|
جون تافنر... أنغام الذكر والانجذاب والإشراق الديني
ما من حدود للفن لو أجاز المرء للروح القدس الدخول إلى سريرته. وتكمن الوسيلة الوحيدة لدخولها في تذويب الذات، أقصد بذلك الذوبان الكامل بمعناه الحرفي، والوصول إلى نقطة عدمية حيث يستحيل المرء عديم القيمة، وعاجزًا عن فعل أي شيء على الإطلاق. عندها فقط تتسلَّل الروح القدس بوداعة إلى داخل المرء لتفعل فعلها. في قوله هذا، يختزل المؤلف الموسيقي الإنكليزي المعاصر جون تافنر (1944) الهيكلية الأساسية لخلفية ومضمون وشكل مؤلفاته الموسيقية، المفعمة بالأجواء الدينية، والمقاربة بشكل حداثي. غالبًا ما يشير تافنر في المقابلات الصحافية إلى افتقار موسيقى القرن العشرين إلى الروحانية والمقدسات، وينتقد بشدة كثرة انتشار الولع بالتأليف الموسيقي المعقد التركيب. ومع أن مؤلفاته ليست على قدر من بساطة التأليف، يتفرد تافنر حقًا بخلق موسيقى تعنى ببثِّ مشاعر وجدانية تدفع المستمع نحو الارتقاء بأحاسيسه إلى أجواء بعيدة تتجاوز المشاغل الدنيوية. و"الارتقاء" كلمة أساسية في أعماله، حتى على صعيد التأليف الموسيقي؛ فاللحن عند تافنر في حالة لولبية صاعدة أبدًا لكن مهددة بالسقوط، تبدأ ساكنة لترتقي عاليًا شيئًا فشيئًا وصولاً إلى الذورة في زخم صاخب لتجدِّد تخبطها في حركة هابطة وصاعدة. أعماله المعاصرة هي استمرارية للتقليد الموسيقي الذي ساد طويلاً قبل حضور بيتهوفن وقلبه جميع المعايير الموسيقية بشكل جذري. ينتمي تافنر إلى زمن لم تكن فيه لأنا الفنان أو همومه الشخصية وتمثيلاتها أهمية تذكر، عصرٍ كان همُّ الموسيقي فيه التبجيل، بما اعتبرته البشرية مطوَّلاً الخالق، وما رافقه من تضليل ديني عن خلاص وطهارة وافتداء... ولكن خلافًا لتلك الحقبة، وما صاحب أجواء الموسيقى الدينية من بهجة وغبطة، تلوح أعمال تافنر كأنها نابعة عن مؤمن قلق يهوله ما يسود الإنسانية من فوضى وأذية وخراب. ويجوز القول: لو قرر دوستويفسكي تأليف الموسيقى بدلاً من الكتابة لجاءت موسيقاه باضطراب وروعة أعمال تافنر تمامًا. وكما على المرء، الملحد أقله، أن يتغاضى عن المضمون الديني لأعمال مونتفردي وباخ وهاندل وغيرهم، ويتجاوز إسراف المفاهيم الإنسانية المسيحية في كتابات دوستويفسكي، كذلك الأمر مع تافنر، يختبر المستمع نفسًا موسيقيًا شديد القوة في التأثير وأجواءً موسيقية أصيلة وغير مألوفة، بمجرد أن يتخطى المرء نفوره الشخصي من المسائل الدينية ومضمون الأعمال اللاهوتية. منذ البداية، استمالت النصوص الدينية اهتمام تافنر الشاب وأنهمك بتمثيلها موسيقيًا. ومع عمله الحوت The Whale (1965 - 1966)، حاز تافنر لأول مرة على اهتمام الجمهور العريض الذي اجتذبته روح العمل النضرة المنسجمة مع مفاهيم الحركة الموسيقية الطليعية الحديثة. وفيه اعتمد تافنر تقنية الكولاج الموسيقي والترتيل والإيحاءات الموسيقية الرومانسية والنفس الشعائري لمؤلفات سترافينسكي. وفي العملين اللاحقين: قداس الموتى السلتي The Celtic Requiem (1969)، والطقوس الذروة Ultimos ritos (1969 - 1972)، يتبلور أسلوبه الخاص ويتبنى كاملاً منحى الطقوس الدينية والأجواء الصوفية الروحانية في مؤلفاته. الأرثوذكسي سنة 1977، تحتضن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تافنر ويصبح عضوًا فيها، مما يقلب مجرى مسيرته الموسيقية، فينغمس في مراجعة النصوص اللاهوتية اليونانية والتراتيل الأرثوذكسية، ليتخلى بعدها عن معظم مفاهيمه الموسيقية الحديثة، حتى تلك المرتبطة بالموسيقى الدينية الغربية المتمثلة بموسيقى باخ وغيره، والموسيقى الإسبانية القرن وسطية؛ ليعمل على مؤلفات لاهوتية أكثر بساطة على صعيد التأليف الموسيقي، وأكثر إنشغالاً بالهموم الروحية للإنسان. وبالرغم من تأليفه عددًا من المقطوعات الموسيقية البحتة، غلب النص على مؤلفاته نتيجة اهتمامه الفائق بنقل الأفكار الدينية للكنيسة الأرثوذكسية. بحسب تافنر: بقدر ما تكف تقاليد الموسيقى الغربية الإلمانية عن إثارة إهتمامي، أجد نفسي منقادًا صوب الموسيقى الهندية والصوفية وموسيقيين من طراز عازف الساكسوفون الأميركي جون كولترين. والأخير، وقد اعتبرته كنيسة السود الأرثوذكسية قديسًا، يلعب الموسيقى بإنتشاء وجداني لا يختلف عن أداء التراتيل. انطون ويبرن هو الآخر نشهد في موسيقاه الكثير من النشوة الوجدانية، لا أحد يتطرق إلى العنصر الديني في مؤلفاته. إن طلب مني أن أسمِّي مؤلفًا بارزًا في القرن العشرين فإنه ويبرن بالتأكيد. الجدير بالذكر، يؤخذ على تافنر إهماله مفاهيم الموسيقى الطليعية، وتشديده على الأمور اللاهوتية في موسيقاه مما أدى إلى مقاربة موسيقية مقولبة كأنها معادلة ثابتة تتكرر في معظم أعماله. ما لا شك في صحته، أن أحدًا غيره لم يتجرأ على خوض غمار تجربته الموسيقية الغنية أو التعمق في الأوجه الروحانية لنوع موسيقي خارج عن موضة العصر بشدة، واجتذاب الجمهور الحديث إلى موسيقاه رغم ذلك، جمهور غالبًا ما يشعر بالغربة من الموسيقى الكلاسيكية الحديثة وينفر منها. في آخر أبرز أعماله الحديثة، والتي سجلتها في السنوات الأخيرة شركة الاسطوانات هارمونيا موندي harmonia mundi، الشروق السرمدي Eternity's Sunrise (1998)، يشير تافنر في كتيب الإسطوانة: إن جميع كلمات وألحان هذا العمل تتوق إلى الإرتقاء إلى مستوى كلمات القديس اسحاق السوري وهي: "عندما نبلغ الحب نكون بذلك قد بلغنا الله. بهذا ينتهي دربنا ونعبر إلى جزيرة مكانها ما وراء هذا العالم". يبدأ الشروق السرمدي بمقطوعة تحمل اسم الإسطوانة نفسه، وتفتتح مغنية السوبرانو باتريسيا روزاريا هذا العمل بهدوء شديد، لتستلب المستمع بصوتها بدءًا من اللحظة الأولى على التسبيح، وتختفي معاني النص، المقتطف من قصيدة لوليم بليك، لتتحول مع أداء روزاريا إلى أصوات أثيرية تبتعد عن حدود المكان والزمان المألوفين، ويتوالى اللحن نفسه لمرات أربع في حركة تراتبية ارتقائية، وفي كل مرة يستعيد فيها اللحن نفسه، يتصاعد صوت روزاريا عند نهايته بمصاحبة طنين الأجراس، ويصدح الصوت الأوبرالي عاليًا ليبلغ أقصى الحدود الممكن بلوغها من الارتفاع والامتداد في الزمن، ليعاود هبوطه ويستعيد مسار المقطوعة التي يكتنفها الغموض. وتصاحب الآلات الموسيقية، التي تعود صناعتها إلى عهد الباروك، الغناء بالمعنى الحرفي للمصاحبة، وتشكل صدىً لكلٍّ من اللحن المغنى وتلويناته معظم الوقت. اللافت في غناء روزاريا عفويته وبساطته بالرغم مما تتطلبه تأدية الأغنية من تحكم شديد بتقنية الغناء المعقد. وهي، عند غنائها، كأنها ليست هنا؛ فهي ترتحل بصوتها بعيدًا لترتفع عاليًا عن الأمور الدنيوية كأنها مستغرقة في نوبة هلوسة سريالية. وتبلغ المقطوعة حدًّا من الجمال يستحيل ما يتلوها من مؤلفات أقل قوة مما هي عليه في الواقع حقيقة. يستمر العمل بمجمله بالهدوء ذاته مع فارق في الأجواء التأملية، ويغلب على المقطوعات طابع كنائسي وجنائزي باعتماد الترتيل مباشرة في الغناء، مما يخلف السكون في باطن المستمع. في المقطوعة الرابعة سافو: مقتطفات شعرية غنائية Sapho: Lyrica Fragments ينقلب المناخ الوجداني والهادئ للإسطوانة كليًا، ويثير تافنر الغرابة في اقتباسه الموسيقي للنص الشعري العاطفي السحاقي النفس. وفي المقطوعة غرائبية متوترة وقلقة لا تجد انعكاسها بتاتًا في النص ولا تعبِّر عن روحه. ويتعمَّد تافنر استخدام الغناء الثنائي لكل من روزاريا وجوليا غودنغ لإضفاء جو أنثوي يتقارب من القصائد المغناة باليونانية حسب قوله. كما تتآمر الآلات لخلق أفق اغريقي كأنه مساحات جردة لانهائية، وخالية من حسية المشهد الإغريقي ببحره وجزره، حيث تتخبط المشاعر الإنسانية عبثًا. يخلق تافنر مقطوعة باهتة في التأثير، بالرغم من أنها أكثر المقطوعات تعقيدًا، لربما يعود ذلك إلى فرط صدم المستمع بالتصاعد الفجائي الحاد لأصوات الآلات الموسيقية، أو استخدام ايقاع غير ثابت يمط بين صمت تام تارة، وتباطؤ متمغط تُمزِّقه السرعة من دون سابق إنذار تارة أخرى، أو إلى اختيار غناء متكاسل يهبط من نوتة إلى أخرى لا تنسجم سمعيًا مع سابقتها. المسُّ الديني كسوف كامل Total Eclipse (2001)، ويعتبره تافنر تكملة لـ الشروق السرمدي، عمل اوركسترالي غنائي ضخم، مشغول على أيدي أفضل موسيقيي اليوم، أبرزهم: عازف الساكسوفون جون هارل ومغنية السوبرانو باتريسيا روزاريو وكورس كلية أوكسفورد الجديدة بقيادة بول غودوين. يبدأ العمل مذكرًا بافتتاحية مقطوعة هكذا تكلم زرادشت لرتشارد شترواس، لكن بصخب هائل وأكثر ديناميكية، تضج فيه الطبول وأصوات الترمبون بمصاحبة أزيز خافت لآلات الكمنجة لتشكِّل جميعها خلفية فوضوية لصداح الساكسوفون، المدفوع إلى أقصى حدود النشاز، والذي ينبلج بأصوات نافرة وبطبقات مختلفة في صراخ حاد، مما يولد حالة من التشويش الموسيقي المنظم، لافت بمتانته وقدرته على شدِّ اهتمام المستمع بمناخه الأشبه بالقيامة أو بساحة تضج بكارثة طبيعية. وصف تافنر هذه المقطوعة بالتالي: يبدأ العمل مع صلب المسيح، وبالرغم من أن الجو الموسيقي مرعب وصاخب، لكنه مفعم بالإشراق لأن المسيح كان قد تغلب على الموت بوفاته. مع فن بتجريد الموسيقى، لا يتلقف المستمع أيًّا من طموحات تافنر الدينية السردية أو محاولته خلق حبكة درامية من خلال الموسيقى، ويستمر العمل على هذا النحو وتحميله الأحداث الدينية من دون أن ينجح بمهمته على الإطلاق. لكنه عمل موسيقي بديع جدًا وشديد الغنى بما يتخلله من أصوات، نفترضها نتيجة المفاهيم الثقافية وتقاليدها بأنها ملائكية الطابع، واتحاد تقنية الغناء الأوبرالي بالترنيم الديني البيزنطي، التي يصاحبها توزيع موسيقى مقتصد سواء بعدد الآلات الموسيقية أو بتداخلها مع أصوات المغنين. بعد المقدمة الصاخبة يسود العمل هدوء صامت وقلق يرتفع فيه الصوت الغنائي المنفرد مع أصوات الكورس كستارة خلفية تارة، والساكسفون في عزف ذي نفس شرقي شاعري تارة أخرى، لتعاود الآلات الوترية تمغطها معظم الوقت في تشديد على مناخ المقطوعة المضطرب، ومع ذلك، التأملي. ولا ينكسر هذا الفضاء الروحاني الساكن سوى من وقت إلى آخر فيعلو الكورس، فجأة، في أداء مشعوذ يشبه ما يصيب بعض الجماعات الدينية لدى تعرضها لمسٍّ هستيري، أو بمعاودة المقدمة القلقة الحضور من جديد لتنبِّه المستمع وتوقظه من انجرافه في هدوء العمل. *** *** *** |
|
|