|
قطوف من شجرة الحياة 8
ليس من قبيل اكتشاف ما كان مستحيلاً اكتشافُ القول بأن المرء عندما يكون فاعلاً في مجتمعه، ويعرف إلى أين يريد الوصول، فإنه يتفوق، من وجهة نظر إنسانية على أقل تقدير؛ يتفوق على آخرين ممن ينتظرون قطف ثمار جهود الغير وهم جلوس فوق كراسيهم في حدائق منزلهم الفسيحة أو في مقاهي الأرصفة يفركون أيديهم فرحًا لأن ثمَّة من أراحهم من عناء تأمين ما يشعرون بحاجة إليه. في هذه الحالة، من الطبيعي أن يشبَّه هذا النوع من الناس، وهم كثر في زماننا هذا، بالطفيليات، هذه الكائنات التي تعيش على ضفاف الأنهر وحواف المياه الراكدة حيثما وجدت. ومع ذلك لا يدرك أحد من هؤلاء الناس أنه يحيا على هامش الحياة ولذلك سوف يغادرها بصمت كما ساكن البيت لم يغادر بابه قط فبقي غريبًا عن نفسه وعن الجوار حتى جاءت ساعة رحيله عن دنياه. * * * في يقين العديد من الناس أن السارق يسرق مالك وأما الكذاب فيسرق عقلك. ومن هنا تتنامى قيمة الصدق في الحياة، وتأخذ مكانتها اللائقة في سلم الأخلاق. ولأن الصدق قيمة عليا في الحياة، فإن ممارستها تتطلب جهدًا نوعيًا، إن صح التعبير، كما أنها تتطلب انتماء حقيقيًا إلى ذات صاحبها، بغض النظر عما يمكن أن يلحق به من أذى، ماديًا كان أم معنويًا. ومن هنا فإن قيمة الإنسان الصادق تكمن في ذاته، ويستشعر بينه وبين نفسه تحديدًا أنه حقًا حامل رسالة بشرى سارة يجوب بها طارقًا على الأبواب، فيها ما يفرح أصحاب البيت لأنها صادرة عن قلب يخضع لآلية عمل نبضاته لا عن لسان يخضع لإرادة من يملكه ويديره كما يشاء. * * * ثمَّة اجتهاد بين جملة الاجتهادات المطروحة على العقل البشري، منذ النشأة إلى اليوم، يفيد بأن القضايا التي تمسُّ واقع الإنسان تبقى قضايا نسبيَّة مهما حاول أحدنا أن يضع لها نهايات. فكما البداية هي المطلق كذلك هي النهاية، ومن هنا تتأتى الاختلافات في وجهات النظر بين الناس، وتحديدًا بسبب الزمان والمكان وتنوع الثقافات. وحين تتدخل الفلسفة في تفسير القضايا الإنسانية، غالبًا ما تأخذ أبعادًا غير مفهومة، ومع ذلك لا يمكن للمرء إلا أن يتخذ حيالها موقفًا. قد يكون الموقف الرفض وقد يكون القبول. ولهذه الاعتبارات تتباين الآراء بين الناس جملة أو تفصيلاً، وقد لا تلتقي بأي حال حتى آخر التاريخ، وعلى وجه التحديد حين تصير هذه الآراء، أو تلك، مصطلحات متداولة وثابتة مع مرور الوقت، وبذلك تصبح عند معتنقيها غير قابلة للتغيير أو التبديل. ولهذا الاعتبار غالبًا ما تصاب مجتمعات هنا أو هناك بحالة السكون في المكان، ويولد التخلف فيما الآخرون يمضون إلى الأمام. * * * الصراع من أجل البقاء قضية لها أبعادها بالتأكيد في حياة الشعوب والأمم كافة. هذه القضية من الصعوبة بمكان أن يتخطاها الإنسان في حياته، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو المعتقد، ذلك لأن الوجود، كمبدأ بالنسبة إليه، يبقى غاية لا وسيلة يمكن أن يراهن على مصداقيتها أم لا. ومن هنا نجد الأمم كافة، متقدمة كانت أم متخلفة، تدافع عن كياناتها مهما ضاقت حدودها الجغرافية، ذلك لأن البقاء يتطلب مستلزمات لا غنى عنها، وفي مقدمتها امتلاك قراراها الوطني. وفي التاريخ الإنساني ثمة أكثر من مثال على اندثار دول بسبب من فقدان قدراتها على أن تكون صاحبة قرارها الوطني، وبمعنى آخر بسبب من فقدان حريتها وقبولها بالتبعية للغير. * * * المرأة، هذه الأسطورة في حياتنا نحن الرجال تحديدًا، مهما حاول أحدنا الكتابة عنها فلن يتخطى موقع الواقف على شاطئ بحر أبعاده غير واضحة. تلك هي الحقيقة التي لا يمكن لأي منا نحن الرجال أن يكتشف تفاصيلها في زماننا هذا، وكذلك كان حال الرجال، فيما أعتقد، عبر العصور القديمة. في هذا السياق غالبًا ما نردِّد أن المرأة كحقيبة يدها لا يدري أحد سواها ما تحتويه. لقد قيل الكثير عن المرأة عبر التاريخ، وكانت على مدى السنوات والعصور الكائن الشاغل للكتاب والرسامين والموسيقيين والنحاتين، ومع ذلك بقيت سرًّا وستبقى كذلك، كما اعتقد ويعتقد مفكرو وفلاسفة العالم، حتى إذا بقيت امرأة واحدة فوق الأرض قبل نهاية الحياة عليها. * * * ثمة أناس كثيرون يسعون إلى اكتناز الثروة طلبًا للشهرة. وثمة أناس كثيرون أيضًا يسعون إلى تحقيق هدف الشهرة ولكن مع اختلاف الوسائل التي يستخدمونها خارج معادلة الغاية التي تبررها الوسيلة. والغاية، كما نعلم، تغدو عنوانًا للأنانية عندما تجنح لجهة إرضاء نزعة التملك لدى أصحابها. وفي هذا السياق مفيد أن نستذكر القول: ماذا يفيد الإنسان إذا ربح العالم وخسر نفسه؟ قد لا تنطبق هذه المعادلة على من يحتفظ بقرشه الأبيض ليومه الأسود، ولكن ما سرُّ هؤلاء الذين يتجاوزون هذا الحدَّ بمسافات غالبًا لا ترى أو لا تفهم الغاية من تجاوزها؟ إن الشهرة التي يأتيها صاحبها من هذا الباب حصرًا، بمعنى من باب اكتناز الثروات الكبيرة بأية وسيلة كانت، تراها قادرة على أن تكتسب صفة القيم الخالدة؟ في التاريخ المعاصر أغنياء كبار، وإلى جانبهم أيضًا أدباء وفنانون وعلماء كبار، فمن منهم يا ترى سيذكرهم التاريخ في المستقبل البعيد؟ على سبيل المثال: فلان الثري أم فلان الحائز على جائزة نوبل في مجال اختصاصه؟ * * * في سجل البشريَّة ثمة شرائح من الناس برغم انقضاء مئات السنوات على رحيلهم فإن أسماءهم تتردد على الألسنة دائمًا، كمثال على صانع الخير أو صانع الشر. وسواء أكان المنتمون منهم إلى الطرف الأول أو الطرف الثاني من هذه المعادلة لا بد أن يصعب إحصاؤهم. إن ثمة أسماء تتردد إلى يومنا هذا، ولكن باشمئزاز رغم مرور الزمن على غياب أصحابها، وذلك على غرار الأسماء التي يوصف أصحابها بالجبروت والطغيان الذين كان دأبهم إرضاء نزوة السادية لا السيادية لديهم. إن أوراق التاريخ شاهدة على أسماء جبابرة وطغاة لم يكن هدفهم سوى استعباد البشر وضمهم إلى ممتلكاتهم كما تضم الأبقار إلى حظائرها عنوة، ولهذا الاعتبار لم يكونوا يومًا في موضع الإكبار كما الذين منحوا البشرية قناديل أضاءت، ولا تزال تضيء، الدروب أمام الأجيال التي تلت رحيلهم عن دنياهم، ومن هنا ستبقى أسماؤهم تتردد بيننا، دليل حضورهم الدائم أحياء في الذاكرة البشرية وعلى مدى كل الأزمنة الآتية. * * * أرضنا التي تموج بما تحتضنه من كائنات بشرًا كانت أم حجرًا أم نباتًا، كثيرًا ما يصيبها العقم بفعل التعدي على تلك الكائنات، وبذلك غالبًا ما تفقد الجبال والغابات والبحار والسهول جمالياتها التي تقرِّبها من الناس. وقد لا يصارح أحدنا نفسه حول سبب هذا العقم لاعتبارات تتصل بمتطلبات أناه المنغلقة على مصالحها الذاتية. وفي هذه الحالة تنقلب الحياة اليومية في بعض المجتمعات إلى ما يشبه عملية الاجترار، حيث الأيام تكرر نفسها وتفقد طعمها، وبذلك تقارب حالة الدوران في المكان بحثًا عما يملأ المعدة ويروي عطش الغريزة لا أكثر، مثله مثل دوران البقرة حول حجر الطاحونة. ولأن حالة كهذه تزول مع زوال حاضنها، فإن ما يصمد على مدى السنوات والعصور هو ما يتصل بنتاج الفكر أولاً وقبل كل شيء آخر، لأن الفكر هو الأبقى على مدى السنوات والعصور بوصفه صانع الحدث الذي يعطي للحياة، في نهاية المطاف، طعمها وقيمتها وعوامل استمرارها وديمومتها إلى أمد غير محدود. ولذلك، كما نعلم ويشهد تاريخ البشريَّة، عاشت أسماء وغابت أسماء. *** *** ***
|
|
|