة الجنسية بين الأرض والقمر، تظهر من خلال تأثير القمر على الأرض بظاهرتي المدِّ والجزر، وما هما إلا تعبير عن الانتصاب والارتخاء. فمن الجدير ذكره أن ظاهرة المدِّ هي التي ساعدت بانتقال الحياة من البحر إلى اليابسة!

ونحن نعلم أن دورة المرأة الطمثية (الشهرية) هي في الحقيقة دورة قمرية، وتشير الدراسات إلى أن أعلى احتمالات الحمل تكون عندما يكتمل البدر. فالمرأة كائن قمري، والرجل كائن ترابي أي أرضي!

أما أولئك الكبار الذين عاشوا عازبين أمثال ليوناردو دافنشي وسواه من عباقرة وقديسين ونسَّاك ومتصوفين ومبدعين... الخ، فهؤلاء، لاشك، قد كان حاضرًا فيهم مبدأ للإبداع، سواء كان تجليه روحيًّا أو شعرًا أو قداسة أو تصوفًا أو نسكًا أو فنًا، فلاشك ثمة مبدأ خلاَّق يسميه البعض بالله، والبعض الآخر بمبدأ الحياة أو الفعل الخلاَّق، أو زيوس إن شئتم، فلا تهمُّ التسمية، المهمُّ هو المعنى، فهذا المبدأ له تعبير في حياتنا من خلال حضور الشمس، فهي أساس الحياة على الأرض. وهذا المبدأ كفيل بأن يجعل مياه البحر، أي القوة الجنسية للأرض – آدم، تتبخر أو تصبح بخارًا، وبمعنى آخر، روحنتها، وبتعبير آخر تصبح غيومًا والغيوم مطرًا وحياة وإبداعًا وخلقًا. وهذا ما يسميه علماء النفس بالتصعيد أو تسامي الطاقة الجنسية.

ولكن، البشر عمومًا، أمثالنا نحن المساكين، فلنا طريق آخر، أفهل بوسعنا أن نعيش مثلهم؟ هذا ليس باختيارنا، فلنا تعريفة حياة كونية أخرى، أي ليس بوسعنا أن نعيش دون قمر. هذا أمر تعلمنا إياه الأرض في أناشيد حبها السرية لقمرها رفيق دربها الأزلي.

هل بوسعكم أن تتخيلوا كيف يمكن للحياة أن تكون على الأرض دون قمر؟!

قبل كل شيء، القمر هو الدرع الذي يحمي الأرض من ضربات النيازك، وعلى هذا النحو يضمن استمرار الحياة على الأرض.

ومثلاً، دون القمر يقول الباحثون إن الرياح تصير أفقية، وبالتالي سيكون من العسير انتصاب الأشجار، وتكوُّن الغابات. فالرياح الأفقية ستمنعها من التكوُّن. كما أن الهبوب القوي للرياح، بسبب غياب القمر، سيسيء بشدة إلى وظيفة السمع، والتي هي أنثوية بامتياز، وسيغدو تواصل البشر من خلال الأصوات صعبًا، وسيستعيضون عنها بالإيماءات. كما أن اليوم دون قمر ستكون مدته ست ساعات فقط، ومع حضور القمر ستكون مدته كما هي اليوم أربعة أضعاف أي أربع وعشرون ساعة، وهذا العدد هو الاثنا عشر مرتين، أي الاتحاد بين النصفين، الاثنا عشر والاثنا عشر وهو رقم في غاية الرمزية. وعلى هذا، فاليوم القصير على أرض بلا قمر سيؤدي إلى تغيير الساعات البيولوجية، وستوزع نشاطات اليوم الواحد على عدة أيام.

هذا، ومن جهة أخرى لن يكون هنالك كسوف ولا خسوف، وكليهما لهما معانٍ كونية، خصوصًا من حيث تضاعف فعل وتأثير الجاذبية، لأن الأرض والقمر والشمس تصير كلها على خط واحد فتضاف في حالة الكسوف جاذبية الشمس إلى جاذبية القمر، وهكذا، يمكن اعتبار هذه الذروة التي يبلغها القمر كإله وكقدرة كونية.

وبعبارة أخرى، القمر هو الحدُّ الفاصل بين الوعي واللاوعي أو الوعي الكوني، وبالتالي من يعثر على قمره الخاص، فقد قام بإنجاز على طريق تطوره الداخلي نحو الكوني أو الإلهي.

ولكن، على صعيد بسيط فالأمر يبدأ بالجنسي، الذي هو التعبير عن هذه الطاقة الكونية أو الطاقة الإلهية، أفلا تنتظم حياة الأرض من خلال إيقاعات القمر السرية، وألا ترفعها إلى مصافِّ الآلهة؟!

يقول جوزيف كامبل، أحد كبار دارسي الأساطير في القرن الفائت:

إذا نظرت إلى الأرض من على سطح القمر، فلن تجد أي تقسيم يدل على الأمم أو الدول. وهذا ما يجب أن يكون رمز الأسطورة القادمة. هذا هو الوطن الذي سوف نحتفي به، وهؤلاء هم الناس الذين علينا أن نوحِّد مصيرنا معهم.

فالرحلة الداخلية إلى الأعماق لا تبدأ إلا من خلال القمر، القمر الداخلي فينا. هل ثمة روعة أكثر من ذلك بوسعها أن تمنحنا إياه الأنثى في حياتنا؟!

إنها حارسة تطورنا الشخصي، في الزمان، وهي التي ترفعنا إلى الإلهي!

أليس القمر هو الدائرة في السماء؟!

وبالتالي، أليس هو الدائرة في حياتنا، أليست الدائرة هي رمز اللانهاية لأنه لا بداية لها ولانهاية، وبالتالي أليست هي رمز الكمال؟! أوَليس خاتم الزواج هو دائرة أيضًا؟! فالخاتم كما يقول كامبل يشير إلى أن الاثنين أصبحا واحدًا.

إذن، لطالما تساءلنا، من نحن؟!

ستظل الإجابة ناقصة دون الآخر، القطب الآخر، الأنثى في حياتنا، قمرنا الخاص، فلنتوجَّه إليه، ولنهمس في أذنها وفي فمها وفي فرجها، من أنا؟! ولاشك فالمرأة لا تعرف الإجابة إلا من خلال جسدها وروحها، فهما واحد، ستجيب بالنشوة والحب والجمال، وحينئذ ربما في ذروة النشوة نلمح بصيص نور فندرك من نحن؟!

نعم، إنها سوف تجيبنا... سوف تجيبنا... سوف تجيبنا...

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود