الإسلام وتحدي الديمقراطية
هل من الممكن أن يكون لحقوق الأفراد والسيادة الشعبية جذورٌ في الإيمان؟

 

خالد أبو الفضل[1]

 

حين كتب فقيهٌ مسلمٌ منذ بضعة قرون في موضوع الإسلام والحكم، كان عليه التمييز بين ثلاثة أشكال للنظم السياسية. الأول وُصِف بالنظام الطبيعي كطبيعة الدولة البدائية، عالمٌ غير متمدن وفوضوي حيث يسود الباقين من كانت له القوة. بدلاً من القانون هنالك العرف، بدلاً من الحكومة هنالك شيوخ القبائل الذين يُطاعون طالما احتفظوا بالقوة. النظام الثاني: المحكوم من أمير أو ملك كلمته هي القانون. بما أن القانون مفروض بالإرادة التعسفية للحاكم ويجب على الناس أن يخضعوا له إما لحاجتهم إليه أو بسبب القمع فأن هذا النظام أيضًا استبدادي وغير شرعي. النظام الثالث، الذي هو الأفضل، هو نظام الخلافة المبني على قانون الشريعة، الذي هو تجسيد للقانون الديني الإسلامي، المبني على القرآن الكريم وسنة الرسول (ص). قانون الشريعة تبعًا للفقهاء المسلمين يلبي معايير الشرعية والعدالة ويعامل الحاكم والمحكوم على قدم سواء. ولأنه مبنيٌ على حكم القانون فإنه يمنع الإنسان من امتلاك سلطة تعسفية على إنسان غيره. نظام الخلافة كان يعتبر أفضل من غيره. بمزاوجته بين حكم القانون والسلطة المقيدة، اعتنق الفقهاء المسلمون عناصر أساسية للديمقراطية الكلاسيكية المعاصرة. السلطة المقيدة وحكم القانون ليسا كل العناصر المطلوبة لإدعاء الشرعية اليوم. القوة الأخلاقية للديمقراطية تكمن في فكرة أن مواطني الأمة هم السلطان، وفي الديمقراطيات التمثيلية المعاصرة يعبرون عن هذا السلطان بانتخابهم ممثلين. في الديمقراطية الشعب هو مصدر كل القوانين، والقانون يعمل على ضمان الحقوق الأساسية التي تحمي مصالح ورفاه أفراد السلطان.

بالنسبة للإسلام تمثل الديمقراطية تحديًا هائلاً. بالنسبة للفقهاء المسلمين السلطة الملكية غير شرعية لأنها تستبدل سلطة الله بسلطة البشر. لكن القانون الصادر عن سلطان الشعب يواجه نفس المشكلة. في الإسلام الله هو السلطان الوحيد والمصدر الوحيد لشرعية القانون. إذن، هل من الممكن أن يُعتَرف بالمفهوم الديمقراطي لسلطة الشعب من قبل الفهم الإسلامي لسلطان الله؟

الإجابة على هذا السؤال مهمة بشكل استثنائي، لكنها أيضًا صعبة بشكل استثنائي أيضًا، بالنسبة لأسباب سياسية ومفاهيمية. على الصعيد السياسي، يجب القول بداية أن الديمقراطية تواجه العديد من العقبات في البلاد الإسلامية، السياسات الإستبدادية التقليدية، تاريخ من الحكم الإستعماري الإمبريالي، سيطرة الدولة على الاقتصاد والمجتمع. أهدف للتركيز على ذلك السؤال كبداية للنقاش حول احتمالات الديمقراطية في العالم الإسلامي.

المشكلة المفاهيمية الأساسية هي أن الديمقراطية المعاصرة تطورت عبر القرون ضمن سياق مختلف لما بعد الإصلاح وضمن توجهات السوق لأوروبا المسيحية. هل يكون ذا معنى البحث عن نقاط التقاء ضمن سياق مختلف بوضوح؟ جوابي يقوم على فرضية أن الإسلام والديمقراطية محددين في مجال قاعدة القيم الأخلاقية والموقف الإلتزامي لأتباعهما، وليس من طريقة تطبيق هذه القيم والإلتزامات. إذا دققنا في القيم الأخلاقية الأساسية، أعتقد أننا سنرى أن تراث الفكر الإسلامي السياسي يتضمن امكانيات تفسيرية وتطبيقية قابلة للتطور إلى نظام ديمقراطي. للدقة، فإن هذه الاحتمالات النظرية قد تبقى بعيدة عن التحقيق بدون إرادة وموقف أخلاقي ورؤية طموحة، من غير الممكن وجود ديمقراطية في الإسلام. لكن بالنسبة للمسلم الذي يعني له الإسلام مرجعية السلطة الأخلاقية، من الممكن أن يقتنع أن الديمقراطية هي خير أخلاقي وأنه ليس من الضروري أن يهجر الإسلام للوصول إلى هذا الخير.

الديمقراطية والسلطان الإلهي

على الرغم من أن الفقهاء المسلمين قد ناقشوا النظام السياسي فأن القرآن نفسه لم يحدد أي شكل خاص للحكم، غير أنه حدّد قاعدة للقيم السياسية والإجتماعية هي محور للنظام السياسي الإسلامي. ثمة ثلاث قيم لها أهمية خاصة: السعي للعدالة عبر التعاون والمساعدة لمتبادلة "يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا أن أكرمَكم عند الله أتقاكم" (سورة الحجرات، الآية 13). إرساء نظام حكم غير استبدادي، قائم على الشورى. وإرساء التراحم والتعاطف في العلاقات الإجتماعية، "قُل لِمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمةَ ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون" (سورة الأنعام، الآية 12)، "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين" (سورة الأنبياء، الآية 107)، "وأنه لهدىً ورحمةٌ للعالمين" (سورة النمل، الآية 77). وهكذا، كلٌ على قدم المساواة، يجب على المسلمين اليوم أن يتوافقوا على أكثر أشكال الحكم فعالية بما يساعدهم على تعزيز هذه القيم.

مسألة الديمقراطية

لعدة اعتبارات يُفتًرضُ أن الديمقراطية وخصوصًا الديمقراطية المؤسساتية التي تحمي الحقوق الأساسية للأفراد هي الحل. فكرتي الرئيسة (ستأتي الأفكار الأخرى لاحقًا) أن الديمقراطية – بتأكيدها على الحقوق المتساوية للجميع في التعبير وإنشاء الجمعيات والتصويت- تقدم إمكانيات عظمى لتحقيق العدالة وحماية الكرامة الإنسانية بدون أن تجعل الله مسؤولاً عن الظلم وإهانة إنسان من قبل آخر. الفكرة القرآنية الأساسية هي أن الله أعطى للإنسانية جمعاء نوعًا من الإلوهية بجعل كل الناس خلفاء الله في الأرض: "إذ قال ربك للملائكة أني جاعلً في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون" (سورة البقرة، الآية 30). الإنسانية مسؤولةٌ لكونها خليفة لله في الأرض عن جعل العالم أكثر عدالة. بتأكيدها على التساوي في الحقوق السياسية لكل البالغين، تعبر الديمقراطية عن الوضع الخاص للإنسانية ضمن خلق الله وتمنعهم من التخلي عن المسؤولية.

بالطبع فإن خلفاء الله لا يشاركونه كماله وإرادته وقضاءه. الديمقراطية المؤسساتية تعترف عبر تقديس بعض المعايير الأخلاقية في الوثائق المؤسساتية بأخطاء القضاء والإغراءات والرذائل التي تتواطؤ مع القابلية الإنسانية لارتكاب الخطأ، المعايير التي تعبّر عن الكرامة الإنسانية للأفراد. كي نكون دقيقين، الديمقراطية لا تضمن العدالة، لكنها ترسخ قواعد لبلوغ العدالة وممارسة المسؤولية الكاملة التي أعطاها الله لكل منا. من الطبيعي أن يكون لبعض الأفراد سلطات أكثر من غيرهم في الديمقراطية التمثيلية، لكن النظام الديمقراطي يجعل هذه السلطات مسؤولة أمام الجميع وهكذا تقاوم أن تمنح السلطة نفسَها حصانة أمام المحاسبة. مطلب المحاسبة هذا متوافق مع الإلتزام بتحقيق العدالة في الإسلام. إذا لم يمتلك النظام السياسي آلية لمحاسبة الظالم فالنظام نفسه ظالم بغض النظر أكان الظلم قد وقع أم لا. إذ لو لم ينص قانون العقوبات على عقوبة للإغتصاب فالقانون غير عادل، سواءً أوقع الجرم أم لا. إن خير أخلاقي بحد ذاته أن تؤمن الديمقراطية طريقة للمعالجة عبر مؤسسة الانتخاب وفصل السلطات وضمان التعددية. لدينا الآن حالة ديمقراطية مؤقتة، مؤقتة لأنها مؤسسة على الوضعية الخاصة للإنسانية ضمن خلق الله. إنها مؤقتة لم تنظر إلى التحدي الكبير، كيف يمكن أن يتوافق القانون الأعلى للشريعة المبني على سلطان الله مع الفكرة الديمقراطية أن الناس والسلطة من الممكن أن يكونوا أحررًا في عدم مراعاة قانون الشريعة.

الله والسلطان

شعار السلطان السياسي لله (حاكمية الله) رفعه مبكرًا في التاريخ الإسلامي جماعة عرفت بالحرورية (عُرفوا فيما بعد بالخوارج)، المناصرين السابقين للخليفة الراشد الرابع على بن أبي طالب، انقلبت الحرورية ضده عندما رضي أن يعرض خلافه السياسي مع الحزب السياسي المناوئ الذي يقوده معاوية للتحكيم. علي نفسه رضي بالتحكيم على شرط أن يكون مقيدًا بالقرآن وأن يلتزم تمامًا بالشريعة. لكنّ الخوارج الأتقياء والطهرانيين والمتزمتين رأوا أن قانون الله يدّعم عليًا، لذلك رفضوا التحكيم لأنه أساسًا غير شرعي، ولأنه في الحقيقة تحد لإرادة الله. طبقًا للخوارج فأن تصرف علي كان يسعى لتسوية مخالفة لسلطان الله بتحويله صناعة القرار لعوامل بشرية. أعلنوا عليًا كافرًا بالله، وبعد محاولات فاشلة للوصول إلى حل سلمي قاموا باغتياله. بعد مقتل علي استحوذ معاوية على السلطة ليصبح الخليفة الأموي الأول.

الروايات عن الخلاف بين علي والخوارج تعكس التوتر الذي لا تخطئه العين حول معنى الشرعية والمفهوم الضمنى لحكم القانون. في إحدى الروايات يتهم الخوارج عليًا بقبول التحكيم وحكم الرجال بدلاً عن التقيد بحكم الله.

فلمّا أن امتلأ من قرّاء الناس الدار، دعا بمصحف عظيم فوضعه عليّ (رضي الله عنه) بين يديه فطفق يصكه بيده ويقول: أيها المصحف حدّث الناس، فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأله عنه، أنما هو ورق ومداد، ونحن نتكلم بما روينا منه فماذا تريد؟[2]

هكذا روايات عرضة لتفسيرات متعددة، لكن هذه تركز على أهمية الرؤية السطحية لشعار حاكمية الله التي تقرر مصير البشر. من الملاحظ أن شعار الخوارج الذي ناضلوا لأجله "لا حكم إلا لله، أو الحكم للقرآن" متطابق تقريبًا مع شعار المجموعات الأصولية المعاصرة. مع مراعاة الظرف التاريخي، فإن رفع الخوارج للشعارات كان أساسًا دعوة لرمز للشرعية ولسلطان القانون، والذي انحدر إلى مطلب راديكالي لا لبس فيه لتعيين حدود بين ما هو قانوني وما هو غير قانوني. بالنسبة للمؤمن فأن الله هو القوي القدير مالك السماوات والأرض، عند الوصول إلى موضوعة النظام السياسي فأن دعاوى أن الله هو المشرّع الوحيد تعزّز روايات الجبرية التي من المتعذر الدفاع عليها من وجهة النظر الثيولوجية الإسلامية. هكذا آراء تزعم أن البشر لديهم اتصالٌ مباشرٌ بإرادة الله، وأن البشر بإمكانهم أن يكونوا منفذي إرادة الله دون أن يُدخلوا أحكامهم الإنسانية ورغباتهم في هذه العملية.

أكثر من ذلك، بعض المزاعم حول سلطان الله ترى أن التشريع الإلهى يسعى لتنظيم العلاقات الإنسانية، الشريعة هي نظام أخلاقي كامل يعالج كلّ الاحتمالات. لكن ربما لا يريد الله أن ينظِّم كل تفاصيل علاقات البشر، بدلاً من ذلك يترك للبشر هامشًا كافيًا في تنظيم أمورهم طالما حافظوا على حد أدنى من التصرف الأخلاقي، بما في ذلك ضمان وحماية الكرامة الإنسانية والرفاه الإجتماعي. في الخطاب القرآني، شرّف الله البشر بمعجزة العقل، تعبيرًا عن القدراتِ الإلهية. مما يقبل الجدال أن تكريم الله للبشر كرمز للإلهية كاف ليكون تبريرًا أخلاقيًا لحماية وضمان لكمال وكرامة رمز الإلهية. لكن هذا هو جوهر فكرة علي بن أبي طالب، سلطان الله يضمن عدم التخلي عن الواجب من قبل البشر.

عندما يبحث البشر عن طرق للتقرب من جمال وعدالة لله، فأنهم لا ينكرون سلطان الله، أنهم يجلّونه كمحاولة لحماية القيم الأخلاقية التي تعكس المساهمة الإلهية. إذا قلنا أن مصدر الشرعية الوحيد للقانون هوالنص الإلهي وأن الخبرة والعقل البشريين غير نافعين في السعي لتنفيذ الإرادة الإلهية، وهكذا فأن سلطان الله سيكون أداة للسلطة الإستبدادية وعقبة في وجه الديمقراطية. لكن هذه النظرية الإستبدادية تبخس سلطان الله قدرَه. سأثبت ذلك لاحقًا، لكن لجعل الموضوع أكثر سهولةً أحتاج لعرض أوسع للمذاهب السياسية والقانونية الإسلامية.

الحكومة والقانون

إذا كان ما يجادل به الأصوليون الإسلاميون والمستشرقون الغربيون حول سيادة أو سلطان الله يعني أن الله هو المشرّع الوحيد، وهكذا فأنه يتوجب قبول الخليفة أو الحاكم المسلم كممثل لله. إذا كان الله هو صاحب السلطة الوحيد في النظام السياسي فالحاكم يعين من السلطة الإلهية خادمًا لرغبتها ومنفذًا لإرادتها. لكن هذا المعنى للسلطان الإلهي كان موضعًا لجدال حاد في عصر ما قبل الحداثة، حيث كانت قوى الحاكم وموضع القانون في تحديد دور هذه القوى. كانت بعض الإتجاهات في هذه النقاشات ترجيعًا للأفكار الديمقراطية الحديثة.

الحاكم والمحكوم

من الثابت على الأقل في الإسلام السني أن الرسول مات دون أن يسمي خليفة ليقود جماعة المسلمين. لقد ترك الرسول قصدًا مهمة اختيار القيادة لأمة المسلمين كلها. تؤكد خطبةٌ منسوبةٌ للخليفة الراشد الأول

جعل الله للناس أن يديروا أمورهم وأن يجتمعوا على أمير يخدم مصالحهم.

لفظة خليفة، اللقب الممنوح للحاكم المسلم تعني حرفيًا الوريث. في البداية اختلف المسلمون إن كان من المناسب تسمية الحاكم "خليفة الله"، لكن معظم الفقهاء فضلوا تسمية "خليفة رسول الله". لكن الخليفة – سواءً كان خليفة الله أم خليفة الرسول- لا يتمتع بصلاحيات الله أو الرسول التي تعطي القوة للتشريعات. الوحي والغفران والعقاب أمورٌ لا تُفَوَّض لأي كان، لكن كم من صلاحيات الرسول يمارس الخليفة؟ وأمام من يكون الخليفة مسؤولاً؟ هل واجب الخليفة الأول هو تطبيق القانون الإلهى، إذًا سيكون الخليفة مسؤولاً فقط أمام الله. حسنٌ، أن تصرفات الخليفة من الممكن أن تُفَسَّر على أنها تفسيرٌ لأوامر الله، هكذا تفسيرات يجب أن تكون مقبولةً وأن يكون الخليفة قد أدى واجباتِه تجاه الناس. الله وحده من يحاسب الخليفة على مقاصده، وأغلب الفقهاء السنة يؤكدون أنه لا يمكن عزل الخليفة ما لم يقدم على ارتكاب عمل مخالف لأوامر الله (الكفر البواح مثلاً).

الفقهاء المسلمون لم يفصلوا الروابط بين الخليفة والناس تمامًا، في رأي أهل السنة الخلافة تبنى على عقد بين الخليفة وأهل الحل والعقد الذين يعطونه البيعة. الخليفة بدوره يتلقى البيعة لوعده بإنفاذ شروط العقد. لم تتم مناقشة شروط العقد في المصادر الإسلامية بشكل واف. الفقهاء رأوا أن على الخليفة واجبُ تطبيق أحكام الله وحماية المسلمين ودار الإسلام، بالمقابل فأن للحاكم على الناس واجب السمع والطاعة. يُفتَرض أن الشريعة حددت شروط العقد.

من هم الناس الذين لهم سلطة اختيار وعزل الخليفة؟ المفكر المعتزلي أبو بكر الأصم (ت. 200 هـ، 816 م) رأى أن الأكثرية يجب أن تملك هذا الحق: يجب أن يكون هنالك إجماعٌ على الحاكم وأن يعطي كلّ فردأن موافقته شخصيًا. أغلبية الفقهاء المسلمين ارتأوا طريقةً أكثر عمليةً وهي أهل الحل والعقد وهم من يملك الشوكة لفرض الطاعة أو بدلاً من ذلك رضى العامة.

فكرة رضا المحكومين ورغم رنينها الديمقراطي لا يجب أن تُساوى بتفويض الناس السلطة للحكومة. الرضى في الخطاب الإسلامي ما قبل الحداثي يعادل فكرة الإذعان. يكمن تحت هذا الخطاب كمٌ كبير من عدم الثقة في العامة (الأمة):

تميل العامة للتقلب مع المد والجزر وربما مالت إلى اختيار السيئ عوضًا عن الخير.

كان هذا الموقف عامًا عند فقهاء المسلمين، مع مراعاة الفترة التاريخية التي كتبت بها هذه الأعمال قبل التجارب الديمقراطية وانتشار التعليم، فأنها لن تكون مفاجئةً. كنتيجةأن للعديد من المفاهيم المستخدمة في الخطاب السياسي طُرِحَت فكرة الحكومة التمثيلية لكنها أبدًا لم تُطَبَّق. في النموذج السائد فأن الحاكم والخليفة كليهما خلفاءُ الله في الأرض.

الحاكم والقانون

كما لاحظنا سابقًا، فأن الميزة الأساسية للحكومة الشرعية الإسلامية أنها خاضعةٌ ومقيدةٌ بالشريعة. كما أن هذا المفهوم يعزّز فكرة حكم القانون، يجب علينا التمييز بين فكرة سيادة القانون وسيادة مجموعة من القوانين. إنهما مختلفتان تمامًا، والكلاهما مطروحتان في التراث الفقهي الإسلامي. مرةً أخرى، يحتمل الفكر السياسي الإسلامي العديد من احتمالات التفسير، ومرةً أخرى، العديد من هذه الاحتمالات تنسجم بقوةأن مع المبادئ الديموقراطية.

في تأكيدهم على سلطان الشريعة، رأى الفقهاء المسلمون أن الأوامر الزاجرة كحد الزنى وشرب الخمر يجب أن تُحتّرم من قبل الحكومة. لكنّ حكومةً أعلنت التزامها بتطبيق الحدود قد تلجأ لمعالجة القوانين (الشريعة) من أجل الوصول إلى النتائج المرغوبة. تحت دعوى الحفاظ على الهدوء العام قد تلجأ الحكومة إلى تمرير قوانين تعسفية تحرم أشكال عديدة للاجتماع العام. بدعوى حماية المعتقدات قد تلجأ لتمرير قوانين تعسفية تعاقب الآراء الجديدة، بدعوى حماية سمعة الأفراد من القذف والتشويه بإمكانها أن تقمع أشكال عديدة من النقد السياسي والاجتماعي، بإمكان أي حكومةأن أن تُعدم أو تقمع المعارضين بحجة أنهم يحضون على الفتنة. من الممكن النقاش حول أن كل هذه الأفعال الحكومية من الممكن أن تعترض عليها الشريعة ما لم يكن ثمة معنى واضح للقيود التي ستطبق على قدرة الحكومة لخدمة والعمل على تعزيز الشريعة.

حكم القانون لا يجب أن يفهم منه أن الحكومة مقيدةٌ بمدونة لقواعد محددة، بدلاً من ذلك يجب أن يفهم على أن الحكومة مقيدة بعمليات اتخاذ وتفسير القوانين، والأهم من ذلك أن تكون هذه العمليات نفسها مقيدةً بضوابط أخلاقية أساسية خاصةً الكرامة الإنسانية والحرية.

نجد بعض الأدلة على هذا المفهوم البديل لحكم القانون في التراث الفقهي ما قبل الحديث. ناقش الفقهاء القيود التي يجب أن توضع على سلطة وضع القوانين في الدولة، في باب المصالح المرسلة وباب سد الذرائع. كلا المفهومين الفقهيين يمكن الدولة من توسيع صلاحياتها التشريعية لتأمين مصلحة أو درء مفسدة. مثلاً، طبقًا لمبدأ سد الذرائع يمكن للمشرّع أن يطالب باعتبار تصرف قانوني مخالفًا للقانون لأنه يقود لارتكاب عمل غير شرعي. يجعل مبدأ سد الذرائع والمصالح المرسلة القانونَ مقبولاً ومرنًا أكثر. بالطبع يمكن أن يوظفا لتعزيز القانون ليس فقط لخدمة الصالح العام ولكن أيضًا لتوسيع استقلال الأفراد. مبدأ سد الذرائع، خاصةً، مؤسس على فكرة الوقاية والحذر، من الممكن أن يُستَغَلَّ لزيادة قوة الجولة بحجة حماية الشريعة. من الممكن أن يتمّ تجنب هذا النوع من التحول جزئيًا باتباع اجراءات احتياطية، لكن أهم من ذلك، بفهم حكم القانون على أنه ضمان كرامة وحرية الإنسان التي من الممكن أن تُستخدم الشريعة لإعطائها شرعية لا لتقويضها.

ثمة بعد مهم لتحدى إرساء حكم القانون وهو العلاقة المعقدة بين الشريعة - كما حددها الفقهاء - والتصرفات الإدارية للدولة أو الأحكام السياسية. فيما كان من الممكن أن نجد في القرنين الأول والثاني للإسلام فقهاء يعتبرون أن تطبيقات الدولة كسوابق قانونية، لكنّ ذلك راح يتناقص باضطراد. في القرن الرابع الهجري أعلن الفقهاء المسلمون أنفسهم سلطة التشريع الوحيدة المفوضة تفسيرَ القانون الإلهي. ممارسات الدولة لم تُعتبر غير شرعية لكن الفقهاء المسلمون هم وحدهم الذين يضعون القانون. كان من المفترض أن الدولة هي التي تطبق القانون وليس من يحدد مضمونه.

كمنفذ للقانون الإلهى حفظت الدولة هامشًا واسعًا لمسائل المصلحة العامة، تُعرَف بالسياسات الشرعية. قوانين الدولة تظل شرعيةً ومطبقةً طالما لم يكن هنالك تعارضٌ مع القانون الإلهي كما شرحه وأرساه الفقهاء، (التعسف في استخدام الحق). لهذا السبب وثَّقّت الأعمال الفقهية بشكل دقيق فتاوى الفقهاء، فيما لم تُوَثَّق أعمال الدولة، التي قام موظفوها بهذا التوثيق ضمن الوظيفة الإدارية للدولة. في فتاوى الفقهاء المسلمين اعتبرت الدولة كأساس للقانون والسياسات هي حاميته (ما يشبه ذلك أن الفقهاء المسلمين أكدوا دائمًا أن الدين هو الأساس والسلطان السياسي هو الحامي). هذا المثال على أي حال يترك المشكلة الأساسية لكيفية تعيين القيود الموضوعة على سلطان الدولة. لأي حدِّ ستبسط الدولة مدى القانون تحت حجة الحفاظ أو ربما تطبيق الشريعة؟

فيما يتعلق بالاهتمام بمدى سلطان الحكومة تحت سيادة الشريعة، ثمة سوابق في التاريخ الإسلامي بما يجعل معايير العصر الحديث موضوعًا غير جديد تمامًا. هذه الاهتمامات تكاد تكون غائبةً تمامًا عن مشاريع الإسلاميين المعاصرين. إلى اليوم، الإسلاميون المعاصرون، سواءً في إيران أو السعودية أو باكستان وضعوا الدولة والسلطة التشريعية فوق القانون الإلهي. على سبيل المثال فدعوى سد الذرائع تُستخدم اليوم في العربية السعودية لتبرير حزمة واسعة من القوانين المقيدة للمرأة، بما في ذلك منع قيادة السيارة. هذا تصور حديث نسبيًا في تصرفات الدولة وهناك حالات كثيرة مماثلة لكيفية استخدام الشريعة لتقويض الشريعة.

تقليديًا، أكدّ الفقهاء المسلمون على أن الحكام يجب عليهم أن يتشاوروا مع الفقهاء في كل ما يتصل بالمسائل القانونية، لكنهم أبدًا لم يطلبوا الحق في حكم الدولة الإسلامية مباشرةً. في الحقيقة حتى وقت قريب لم يتولَّ الفقهاء لا السنة ولا الشيعة الحكم مباشرةً في المجال السياسي. في التاريخ الإسلامي تولّى الفقهاء وظائف إدارية وسياسية واقتصادية لكنّهم مارسوا دور المفاوض الوسيط بين الطبقة الحاكمة والعامة. حسب ما تؤكد عفاف مرسوت:

كان الفقهاء دعاة الإسلام، المؤتمنين على حكمة الأسلاف، ومعلمي الأخلاق للعامة[3].

فيما أعطوا شرعيةً ومارسوا دعايةً للحاكم عند العامة، فأنهم مارسوا ثقلهم الأخلاقي لمعارضة ممارسات المستبدين وأحيانًا لإعطاء شرعية للثورات ضد الطبقات الحاكمة. الحداثة حولت العلماء من ناطقين باسم الجماهير مرتفعي الصوت إلى موظفين دولة مدفوعي الأجور يقومون بوظيفة محافظة قانونية لدى الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي. تقلص دور العلماء وجمعياتهم في ظل الدولة البريتورية المعاصرة وتطبيقاتها المتطرفة للعلمانية، أفسح المجال للدولة كي تكون صانعة ومطبقة القانون الإلهي، بعملها هذا اكتسبت الدولة قوةً فائقةً رسّخت الممارسات الإستبدادية في العديد من دول العالم الإسلامي.

حكومة الشورى

أمر القرآن الرسول بمشاورة المسلمين في كل المسائل المهمة، وأشار إلى المجتمع الذي يصرف شؤونه عبر صيغة أن عمل مترو ومدروس هو محمودٌ عند الله. "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون"[4]. ثمة العديد من الروايات التاريخية التي تورد أن الرسول استشار أصحابه في أمور الدولة. بالإضافة لذلك، فبعد وفاة الرسول بوقت قصير مبدأ الشورى أضحى رمزًا يعني المشاركة السياسية والشرعية. الفشل في تطبيق الشريعة تحول إلى موضوع عام يسبب العديد من محاولات القمع أو الثورة. على سبيل المثال، ورد أن ابن عليًّا ابن عم الرسول انتقد الخليفة الأول أبي بكر والخليفة الثاني عمر بن الخطاب لعدم تقيدهم بالشورى في تعيينهم أبي بكر خليفة بغياب آل بيت النبي. كذلك اتهم المعارضون الخليفة الثالث عثمان بن عفان بإلغاء دور الشورى بسبب محاباته أقربائه وسياساته الاستبدادية.

إلى ذلك، فأن معنى الشورى في هذه الروايات ليس دقيقًا تمامًا، لكن الأكيد أن هذا المفهوم لا يعني استماع آراء وجهاء الناس فحسب، وإنما هو أوسع من ذلك، مقاومة الاستبداد والحكم بالقوة والقهر. هذا ينسجم مع عداء الفقهاء للاستبداد والحكم حسب الهوى والتسلط. عندما منع الفقهاء الخروج على الحاكم فأنهم تعاملوا مع التسلط على أنه شرٌ لا بُدّ منه، لا كخير مرغوب فيه. بعد القرن الثالث الهجري، اتخذ مفهوم الشورى شكلاً مؤسساتيًا أكثر تحديدًا في خطاب الفقهاء المسلمين. أصبحت الشورى الصيغة التي تتم بها استشارة أهل الشورى، الذين هم حسب المصادر الفقهية نفس أهل العقد الذين يختارون الحاكم. اختلف الفقهاء السنة فيما إذا كانت آراء عملية الشورى ملزمةً أم غير ملزمة. إن كانت ملزمةً فعلى الحاكم التقيد بالقرارات التي يصدرها أهل الشورى، الغالبية من الفقهاء رأت أن قراراتِ أهل الشورى استشاريةٌ غير ملزمة. رغم هذا التضارب بالآراء أكّد العديد من الفقهاء على أن يلتزم الحاكم بعد الاستشارة بالذي يتفق أكثر مع القرآن الكريم والسنة وإجماع الفقهاء. الغزالي عبّر عن هذا الإجماع العام بقوله:

فأن الاستبداد بالرأي وإن كان من ذوي البصائر، مذمومٌ ومحذور[5].

الإصلاحيون المعاصرون تمسكوا بحكومة الشورى كطريقة لإثبات التوافق الجوهري بين الديمقراطية والإسلام. لكن حتى لو ان المنظور الأخلاقي للشريعة قد توسع ليصبح مفهومًا أشمل للحكومة التشاركية، فأنه يعتبر طغيان الأكثرية يؤكد على أن صوغ المضمون الأخلاقي لعملية صناعة القرار مهم كأهمية صناعة القرار ذاتها، وهكذا حتى إذا تحولت الشورى إلى أداة للتشاركية التمثيلية، فيجب أن تكون نفسها مقيدةً بمفاهيم الحقوق الشخصية للأفراد والتي تخدم في تحقيق هدف أخلاقي كالعدالة مثلاً بكلمات أخرى، الشورى تُقَدّر بحد ذاتها وليس للنتائج التي تولدها، إنها قيمةٌ أخلاقيةٌ بحد ذاتها. كنتيجة لذلك، بغض النظر عن الآراء المخالفة، فالمعارضة يجب أن تكون مقبولةً لأن ذلك يشكل جزءً أساسيًا من السعي للعدالة.

التراث الإسلامي من الأفكار السياسية القانونية يطرح تصورات عن التمثيلية والتشاركية والإجراءات القانونية. لكن المحتوى الواضح لهذه الأفكار ما زال عاجزًا عن إيجاد صلة مباشرة بين الديمقراطية والإسلام. لفهم احتمالات أن تكون ديمقراطية في الإسلام يجب علينا أن ننظر أبعد في دور الإنسان بين مخلوقات الله والأهمية الرئيسية للعدالة في الحياة كما قررها القرآن.

العدالة والرحمة

تحتل العدالة موقعًا محوريًا في الخطاب القرآني: إنها واجبٌ علينا تجاه الله، وواجبٌ تجاه الآخرين. إضافةً لذلك فأن واجب تحقيق العدالة مرتبطٌ بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضرورة التصرف كخلفاء لله. كذلك القرآن لا يحدد عناصر أساسية للعدالة، إنه يؤكد على ضرورة تحقيق العدالة كمهمة ضرورية ووحيدة للإنسان، واجبٌ يقع علينا كلنا وضمن إمكانياتنا كخلفاء. في الجوهر يتطلب القرآن شرحًا للواجب الأخلاقي الذي هو غامضٌ لكن من الممكن إدراكه بالحدس والعقل والتجربة الإنسانية. في الحوار الإسلامي حول ما يجب أن تفعله الحكومة لتحقيق العدالة من الملاحظ تشابهها مع النقاشات الغربية في القرن السابع عشر حول الشروط البدائية لوجود الإنسان. وجهة نظر قدمها ابن خلدون والغزالي ترى أن الإنسان بطبيعته ضعيفُ وميالُ للنزاع ولا يحب التعاون. لذا فأن الحكومة ضروريةٌ لإجبار الناس على التعاون بين بعضهم، على خلاف طبائعهم ولتحقيق العدالة والمصالح العامة.

مدرسةٌ فكريةٌ أخرى ممثلةً بالماوردي وابن أبي الربيع، رأت أن الله خلق الإنسان ضعيفًا ومحتاجًا لذا فالناس مضطرون للتعاون. التعاون سيخفف من الظلم بتقييده القوي وضمان حق الضعيف. أكثر من ذلك فالله خلق الناس مختلفين عن بعض ولذلك فأن كلّ واحد سيحتاج الآخر لبلوغ أهدافهم. في هذه المدرسة الفكرية الإنسان بطبيعته طالبٌ للعدالة ويسعى للتعاون في سبيل تحقيقها. حتى فيما لو استغل الإنسان موهبة العقل وهدى قانون الله، فأنه من خلال التعاون سيكون ملزمًا لبلوغ مستوىً أعلى من العدالة والكفاءة الأخلاقية. الحاكم الذي يصعد إلى السلطة عبر عقد مع الناس يسعى لما هو أبعد من ذلك، التعاون مع الناس لبلوغ الغاية النهائية وهي مجتمع العدل.

في النقاش حول مطالب تحقيق العدالة، ركّز الفقهاء حول الأهمية الخاصة للتنوع الإنساني والتعاون. يقول القرآن الكريم: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم أن الله عليمٌ خبير"[6]، الفقهاء المسلمون يفسرون كلمة "لتعارفوا" بالحاجة إلى التعاون الإجتماعي والدعم المتبادل بهدف بلوغ العدالة. القرآن يؤكد على أن الناس سيبقون مختلفين حتى نهاية العالم، ويؤكد أيضًا أن حقيقة التنوع الإنساني هو جزءٌ من الحكمة الإلهية وهدفٌ مقصودٌ من الخلق: "ولوشاء ربّك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين"[7].

الإحتفاء القرآني وتمجيد التنوع البشري يدخل هذا التنوع في السعي الهادف للعدالة ولخلق امكانيات متعددة للحراك الجماعي في الإسلام المعاصر. هذا الحراك يمكن أن يتطور إلى أخلاقيات تحترم الخلاف وحق الإنسان في أن يكون مختلفًا، بما في ذلك الحق في اعتناق دين مختلف أو عدم الإيمان بدين. على المستوى السياسي من الممكن أن يقنّن ذلك بقاعدة عقلانية تعتبر العدالة والتعددية جوهر القيم التي يجب على الديمقراطية المؤسساتية حمايتها. أكثر من ذلك، من الممكن أن يُطَوّر ذلك إلى فكرة تفويض القوى، حيث يؤتمن الحاكم على خدمة القيم الأساسية للعدالة بتعزيزه حقوق الجمعيات والتعاون والاختلاف. أيضًا فأن فكرة القيود يمكن أن تُطّوّر لمنع الحكومة من حرف السعي إلى العدالة عن هدفه أو إعاقة الناس عن التعاون والاختلاف، ضمن هذا السياق من المهم أن الحكومة بفشلها في الوفاء بالتزاماتها التي تعهدت بها، ستفقد شرعية المطالبة بالسلطة. للأسف فأن عدة عوامل تعمل ضد تحقيق هذه الاحتمالات في الإسلام المعاصر. على الجانب النظري والفلسفي إقامة العدالة لم يكن موضوعًا لامتحان دقيق في الدين الإسلامي. وجزءٌ من تعليل ذلك التقييد هو ذلك التوتر في فهم طبيعة العدالة. هل يحدد القانون الإلهى العدالة أم أن العدالة هي التي تحدّد القانون الإلهي؟! لوكان الجواب هو الأول فثمة نتيجة واحدة: القانون الإلهي متضمنٌ في العدالة. أما لو كان الثاني فأن مطالب العدالة هي مطالب الإلهي.

لو كان بإمكاننا أن نعلم ماذا تتطلب العادلة بتحديدنا لما هو القانون الإلهي أولاً، فليس ثمة فائدة من دراسة ما هي متطلبات العدالة، سواءً أكانت العدالة تعني التكافؤ في الفرص أو تنامي الاستقلالية الشخصية، أو ازدياد المردود العام أو ضمان الكرامة الإنسانية. إذا كان القانون الإلهي سابقًا على العدالة فأن المجتمع العادل لن يتعهّد حقوق الحديث والإجتماع، أو حقوق اكتشاف طرق تحقيق العدالة، وإنما فقط تطبيق القانون الإلهي. أفترض أننا نقبل بأولوية العدالة في الخطاب القرآني وفكرة الخلافة البشرية وأن واجب تحقيق العدالة قد عُهِد إلى الإنسانية جمعاء، نتيجةٌ منطقية ستكون أن العدالة كقيمة يجب أن تقود وتحكم كل جهود لتفسير وفهم القانون الإلهي، ذلك يتطلب العديد من نماذج التغيير الجدية في الفكر الإسلامي. في رأيي فأن العدالة هي واجبٌ إلهي وتمثل السلطان الإلهي. الله يصف نفسه بالعدل، والقرآن يؤكد أن الله كتب الرحمة على نفسه[8]. أبعد من ذلك فأن الهدف الأسمى من تكليف الرسول بالرسالة الإلهية هو رحمة البشرية.

الخطاب القرآني للرحمة ليس فقط عفوًا ولا تناسي أخطاء وآثام الناس، لكنه الحالة التي يكون المرء قادرًا فيها على أن يكون عادلاً مع نفسه ومع الآخرين بإعطاء كل امرء حقه. في الحقيقة فأن الرحمةَ مرتبطة بحالة الإحساس الحقيقي بالآخرين، ذلك هو سبب أن الرحمة القرآنية مرتبطةٌ بالحاجة إلى الصبر والتسامح بين الجميع. ما هو مثير للانتباه أكثر أن الاختلاف والتنوع يُعتَبر في الخطاب القرآني رحمةً إلهية للجميع. الإحساس الحقيقي الذي يُمكنّ المرء من فهم وتقدير الآخرين والذي بإثرائه بالتنوع يصبح مُكوّنًا أساسيًا في بناء مجتمع العدالة وتحقيقها. المهمة الإلهية التي أُكِل بها الناس عامةً والمسلمون خاصةً هي كما عبّر عنها القرآن "لتعارفوا" واستخدام المعرفة الحقيقية في السعي لبلوغ العدالة.

ضمن هذه الرؤية، فالأمر الإلهي للحكومة المسلمة، هوالسعي لإقامة العدل بإشاعة الرحمة. إلى ذلك فأن التعايش هو الضرورة الأساسية للرحمة، وللسعي للمعرفة الحقيقية للآخرين والتطلع إلى دولة العدل الإنسانية يحتاجون التعاون في طلبهم للخير والجمال، باشتراكهم في خطاب أخلاقي هادف. تطبيق القواعد القانونية، حتى لو كانت نتاجًا لتفسير النصوص الإلهية ليس كافيًا لإشاعة الرحمة - الإحساس الحقيقي بالآخرين- أو لإرساء العدالة. هكذا فأن مبادئ كالرحمة والعدل هي واجباتٌ أساسية فرضها الله، سلطان الله يكمن في أن الله هو السلطان الذي فوّض الإنسان مهمة إقامة العدل في الأرض بالقيام بالفضائل التي تقترب من أن تكون إلهية. هذا المفهوم للسلطان الإلهي لا يلغي الواسطة البشرية التي تتطلب آلية قسرية لتطبيق القانون، بدلاً من ذلك يُكيّف هذه الواسطة ويُثبتها كمساهمة في إقامة العدالة. من المهم طبقًا لتصور العدالة، فليس من الممكن إقامة العدالة ما لم يُكفَل لكل ذي حق حقه. التحدي بالنسبة للإنسان، خليفة الله، فالتحدي هو الإعتراف بوجود الحق، وفهم من هو صاحب الحق، وأخيرًا ضمان أن يتمتع صاحب الحق بحقِه. المجتمع الذي يفشل في هكذا مهمة – بغض النظر عن القواعد التي يطبقها- ليس رحيمًا ولا عادلاً. هذا يضعنا أمام في موقع استكشاف ماهية حقوق الأفراد في الإسلام.

حقوق الأفراد

كل الديمقراطيات المؤسساتية تُقَدِّم حماية قوية لمصالح فردية معينة من خلال حقوق التعبير والاجتماع والتساوي القانون والحقوق الملكية واتباع الإجراءات القانونية. لكن تحديد ما هي الحقوق التي تجب حمايتها وما تشمل، كان موضوعًا لنقد واسع سواءً في النظرية أم التطبيق. هنا سأفترض أن بعضًا من الحقوق واضحة الطبيعة ومصالح الأفراد يجب أن تُعامَل على أنها غير قبالة للمساس. هذه المصالح غير القابلة للمساس هي تلك التي يتصل انتهاكها بالفردية التي نحن بصددها، بالإحساس بالجدارة والنزوع نحو تدمير قدرة الإنسان على فهم العناصر الضرورية لتقديس الوجود. وهكذا فأن ممارسة التعذيب والمنع من الطعام والمأوى وضروريات البقاء كالعمل، هو دائمًا أمرٌ غير مقبول.

لفهم المكان التقليدي للمصالح المحمية في القانون الإسلامي، يجب فهم أن هدف الشريعة في النظرية الفقهية هو تحقيق مصالح العباد. ميّز الفقهاء المسلمون مصالح العباد في ثلاث فئات: الضروريات والحاجيات والكماليات أو التحسينيات. حسب الفقهاء المسلمين على القانون وسياسات الدولة أن تكون موجهةً لتحقيق هذه المصالح، حسب سلم هابط للأولويات. أولاً الضروريات ثم الحاجيات وأخيرًا الكماليات. قُسّمَت الضروريات إلى خمس ضروريات أساسية: الدين والحياة والعقل والنسب أو العرض وحق التملك. لكن الفقهاء المسلمين لم يضعوا هذه الضروريات كأنواع واضحة، ثم استكشفوا التضمينات النظرية لكل ضرورة. على الأصح، بروح إيجابية، بحثوا وجود أوامر قضائية يمكن القول أنها تخدم كل ضرورة وأن تتضمن مدونات هذه الأوامر القضائية أن هذه الضروريات الخمس ستكون مكفولة تمامًا. على سبيل المثال رأى الفقهاء المسلمون أن تحريم القتل في القانون الإسلامي يكفل الضرورة الأساسية: الحياة، قانون منع الردة يحمي الدين، قانون منع الخمور يحمي العقل، قانون منع الزنا والفجور يحمي النسب، والحق في التعويض يحمي حق الملكية. لكنّ تقليص حماية العقل إلى تحريم الكحول وتقليص حماية الحياة إلى منع القتل، أمرٌ فجٌ بكل ما للكلمة من معنى. لسوء الحظ يبدو أن التراث الفقهي قد قلّص هذه القيم الخمس إلى أهداف مادية. رغم ذلك من الممكن أن تخدم هذه القيم المشدَّد عليها كتصنيف نظري لحقوق الأفراد في العصر الحديث.

للتأكيد، فأن التراث الفقهي حوي ثروة من المواقف التي أظهرت ميلاً نحو حماية الأفراد. على سبيل المثال، طوّر الفقهاء المسلمون مبدأ براءة المتهم في الإجراءات الجزائية والمدنية وحمّلوا المدعي عبء الإثبات (البنة على من ادعى)، في المسائل المتعلقة بالهرطقة أكّد الفقهاء المسلمون مرارًا على أنه من الأفضل تخلية سبيل الألف من أهل البدعة على عقاب خاطئ لمؤمن واحد. في المسائل الجزائية أكّد الفقهاء على أن إطلاق سراح مذنب خير من عقاب بريء. أكثر من ذلك، أدان الفقهاء احتجاز أو سجن أهل البدعة حتى ولو جهروا بدعوتهم ودعوا إليها (كالخوارج مثلاً)، ورأوا أنه لا يجب مضايقة هذه الجماعات ما لم تحمل السلاح وتقوم بشكل علني بمحاولة للخروج على الحكومة. أدان الفقهاء المسلمون أيضًا التعذيب، مثبتين أن الرسول قد نهى عن المُثلة في كل الحالات. وحّرموا استخدام الاعتراف المنتزع قسرًا في كل المسائل القانونية والسياسية. في الحقيقة فأن عددًا كبيرًا من الفقهاء قد أوجدوا مذهبًا شبيهًا بمذهب البراءة الأمريكي – الدلائل والاعترافات المأخوذة قسرًا غير مقبولة في المحاكم. أيضًا، أكّد بعض الفقهاء أن القاضي الذي يعتمد على اعترافات منتزعة قسرًا مسؤول عن الإدانة الخاطئة. الكثيرون أكّدوا أن المُدًّعى عليه أو أسرته لهم أن يقيموا دعوى تعويض ضد القاضي بشكل شخصي وضد الخليفة وممثليه، لأن الحكومة يجب أن تتحمل المسؤولية عن أعمال قضاتها. لكن ربما كان الخطاب الأكثر مخاتلةً في التراث الفقهي هوالذي يُطابق حقوق الله مع حقوق البشر. حقوق الله هي الحقوق المرتبطة بالله بمعنى أن الله وحده هو من يقرر عقاب من ينتهكها وهو وحده يقرر العفو عمن انتهكها. لكنّ كل الحقوق التي ليست صراحةً لله هي للبشر. وفيما كانت انتهاكات حقوق الله معفوًا عنها من الله وحده بأعمال معينة تنمّ عن التوبة، فانتهاك حقوق الناس يعفو عنها البشر. وهكذا فحق التعويض ملكٌ شخصيٌ للإنسان، ويُسامح به الإنسان المظلوم فقط، لا الحكومة ولا الله له الحق أن يعفو أو أن يتساهل بهكذا حق بُنِي على أنه جزءٌ من حقوق الإنسان.

لم يَصُغ الفقهاء المسلمون قاعدةً من الحقوق القابلة للتعميم والتي يحوزها أي فرد على مدى العصور. تصوروا الحقوق الفردية على أنها ناشئة من قضية قانونية مثيرة أثارتها المعاناة من الخطأ القانوني. الفرد لا يحوز الحق حتى يخطأ أو تخطأ ويكون له المطالبة بتعويض أو جزاء كنتيجة لذلك. تغيير النموذج يستلزم انتقالاً للمفهوم التقليدي للحقوق، وهكذا تصبح الحقوق ملكًا لأفراد بغض النظر فيما إذا كان ثمة سند قانوني للفعل. هذه القاعدة من الحقوق المُعتَرفِ بها على أنها ثابتةٌ، هي الضرورية لبلوغ مجتمع العدالة وتدعيم عامل الرحمة. برأيي فأن الحقوق يجب أن تكون ضامنةً للسلامة الجسدية والكرامة الأخلاقية للإنسان. من المحتمل تمامًا أن حقوق الأفراد الواضحة هي الخمسة المشار إليها سابقًا، لكن هذه الفكرة يجب أن تكون عرضةً لإعادة التحليل على ضوء التنوع القائم في الوجود الإنساني. في هذا السياق فأن الإحالة على حقوق الإنسان لا تعني عدم الإحالة على الله، بدلاً من ذلك هي ضرورة للإحتفاء بالتنوع البشري وتقديس خلافة الله وبلوغ الهدف الأسمى للعدل.

من المثير أن التراث ما قبل الحداثة ليس هو من يضع عقبات أمام تطور حقوق الأفراد في الإسلام. على العكس فأن أغلب العقبات تأتي من المسلمين المعاصرين أنفسهم، خصوصًا في النصف الثاني من القرن الماضي. عددٌ مهمٌ من فقهاء المسلمين وضعوا الافتراض غير المثبت بأن القانون الإسلامي معني أولاً بالواجبات وليس بالحقوق، وأن المفهوم الإسلامي للحقوق هو أنها جماعية وليست فردية. الافتراضان كلاهما قائمان على النظرة الثقافية للآخر غير الأوروبي. يبدو كما لو أن هؤلاء المفسرين قد ركّزوا على اليهودية - المسيحية أو ربما المفاهيم الغربية للحقوق مفترضين أن الإسلام يجب أن يكون مختلفًا. في الحقيقة أن الحديث عن حقوق جماعية وحقوق فردية ينطوي على مفارقة تاريخية. الفقه الإسلامي ما قبل الحداثي لم يرسِ نظرةً جماعية للحقوق أو حتى نظرةً فردية، لقد تكلموا عن حقوق العامة وفي الغالب أكدوا على أن الحقوق العامة لها أولوية على الحقوق الخاصة. غير أن ذلك لا يعني أكثر من التأكيد على أن المجموع لا يجب أن يعاني من ملكية البعض. على سبيل المثال فأن هذا المبدأ القانوني استُخدم لإعطاء شرعية للإيرادات العامة ولحق الارتفاق العام على الملكيات الخاصة. واستُخدم أيضًا لمنع الأطباء غير المؤهلين من ممارسة الطب. كما يُستَنتج مما ورد أعلاه، فأن الفقهاء المسلمين لم يبرروا قتل أو تعذيب الأفراد في سبيل تعزيز الرفاه أو المصالح العامة.

ربما كان التأييد الواسع لأولوية حقوق العامة النظرة القائمة على الواجب في الإسلام يعود إلى طبيعة الخطاب المعاصر في القانون الإسلامي. لكن حقوق الأفراد من السهل أن تبرر في الإسلام أكثر من حقوق الجماعة. الله خلق البشر أفرادًا ومسؤوليتهم في الآخرة فردية محددة بكلٍ منهم. سعي أحد ما لحماية وأمان ورفاه الآخرين هو اهتمام بخلق الله. كل فرد يتضمن بداخله عوالم متعددة من المعجزات الإلهية. لمَ على المسلم أن يراعي ويلتزم بحقوق ورفاه إنسان آخر؟ الجواب هو أن الله قد قام بهذا الإلتزام قبل ذلك عندما وضع من نفسه في كل إنسان. لذلك شدّد القرآن على أن من يقتل نفسًا بغير حق فكأنما قتل البشرية كلها "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أنهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْس أو فَسَاد فِي الأَرْضِ فَكَأنمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأنمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ أن كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ"[9]. إلى ذلك لم يفرق القرآن بين قدسية المسلم وغير المسلم، لقد أكّد القرآن مرارًا على أن لا أحد يمكنه أن يقيد الرحمة الإلهية بأي طريقة، ولا أن يحدد من هو متلقيها، "مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْر مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم"[10]، "يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"[11]. أخذت هذه الآيات لأقول أن غير المسلمين مثل المسلمين أهلٌ لتلقي وإعطاء الرحمة الإلهية. مقياس النفع الأخلاقي على هذه الأرض هو اقتراب المرء من الله عبر تحقيق العدالة لا المعيار الديني. المقياس في الآخرة أمرٌ مختلف، هذه المسألة هي من اختصاص الله وحده. سيحاسب الله يوم الآخرة على حقوقه وفقًا لما يرى أنه الأنسب. غير أن مسؤوليتنا الأخلاقية الأولى على الأرض هي المطالبة بحقوق الإنسان. الإلتزام بحقوق الإنسان هو التزام بما هو لمصلحة خلق الله وهو بالتالي التزامٌ بأمر الله.

الشريعة والدولة الديمقراطية

قضية الديمقراطية عُرِضت من داخل الإسلام، يجب قبول فكرة السلطان لله: لا يمكن إحلال فكرة السيادة الشعبية بسلطان الله، لكن يجب بدل ذلك إظهار كيف تعبر فكرة السيادة الشعبية – بفكرة أن للمواطنين حقوقًا ومسؤوليات متلازمةً من أجل إحقاق العدل والرحمة- عن سلطات الله وتفهم فهمًا صحيحًا. بطريقة مشابهة، لا يمكن رفض أن القانون الإلهي يُعطى أولويةً على الفعل الإنساني، لكن يجب إظهار كيف يحترم صنّاع القانون هذه الأولوية. لقد احتفظت بمسألة الدولة والشريعة للآخر لأنه من الضروري إرساء الأسس الأولى لمعالجة المشكلة. كجزء من هذه الأسس يجب تقدير مركزية الشريعة في حياة المسلم. الشريعة هي صراط الله، تتمثل بمجموعة من المبادئ المعيارية والمنهجيات لإنتاج الأوامر القانونية، ومجموعة من القواعد القانونية الإيجابية. كما هو معروف جيدًا تشمل الشريعة مدارس فكرية ومقاربات، كلٌ منها صالحٌ وشرعيٌ بنفس القدر. ومع ذلك فأن الشريعة ككل بمدارسها ووجهات نظرها المختلفة تبقي قانون وصراط الله.

الشريعة بقسمها الأكبر لم توحى بشكل مباشر من الله. تعتمد الشريعة في إظهارها وتطبيقها على فعل تفسيري للعامل البشري. المفارقة أن الشريعة هي رحم القيم الذي يتوجب على المجتمع رعايتها. المفارقة تتمثل هنا في التوتر الحاصل بين واجب العيش طبقًا لقانون الله وحقيقة أن القانون يُعَبّّر عنه فقط من خلال عوامل تفسير ذاتية. حتى لو لم يكن هنالك إدراكٌ موحد فأن الأوامر الإيجابية تعبر عن القانون الإلهي. لا يزال هنالك طائفة من التطبيقات غير الموضوعية. هذه المشكلة حُلّت في الخطاب الإسلامي عبر التمييز بين الشريعة والفقه. حاججوا بأن الشريعة، هي القانون الإلهى، واقفة معلقة في السماء لا تفسد ولا تتأثر بتقلبات الحياة. الفقه هو الجهد الإنساني لفهم وتطبيق ما هو مثالي، لذلك، الشريعة ثابتةٌ نقيةٌ ولا عيب فيها، أمّا الفقه فليس كذلك. كجزء من الأسس المذهبية لهذا الخطاب، ركّز الفقهاء السنة على السنة المنسوب إلى الرسول (ص) التي تقول: "كل مجتهد (المجتهد هو الفقيه الذي يسعى لإيجاد الحل الصحيح) مصيب" أو "لكل مجتهد ثواب"، ذلك يفترض أنه من الممكن أن يكون أكثر من جوابً صحيح لنفس السؤال. بالنسبة لبعض الفقهاء السنة ذلك يثير قضية الغرض أو الدافع وراء البحث في القانون الإلهي. ما هو الغرض الإلهي من إيجاد دلائل على القانون الإلهي ثم الطلب من الإنسان الإنشغال بالبحث عنه. إن كان الله يريد من الإنسان الوصول للفهم الصحيح فكيف يمكن أن يكون كل تفسير أو اجتهاد صحيحًا؟ بعبارة أخرى، هل ثمّة جوابًا شرعيًا صحيحًا لكل مشكلة شرعية، هل المسلمون ملزمون شرعًا بإيجاد ذلك الجواب؟ الأغلية الساحقة من الفقهاء المسلمين يرون أن النية السليمة وراء الاجتهاد كافيةٌ لحماية المجتهد من المسائلة أمام الله. وراء ذلك كان الفقهاء منقسمين إلى فريقين رئيسيين، المدرسة الأولى المعروفة بالمُخَطِئة ترى أن لكل معضلة شرعية جوابًا صحيحًا، لكن الله وحده يعلم الحلَّ، وأن الحقيقة لن تظهر إلا يوم القيامة. أغلبية البشر لا تستطيع أن تجزم بشكل حاسم أنها وجدت الجواب الصحيح، بهذا المعنى يكون المجتهد على صواب في محاولته ايجاد الجواب، هكذا، فقد يستطيع أحد الفقهاء الوصول إلى الحقيقة فيما قد يخطئها الباقون، يوم القيامة سيخبر الله الناس ما كان خطًا أو صحيحًا، الصواب هنا يعني أن المجتهد يستحق الثناء على الجهد الذي بذله، لكنّ ذلك لا يعني أن كلّ الأجوبة صالحةٌ على قدم السواء.

المدرسة الثانية، تعرف بالمُصَوِّبة، تجادل بأنه ما من حكم صحيح معين يريد اللهُ من البشر اكتشافه: جعل الله من الأدلة على القاعدة الإلهية واضحةً وقاطعةً، لا يُكَلِّف الله الإنسان معرفة الجواب الصحيح فيما لا توجد وسائل موضوعية لاكتشاف صحة المسألة النصية أو القانونية. إذا كان ثمة حقيقةً موضوعيةً لكل شيء، فأن الله سيجعل من هذه الحقيقة ممكنة التحقيق في هذه الحياة. الحقيقة القانونية أو الصحة، تعتمد غالبًا على الأدلة والظروف وشرعية القاعدة والتصرف لقواعد الاعتراف التي تدعم وجودها. الإنسان غير مُكَلَّف بواجب الوصول إلى نتائج قانونية صحيحة مجردة غير قابلة للتحقيق. بالأحرى، هم مكلّفون بجهد البحث في مشكلة واتباع نتائج اجتهادهم. طبقًا للجويني مثلاً فالله يريد من البشر البحث ليعيشوا حياتهم كاملة متوافقة مع إرادة الله، يشرح الجويني ذلك:

كما لو أن الله قال للإنسان أن أمري لعبادي هوأن يعيش وفقًا لما يرجّحه اعتقاده، أنهم ملزمون بالتصرف كيفما تميل اعتقاداتهم وتلك هي أوامري.

أمر الله للإنسان هو أن يبحث بجهد وقانون الله يبقى موقوفًا حتى يصوغ الإنسان اعتقادًا راسخًا لما هو القانون. في هذه النقطة حيث رجحان الإيمان قد تمّ، شرع الله يأتي موافقًا للاعتقاد الراجح لدي شخص بعينه. باختصار، إذا اعتقد شخصٌ مخلصًا ومؤمنًا بأن شرع الله هو كذا وكذا فأن ذلك هو شرع الله بالنسبة لهذا الشخص.

موقف المدرسة الثانية يثير أسئلة صعبة حول تطبيق الشريعة في المجتمع. هذا الموقف يفترض أن شرع الله هوالبحث عن شرع الله. من جهة أخرى، فالتكليف الشرعي يقع كليًا على ذاتية وصدق الإيمان. بالنسبة للمدرسة الأولى فمهما كان القانون الذي تطبقه الدولة فهو شرع الله المحتمل الوحيد، ولن نعرفه حتى يوم القيامة. بالنسبة للمدرسة الثانية فأيًا كان القانون الذي تطبقه الدولة فهو ليس شرع الله ما لم يعتقد الشخص الذي يطبق عليه أنه أمر الله وإرادته. المدرسة الأولى تُعَطِّل المعرفة ما دمنا أحياء، المدرسة الثانية تربط المعرفة بشرعية العملية وصدق الإيمان في نهاية المطاف.

بناءً على هذا التراث الفكري سأفترض أن الشريعة تقوم في السياسة الإسلامية بناءً يرمز إلى كمال الله وعجز البشر عن بلوغ هذا الكمال. كما يؤكد ابن القيم: إنها مثالٌ للعدالة، الخير، الجمال الذين صوّرهم واختص بهم الله. كمالها محفوظٌ إذا جاز التعبير بإرادة الله، لكنّ أيّ شيء يمرّ عبر القوة البشرية لا بُدّ له من أن يتزاوج مع النقص الإنساني. بعبارة أخرى، الشريعة حسبما أوحى بها الله لا عيب بها، لكن كما يفهما البشر غير كاملة ومشروطة. على الفقهاء أن يستمروا في استكشاف مثالية الشريعة وزيادة جهودهم الناقصة لفهم كمال الله. طالما أن الحجة الموضوعة معيارية فأن ثمة احتمال ضئيل لمعرفة إرادة الله. إلى حد كبير، كل قانون مطبق من المحتمل أن يكون بالضرورة غير واقعي. الشريعة ليست تجميعًا لأحكام فحسب، لكنها أيضًا قاعدة من المبادئ، منهجية، عمليات جدلية تبحث في المثل الإلهية. وهكذا فالشريعة هي تقدمٌ لا ينتهي أبدًا.

بعبارة أكثر دقة، إذا كان ثمة رأي قانوني معتمد ومطبق من قبل الدولة، لا يمكن القول أنه شرع الله، بمراجعة عمليات القسر والتنفيذ التي تقوم بها الدولة، فالرأي القانوني ليس أكثر من احتمال أضحى قانونًا واقعيًا مطبقًا ومفروضًا. لكن ما طُبِّق وفُرِض لم يكن شرع الله، أنه قانون الدولة. حقيقةً، فتعبير قانون الدولي الديني هو مصطلحٌ متناقض. سواءً أكان القانون عائدٌ للدولة أم الله، وطالما كان يعتمد على قوة الخبرة الذاتية للدولة في تطبيقه وصياغته، فأن أيّ قانون مفروض من الدولة هو بالضرورة ليس شرع الله. بخلاف ذلك، علينا الاستعداد للقبول بأن إخفاق قانون الدولة هو في الحقيقة فشلٌ لشرع الله، والله نفسه آخر المطاف. هذا الاحتمال غير ممكن إطلاقًا في الفقه الإسلامي.

بالطبع فأن التحدي الأكبر لهذا الموقف هوالقول بأن الله ورسوله (ص) قد حددا أوامر شرعية واضحة لا يمكن تجاهلها. يمكن القول أن الله قد وضع قوانين واضحة دقيقة لأن الله أراد أن يقيد دور خلفائه البشر ويحول دون قدرتهم على الإبتكار. عودة إلى النقطة التي أكّدت عليها دائمًا، بغض النظر عن وضوح أوامر القرآن والسنة، فالمعنى المفهوم من هذين المصدرين قابلٌ للمعالجة من الوكلاء البشر. على سبيل المثال، يقرّر القرآن :"وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"[12]، على الرغم من أن المعنى القانوني لهذه الآية واضحٌ، فمن المطلوب على الأقل أن يعمل الإنسان الخليفة على معاني "السارق" و"اقطعوا" و"أيدي" و"جزاء". يستخدم القرآن كلمة "اقطعوا" من الجذر قطع الذي قد يعني فصل، ولكنه قد يعني أيضًا جزم وأنهى ومنع عنه. مهما كان ما المعنى المفهوم من النص، هل يمكن للمفسر البشري أن يعزو بثقة ما توصل له إلى الله؟ وحتى لو حُلَّت قضية المعنى، هل يمكن أن يُطَبَّق القانون بهذه الطريقة التي يمكن لأحد أن يعزو النتيجة لله؟ علم الله وعدله كاملان، لكنه من المستحيل على البشر أن يطبقوا أو يفرضوا القانون بطريقة تلغي إمكانية حصول نتائج خاطئة. هذا لا يعني أن اكتشاف قانون الله عبثٌ، أنه يعني فقط أن تفسيرات الفقهاء هي تطبيقٌ محتملٌ لشرع الله، لكنّ القواعد كما قُنِّنَت وطُبقت من قبل الدولة لا يمكن أن تُعتَبَر تطبيقًا فعليًا لهذه الاحتمالات.

مؤساساتيًا، ذلك يتفق مع التجربة الإسلامية بأن العلماء والفقهاء من الممكن أن يتصرفوا كمفسرين لكلام الله، كأوصياء على الوعي الأخلاقي للجماعة، وقيمين على تذكير الأمة وتوجيها نحو المثل الأعلى الذي هو الله. لكن قانون الدولة بغض النظر عن أصوله وقواعده ينتمي للدولة، ضمن هذا المفهوم فما من قانون ديني يمكن أن يُفرَض من الدولة. كل القوانين التي تصاغ وتفرض في دولة هي من صنع البشر ويجب أن تُعامل هكذا. هذه القوانين هي جزءٌ من الشريعة ضمن مدى أن كلّ قاعدة من الآراء القانونية البشرية يمكن أن تعتبر جزءً من الشريعة. دستورٌ يتمثل الشريعة ليس هو الشريعة. بعبارة أخرى، الخلق بكل ثرائه النصي وغير النصي يستطيع، بل يجب أن ينتج حقوقًا أساسيةً وقوانين تنظيمية تُمجّد وتُعَزّز هذه الحقوق. لكنّ القوانين والحقوق لا تعكس كمال الشرع الإلهى. طبقًا لهذا المثال فالديمقراطية هي نظامٌ ملائمٌ للإسلام لأنهما كليهما يعبران القيمة الخاصة للإنسان – حالة الخلافة- وفي نفس الوقت يحرم الدولة من دعوى الألوهية وذلك بوضعها السلطة النهائية في أيدي الناس لا العلماء. المربون الأخلاقيون يلعبون دورًا هامًا لأنهم يجب أن يكونوا أمينين على العمل بدأب لاقتراب المجتمع من الله. لكن ولا حتى إرادة الأغلبية –بغض النظر عن تثقيفها الأخلاقي- تستطيع أن تنطوي على كامل جلال لله. في الحالة الأسوأ، فيما لم تقتنع الأغلبية بآراء العلماء، إذا أصرت الأغلبية في الابتعاد عن طريق الله، ولكنها استمرت في احترام الحقوق الأساسية للأفراد، بما في ذلك حق التأمل في الخلق والدعوة لله، هؤلاء الأفراد الذين يشكلون الأكثرية سيكون عليهم أن يُحاسبوا أمام الله في الآخرة.

ترجمة: علي عبد الرزاق

عن موقع شبكة العلمانيين العرب

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  خالد أبو الفضل، أمريكي من أصل مصري، ولد في الكويت وعاش بينها وبين مصر ثمّ انتقل إلى الولايات المتحدة التي يحمل جنسيتها. أستاذ الفقه الإسلامي في جامعتي كاليفورنيا ويايل. يعمل إضافةً لذلك محاميًا ويهتم بالقضايا العامة. له وجود كبيرٌ في الساحة الأمريكية، تفرد له الصحافة الأمريكية مساحة مميزة وتصفه بعبارات مثل "أهم مفكر إسلامي في العصر الحديث" أو "أبرز خبراء الفقه الإسلامي" و"المثقف المعتدل الشجاع" و"أهم سلاح في الصراع ضد الأصولية الإسلامية". عينه الرئيس جورج بوش في لجنة الحريات الدينية التابعة للحكومة. من كتبه مكانة التسامح في الإسلام.

[2]  محمد بن علي بن محمد الشوكاني، نيل الأوطار شرح منقى الأخبار، القاهرة دار الحديث، 7:166. شهاب الدين بن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، بيروت، دار الفكر، 1993، 14:303.

[3]  Afaf Lutfi Al-sayyid Marsot, the Ulama of Cairo in the 18 and 19 century, in scholars, Saints and Sufis, ed. Nikki Keddi (Berkeley: University of California Press

[4]  سورة الشورى، الآية 38.

[5]  أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق و تقديم عبد الرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1964، ص 186.

[6]  سورة الحجرات، الآية 13.

[7]  سورة هود، الآية 118.

[8]  سورة الأنعام، الآيتان 12 و54.

[9]  سورة المائدة، الآية 32.

[10]  سورة البقرة، الآية 105.

[11]  سورة آل عمران، الآية 74.

[12]  سورة المائدة، الآية 38.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود