برزخ الانتصارية والمظلومية
الخميني في مواجهة ديكارت

 

وسام سعادة

 

قضت الرؤية الخمينية بالجمع بين أقصى الانتصارية وأقصى المظلومية في مركب استضعافي واحد. بهذا الجمع أمكن تعطيل كل الطاقات الحية التي أظهرتها الأيام المشهودة للثورة الإيرانية على نظام الشاه.

مثّلت هذه الثورة أكثر أنماط التحوّل السياسي في التاريخ ابتعادًا عن نموذج انقلاب القصر. وصل الأمر بميشال فوكو، الذي يُعرَف عنه عدم اقتناعه ولا فهمه يومًا للقضية الفلسطينية، أنه رأى في الثورة الإيرانية انتفاضة على أواليات السلطة ككل، وبشارة بسياسة روحانية في وجه السياسة البدنية التي استقرّت على أعتابها الحداثة الغربية، فما عادت تكتفي بالتحكّم بالإرادات، وإنما صارت تتحكّم بحياة الأبدان نفسها.

انتهت ثورة ميشال فوكو على عقلانية ديكارت إلى حيث الاحتفاء فلسفيًا بالحدث الخميني، وبالإمام الخميني في حد ذاته، كحدث. بيد أن ميشال فوكو الذي استعجل محاكمة ميتافيزيقا ديكارت، في أطروحته الشهيرة عن تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، معرّفًا العقلانية الديكارتية بأنها "رُهاب الجنون"، أي وجوب أن يلازم العقل منهجًا في عينه تحت طائلة عدم الوقوع فريسة للجنون، هو نفسه ميشال فوكو الذي قدّم النموذج الأكثر فظاظة من الثنائية الديكارتية عند مقاربته الحدث الخميني، وبجعله الخميني بديلاً من ديكارت، وناهضًا في وجه الحداثة، بحداثة أخرى، ذلك من خلال التنظير لنموذج مبهم دعاه فوكو بـ"السياسة الروحانية" في مقابل "السياسة البدنية".

ميشال فوكو الذي روى عن "العقل الديكارتي" أنه من طبيعة اقصائية تحجر على المناوئين لها، وتزجّهم في السجون بحجّة أنهم مجانين، بل تتعامل مع كل من في السجون على أنهم مجانين، لم يستطع التنبه إلى الجوهر الاقصائي بامتياز، في حدث الثورة الإيرانية، والمتمثّل في هذا الجمع غير المسبوق، على هذا المستوى، بين أقصى الانتصارية وأقصى المظلومية.

يبدو الأمر، عند العودة إلى مواقف فوكو من الثورة الايرانية، كما لو أن الوحدة العرفانية بين العشق والعاشق والمعشوق تترجم، "اضمحلالاً للدولة"، المبنية على التفريق بين الحكم والحاكم والمحكوم، ولمجرّد أن الغيب يحتل المكان الأبرز في التشريع. لم يستطع "منهج" ميشال فوكو أن يفصل بين واقعة أن يكون الحاكم غيبيًا والتوهم بأن يكون الغيب نفسه حاكمًا، ولا استطاع أن يفصل بين واقعة أن يكون الحاكم غيبيًا، حاكمًا بأمر من الغيب، وبين توهّم أن يكون الحاكم غائبًا، لمجرّد أنه غيبي، يأتمر بما يمليه عليه الغيب.

وكما أن ميشال فوكو، وصل بتمرّده على التقليد الديكارتي حدّ ابتذال الثنائية الديكارتية من خلال افتعاله التضاد بين سياسة بدنية وأخرى روحانية، فإن الرافض بشكل قاطع للثورة البلشفية قد عادت وتملّكته الروح البلشفية. فكما أن البلاشفة نظروا إلى كومونة باريس 1871 على أنها المثال، الذي ينبغي الانطلاق منه، لأجل تطبيقه في امبراطورية – قارة في حجم روسيا، فإن ميشال فوكو نظر إلى الثورة الايرانية على أنها الامتداد البدني والروحاني لكومونة باريس الطالبية عام 68، أي الثورة الشبابية – الجنسية الأوروبية، تلك التي يحتفي الغرب بذكراها الأربعين هذه السنة، ولم يحسم الجدل حول تأثيراتها وتداعياتها فيما يتعلّق بأنماط التفكير والعيش في الغرب.

مع ذلك، لم يخطئ ميشال فوكو في مكان ما. هذا إن اعتمدنا مقياس تمكّنه من التعبير الخطابي الأمضى، عن الوهم الصادح الذي كاد أن يجتاح جيلاً بأكمله، في لحظات محتدمة ومشهدية من الثورة الإيرانية، وفي ظل عالم كان محكومًا بقرب انقشاع جملة من أوهام، أوهام ما عادت قابلة للتصديق فيما عنى الإيديولوجيات الشمولية ومتفرعاتها التسلّطية، أو نقائضها الفوضوية التي تظل طفيلية تعتاش في فيئها.

لقد أسقط خائبو القرن العشرين محمولات لا حصر لها على الثورة الايرانية. هربوا من الجمود البريجنيفي، ومن ضمور الماوية أو افتضاحها، ومن تصدّع حركات التحرّر الوطني المخابراتية، ومن تبخّر الثورة الطالبية الباريسية، ومن عدم القدرة على الانتفاع من "النموذج الفيتنامي"، الذي كسفه "النموذج الكمبودي" بشكل عاجل. هربوا من الوجودية ومن البنيوية ومن التفكيك، من الالتزام كما من العبثية، إلى حيث اسقاط كل مرغوب ومشتهى على الثورة الايرانية. كانت اسقاطات من خارج المقال التقليدي للعقل الغيبي المهدوي الثيوقراطي. لكنها كانت اسقاطات أكثر رغبة في انتصار الغيبية من سدنة المعبد أنفسهم. ساهمت هذه الاسقاطات في مكان ما، في اجتماع أقصى الانتصارية وأقصى المظلومية في مركب ذهني واحد.

اعتصم ميشال فوكو بحبل الإمام الخميني في مواجهة عقلانية ديكارت، وإن يكن بأدوات من مخلّفات الثنائية الديكارتية (ثنائية السياستين البدنية والحيوية). لكن ميشال فوكو وسواه في ما بعد، لربّما وجدوا في المانوية الخمينية أو المواقعة بين المستضعف والمستكبر، ما من شأنه التمرّد على "جدلية السيد والعبد" عند هيغل، وهنا أيضًا كان لا بد من الاستعانة بأدوات من مخلّفات المنظومة الهيغلية.

بحجة رمي الديكارتية بتهمة "رُهاب الجنون"، ورمي الهيغلية بحجة "مكيدة النسق"، جرت مبايعة "رُهاب العقل". مثّلت الثورة الإيرانية، وبمعية الاسقاطات الوضعية – التاريخانية التي انهالت عليها مهنِّئةً ومواكِبةً ومنتظرة، حلقة جديدة من المسلسل الذي وصفه جورج لوكاش بنزعة "تحطيم العقل". مثّلت أعظم انتصار للاعقلانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهنا ينبغي التذكير: ليست اللاعقلانية خطابًا "من خارج العقل"، إنما هي خطاب "ضد العقل"، وإن وظّف ما يدرّه العقل لصاحبه، تمامًا مثلما جرى توظيف الجوانب الأكثر ابتذالاً من الديكارتية والهيغلية، لحذف عظمة ديكارت وهيغل، من خلال العشوائية الابستمولوجية عند فوكو لأجل الالتحاق بالخميني.

فعلى الرغم من ابتعادها عن نموذج "انقلاب القصر"، إلا أن الثورة الايرانية لجأت الى تقنية "حريق الرايخستاغ" نفسها لضرب حزب تودة الشيوعي الايراني، كاشفةً عن علامات تماثل غير قليلة مع التراثين الفاشي والنازي. ليست الثورة الايرانية مماثلة نسقيًا لثورة 1933 الألمانية، لكنها، على الأقل، بمثابة 1933 الشرق الأوسط.

وكما قامت "الثورة القومية – الاشتراكية" في المانيا 1933، على صهر البطولية الفروسية بالتظلّم الشديد من معاهدة فرساي، كذلك قامت الثورة الايرانية بدمج الانتصارية بالمظلومية، من خلال تقويض التراث وتوظيفه، عنوةً، في قالب إيديولوجي، يبقى داريوش شايغان خير من شرح طبيعته العدمية.

ولو شئنا الإحالة على النموذج الارتكازي للثورة الفرنسية الكبرى، لبانت الثورة الإيرانية هي عينها الثورة المضادة. لم تتقابل في ايران الثورة من جهة، والثورة المضادة من جهة أخرى. جاءتا كحدث واحد، بشعارات واحدة، والأمر إن اتضح سريعًا، إلا أنه كان مضمرًا كذلك، منذ البدء.

فالثورة الايرانية مبنية أولاً على "سوء تفاهم". تقول إنها تواجه نظام الشاه، وعسف الشاه، والأمركة في ظلّ الشاه. إلا أن ما واجهته، ولا تزال، هو نموذج لم يكن بمقدور الأسرة البهلوية التفكير حقيقة في تطبيقه في ظروف ايران. كانت ثورة الخميني ثورة على مصطفى كمال أتاتورك، لا ثورة على محمد رضا بهلوي، ثورة على أتاتورك من خارج السياق التركي، ومن خارج السياق السنّي المعني بضياع الخلافة، ثورة على أتاتورك، تحديدًا لأن الجنرال محمد بهلوي، لم يتمكن بعد أخذه السلطة عام 1925 من أن يتحول إلى مثال جمهوري كمالي آخر، وإنما انقاد، وابنه، وراء بهرجة شاهنشاهية بأحلام امبراطورية، فقام النظام الخميني في نهاية الأمر، كشاهنشاهية بديلة، شعبوية ومهدوية، جامعة لمنتهى الانتصارية مع منتهى المظلومية.

الثورة المضادة تعني ملازمة الأشكال الأكثر تزمّتًا للعيش الاجتماعي. وهذه حال الثورة الايرانية: ميليشيات شبابية تغالي في البطريركية في وجه الشيوخ، وتغالي في الذكورية تحت ذريعة تجنيب المرأة أخطار التسليع الرأسمالي.

لكن الثورة الايرانية ثورة مضادة بمعيار أكثر جذرية، لأنها ثورة دائمة على منطق الدولة الحديثة. منطق الحداثة السياسية ينحو إلى حيث تحقيق حصرية منظومة العنف الشرعي في جهاز الدولة. أما اجتماع التحديث القسري التظلّمي والتحديث اللاواعي الانتصاروي، فلم يكتف بأن خلط الحابل بالنابل، على صعيد المزج بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية، وبين الشرعية الثورية – الشعبية والشرعية المستمدة من وحي ثوري – عُلوي؛ إنما جاء ليقيم دولة لا تحتكر العنف، ولا يقوم كيانها الدواويني والمعنوي في قبالة مجتمع مدني مراقب لها، ومحاسب لصنائعها. إنما دولة تنبري ميليشيات "حرس الثورة" كفاصل واصل بينها وبين المجتمع.

لقد أوجدت هذه الميليشيات مشروعيتها "في ما وراء الدولة والمجتمع". بنت الثورة الايرانية تصورها لنفسها، ولخصومها، على أنها قائمة في برزخ "ما بين الدولة والمجتمع"، برزخ هو في الوقت عينه "في ما وراء"، أو "ما فوق" أو "ما قبل" الدولة والمجتمع. في هذا المعنى، ليست المشكلة اللبنانية إلا بمثابة تكثيف للمشكلة الايرانية التي عمرها من عمر الثورة، والنموذج الجمهوري الإسلامي الذي أقامته هذه الثورة، لا تقوم حجته ضد النموذج الامبراطوري الشاهنشاهي، وإنما ضد النموذج الجمهوري الكمالي الذي وجّهت حرابها ضدّه، مع أنه كان غائبًا في ايران.

الطامة الكبرى أن انتظارات ميشال فوكو في صدد "السياسة الروحانية" الخمينية لم تكن إلا أكثر واقعية وأكثر أخلاقية من كل الانتظارات "الوضعية" أو "الدنيوية" الأخرى المبتهلة للثورة الايرانية، من خارج مرجعية الفكر الديني، وإن يكن أحيانًا من ضمن سياسات الولاء للعنصر الاثني – المذهبي.

على الأقل، يبقى ثمة فارق كبير، على رغم كل شيء، بين زمن الإمام الخميني وزمن أحمدي نجاد. هنا أيضًا، يحضر تطوير كارل ماركس لتلك الفكرة الموروثة عن هيغل، والتي مؤداها أن كل ظاهرة تتكرّر مرتين، المرة الأولى كمأساة (الحرب العراقية - الايرانية) والمرة الثانية ... لن نقول كمسخرة، إنما كانتصارات، لكن انتصارات من أي نوع؟ من النوع الذي يذكّرنا بانتصارات بيروس الابيري ضد الرومان في جنوب ايطاليا. وقد نسب بلوطارخوس إلى بيروس الابيري قولاً ترجمته:

انتصار إضافي مثل هذا الذي حققناه، وننقاد تمامًا إلى حيث الهزيمة والتهلكة.

*** *** ***

الملحق الثقافي، النهار 1-6-2008

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود