العمل الداخلي والعمل الخارجي

 

ديمتري أڤييرينوس

 

أسوأ الأزمنة أفضلها.
تشارلز ديكنز

مَن يرَ اللاعمل في العمل والعمل في اللاعمل – ذاك المرء حكيم بين البشر: إنه واحد في ذاته [يوگي] وقتما يؤدي العمل على التمام.
مَن يتخلَّ تمامًا عن التعلق بثمار أعماله، راضيًا أبدًا، حرًّا من كل اتكال، – ذاك المرء، مع أنه منخرط بكلِّيته في العمل، لا يعمل في الحقيقة شيئًا.
بهگڤدگيتا، 4: 18، 20

عالم اليوم من الاختناق بالجهل والتعصب والحقد والعنف بحيث يبدو للناظر، للوهلة الأولى، أنه مُعاصر لـ"أسوأ الأزمنة". غير أن الظلمة، حين تحْلَوْلِكُ، فهي مناسَبة مثلى يغتنمها طالبُ الحق للإصرار على وفائه للحقيقة – تلك الحقيقة التي مافتئت بمنزلة الشمس من حياتنا والتي يحتجب نورها (أو يبدو كأنه يحتجب) من جراء أوهامنا الأنانية، لكنه لا ينطفئ أو يخبو أبدًا. فالسحُب التي تحجب نور الشمس زائلة لا محالة، وسرعان ما يسطع هذا النور فيبددها ويبث الحياة والحركة في الموجودات كافة. إن إخلاصنا للحقيقة يتشدد بمعرفة الطبيعة الزائلة للظلمة والطبيعة الدائمة للحقيقة – معرفتنا الاختبارية الفعلية، لا الذهنية. لذا فإن أسفار الأوپنشاد تقول بأن الحق وحده ينتصر في النهاية، وليس الوهم. جاء في الـبرهَدارنْيَكا أوپنشاد:

من الوهمي قُدني إلى الحقيقي
من الظلمة قُدني إلى النور
من الموت قُدني إلى الخلود

تبدو قوى الظلمة، في زماننا، من القوة والهول بحيث إن الطالب الجدي حتى يميل إلى الشعور بأن عمله غير فعال. لذا لا بدَّ للمرء من التفكر في الأمر كل يوم ومن تذكير نفسه بأن الوهم لا يستطيع أبدًا أن ينتصر على الحق. هل هذا من قبيل التمني وحسب؟ جزمًا لا عند الطالب الذي استيقظت بصيرته عبر الانتباه والتعلم الدائمين وعبر درس الحكمة الخالدة Philosophia Perennis المتمثلة أساسًا في معرفة النفس.

إن أحد أوجُه مهمة مدرسة روحية حقيقية هو صون البصيرة الحية بوجود حقيقة أوسع من نطاق الفكر المحدود – صونها بأحداق العيون! – وشحذ الذهن بالإيمان بالمعنى الروحي للكلمة، – الإيمان الذي "ينقل الجبال"، على حدِّ قول المعلم الناصري، – لا بمجرد الاعتقاد الفكري الببغائي المحدود. يقول ألدوس هكسلي في روايته الرائعة جزيرة:

الإيمان شيء مختلف جدًّا عن الاعتقاد. الاعتقاد أخذٌ منهجيٌّ مبالَغ فيه لكلمات غير محلَّلة على محمل الجد. [...]
الإيمان، على العكس، لا يمكن أن يبالَغ أبدًا في أخذه على محمل الجد. فالإيمان هو الثقة المبرَّرة تجريبيًّا بقدرتنا على معرفة مَن في الواقع نحن. [...] إيمانَنا كفاف يومنا أعطِنا اليوم، لكنْ نجِّنا، اللهم العزيز، من الاعتقاد.

فبإبقاء هذه البصيرة متقدةً، وبالثبات على هذا الإيمان الحي، تنبجس الطاقة الروحية الضرورية للعمل على صعيد الخارج، بكل التناغم والفرح الناتجين عنه.

إنه لميل شائع أن يُظن بأن العمل على الصعيد المادي وحده فعال؛ إذ كثيرًا ما نميل إلى تناسي أن جميع الأفعال والمبادرات المادية ليست إلا انعكاسًا للطاقات النابعة من المستويات الباطنة، غير المرئية، للوجود. لذا فإن الـبهگڤدگيتا تنصح بفحص متأنٍّ عن الدوافع والنوايا الخفية بقصد التمييز بين العمل والقعود عن العمل. قد يظهر العمل بمظهر القعود عن العمل أو العطالة، حتى اللحظة التي يتخذ فيها شكلاً ملموسًا ويؤثر في الحياة المادية. فلا ننسينَّ أن بذرة العمل الخلاق كثيرًا ما تبقى كامنة في الوعي قبل أن تنتش، شأنها شأن الموسيقى الرفيعة التي يجب أن تسبقها إبداعات متناغمة في دخيلة وعي الفنان نفسه قبل أن تستطيع الأذن المادية سماعها.

إن تفعيل الطاقة على الصعيد الداخلي من أجل تحييد شروط العالم الحالي المزرية يجب ألا يشبه نوعًا من الهروب إلى عالم مثالي من ابتداع شطحات الفكر وشرود المخيلة. فهذا، في كل مدرسة روحية جديرة بهذا الاسم، يجب أن يكون مركوزًا في القلب من العمل: توليد طاقات داخلية تتصف بصفات الحكمة والمحبة والغيرية، لا "تحيِّد" شروط العالم تلك، بل بالأحرى تستفيد منها. وحين يتم هذا العمل بصدق تزهر النتائج على صعيد الخارج وتثمر.

لقد طال الوقت بالأجيال الحديثة للاعتراف بأن المحبة تحث النباتات على النمو والأبقار على درِّ اللبن والناس على الابتسام. فحين يوجد المناخ الصحيح يزهر الفرح والجمال – ابنا المحبة – على الصعيد الخارجي ويتفتحان في القلوب. ورويدًا رويدًا، مع العمل الدءوب عبر العالم، تتضافر القوى الروحية المنبثقة من المستويات العميقة للوجود ويعزز بعضها بعضًا، مثل السواقي يندمج بعضها في بعض لتشكيل نهر عظيم.

التوازن ضروري لعمل الخير. وهذا التوازن يتضمن توازنًا بين العمل الداخلي والعمل الخارجي. فحين يبالَغ في الاهتمام للعمل الخارجي، وذلك بالإعلاء من شأن المردود من أجل المردود، قد ينتهي بنا الأمر إلى العمل كأية شركة أو مؤسسة دنيوية فعالة – ليس بالقدر نفسه من الكفاءة، لكن بالطموح إلى الاقتراب من هذا الهدف. وعندئذ لا يتورع الناس عن الصعود على أكتاف بعضهم بعضًا حبًّا بالظهور وعن تجاهُل مشاعر بعضهم بعضًا وإسهاماتهم. لكننا عاينَّا بالفعل أن هذا النمط من السلوك الذي يشدد على المردود ويستمد فخرًا من الكفاءة والفعالية، بصرف النظر عن الدوافع والنوايا، هو سلوك غير فعال في النهاية لأنه، بتجاهله المشاعر الإنسانية، يعرقل أي تعاون حقيقي.

من ناحية أخرى، فإن التشديد على الأوجُه الداخلية للعمل وحدها، من غير اعتبار للتوازن المذكور أعلاه، من شأنه أن يعزل الفرد و/أو الجماعة عن باقي العالم. ومنه الإخفاق الذريع في تبليغ منظور جديد إلى الحياة إلى جماعات أوسع من الناس: عندئذ يجد الطلاب الباب موصدًا دونهم ويعودون أدراجهم خائبين. المطلوب، إذن، هو التوازن – على ألا ننسى أن الاختبار على الصعيد العملي يفقد معناه الحقيقي ما لم يتجذَّر في التحقق الداخلي أولاً بأول.

على كل ما نعلم ونتعلم أن يوضع على محكِّ العلاقة مع الخارج؛ وإلا فإنه يتبدد ويذهب أدراج الرياح، والفطنة المكتسبة تعدم أي عزم أو تأثير. فقط عندما نستطيع مجابهة تحديات محيطنا الخارجي المباشر يصير بوسعنا أن نستجيب لتحديات العالم الكبرى إجمالاً. وبالتالي، فإن على العمل الداخلي والعمل الخارجي، البصيرة الداخلية والعلاقة مع الآخرين، التأمل والخدمة، أن تترادف مَثنى مَثنى.

فلنعد إلى ما استهللنا به هذه الافتتاحية الموجزة: الأزمنة الصعبة هي خير الأزمنة لمن نذروا أنفسهم للحياة الروحية، أي لخدمة الإنسان في الإنسان. فالعالم كما هو عليه تحدٍّ لا يهادن ولا يلين لسعينا في تحقيق الحكمة والرحمة وفي وضع القيم الأزلية موضع التطبيق في حياة كل يوم؛ ولا مناص لمن يأخذ هذا التحدي مأخذ الجد من أن يستجيب له بكل قواه – وإلا فإن البشرية مواصلةٌ سيرها حتمًا نحو كارثة عالمية ماحقة.

*** *** ***

سماوات

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود