ما هو عصر التنوير؟

 

إيمانويل كانط

 

ما هو عصر التنوير؟ هو خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر، عند الإنسان، خارج قيادة الآخرين. والإنسان [القاصر][1] مسؤول عن قصوره لأنّ العلَّة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر التنوير.

إن الخمول، والجبن، هما السببان اللذان يفسِّران وجود عدد كبير من الناس قد حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من قيادة غريبة [عنهم]، لكنهم ظلوا قُصِّرًا طوال حياتهم عن رضا منهم، حتى لَيَسْهُل على غيرهم فرضُ الوصاية عليهم. وما أسهل أن يبقى المرء قاصرًا. فإذا كان لدي كتاب يحتل عندي مكان الفكر، وقائد يعوِّض الوعي فيَّ، وطبيبٌ يقرر لي برنامج تغذيتي، الخ... فلا حاجة لي في أن أُحمِّل نفسي عناء [البحث]، ولا حاجة لي في أن أفكر ما دمت قادرًا على دفع الثمن لكي يُقْبِل الآخرون على هذه المشقة المملة.

إن الأغلبية الكبيرة من الناس (بما في ذلك الجنس اللطيف إجمالاً) تعتبر تلك الخطوة نحو الرشد عظيمة الخطر، فضلاً عن أنها أمر مرهق. ويساعدهم على القبول بحالة القصور هذه، أولئك الأوصياء الذين آلوا على أنفسهم  ممارسة سلطة لا تطال على الإنسانية. فبعد أن أطبقوا [سجن] البلاهة على قطعانهم وعملوا على مراقبة هذه المخلوقات الهادئة مراقبة دقيقة، حتى لا تسمح لنفسها بالمُجاسرة على أدنى خطوة خارج الحقل الذي حشرت فيه، أظهروا لها الخطر الذي يهددها إن هي غامرت بالخروج وحدها. لكن الخطر ليس كبيرًا في حقيقة الأمر لأنها [لو أقدمت عليه] فسوف تتعلم السير، بعد عثراتٍ قليلة. إلا أن مثل هذه الكبوات يولِّد الاحتراز وعادة ما يَحْمِلنا الخوف، الذي ينتج عن ذلك، على العدول عن محاولة أخرى. لذلك فإنه من العسير على أي شخص بمفرده الإفلات من حالة القصور التي كادت أن تصبح طبيعة فيه، إذْ صار يرتاح إليها، غير قادر في هذه الفترة على استخدام فكره الخاص، وقد حرم من فرصة المحاولة. فالمؤسسات والصِّيغ [الجامدة]، أي تلك الآلات المختصة باستعمال العقل، أو بتعبير أدق، باستعمالٍ سيء للمواهب الطبيعية هي الجلاجل التي عُلِّقت على أرجل القاصرين، في حالة القصور التي مازالت قائمة. وحتى إذا تخلص أحدهم من هذه الجلاجل فهو لا يستطيع القيام بقفزة غير واثقة من فوق أصغر الأخاديد، لأنه لم يتعود بعد على تحريك ساقيه بحرية. لذلك فإن قِلَّة من الناس توصَّلت من خلال إعمال ذهنهم الخاص[2] إلى الانعتاق من حالة القصور والقدرة على السير بخطوة ثابتة. أما أنْ يستنير جمهورٌ بنفسه فهذا يدخل أكثر [من أن يستنير شخص بمفرده كما تبيِّنه الفقرة السابقة (المُعرِّب)] في حيز المحتمل، بل إن هذا الاحتمال لا يمكن تجنبه إذا ترك للجمهور قَدْر كافٍ من الحرية، إذ لابد من وجود عدد من الناس يفكرون بأنفسهم ضمن الأوصياء الرسميين على الجُموع، أولئك الذين تخلصوا من نير حالة القصور، وطفقوا ينشرون بين الناس روحًا تجعلهم يقدرون قيمتَهم الخاصة، وجُنوحَ كل إنسان إلى التفكير بنفسه. وعلينا أن نلاحظ أن الجمهور الذي كان تحت سلطة هؤلاء الأوصياء سوف يجبرهم [بعدد أن تحرر منهم] على البقاء في وضع أدنى حين يدفعه بعضٌ من الأوصياء الآخرين، ممن عجز عن التمتع بمزايا التنوير، إلى الانتفاضة العنيفة، وذلك يدلُّنا على مضارِّ الأحكام المُسبَّقة والتي تنتقم ممن زرعها أو ممن سيأتي بعده، لأن الجمهور لا يصل [مرحلة] التنوير إلا على مَهل: فبإمكان الثورة أن تُسْقِط الاستبداد الفردي، والاضطهاد المستغِل، أو الطموح، ولكنها لن تأتي أبدًا بإصلاح حقيقي لطريقة التفكير، بل تولِّد، بالعكس، أحكامًا مُسبَّقة [جديدة] تشكل مع الأحكام المسبقة القديمة تخومًا تفصل الثورة عن الجموع الكبيرة المحرومة من التفكير.

أما بالنسبة للتنوير فلا شيءَ مطلوبٌ غير الحرية، بمعناها الأكثر براءة، أي تلك التي تُقْبِل على استخدامٍ علني للعقل في كل الميادين. إلا أني أسمع الآن وفي كل اتجاه من حولي صيحة تقول: "لاتفكروا". فالضابط يقول: "لاتفكروا.. عليكم أن تنفِّذوا..."، والمسؤول المالي يقول: "لا تفكروا عليكم أن تدفعوا"، ورجل الدين يقول: "لا تفكروا عليكم أن تؤمنوا" (هناك سيد واحد في العالم يقول: "فكروا قَدْرَ ما تشاؤون، وفي ما تشاؤون، ولكنْ عليكم أن تطيعوا.)[3] في كل مكان يوجد تحديد للحرية. ولكن أي تحديد يناقض التنوير؟ وما هو التحديد الذي لا يناقضه بل والذي يمكن أن يكون لصالحه؟ أجيبُ فأقول إن الاستخدام العام لعقلنا لابد أن يكون حُرًا في جميع الحالات، وهو الذي يستطيع وحده أن يأتي بالتنوير إلى البشر، غير أن الاستخدام الخاص لعقلنا لابد أن يخضع لتحديد صارم جدًا دون أن يكون ذلك من الموانع المحسوسة في طريقة التنوير.

وأقصد بالاستخدام العام لعقلنا ذلك الذي يقوم به المرء حين يكون عالِمًا، في اتجاه الجمهور الذي يقرأ. أما الاستخدام الخاص [لعقلنا] فهو الذي يعطينا الحق في ممارسته والعمل به من موقع مدنيّ، أو أي وظيفة محددة تم تكليفنا بها، إذ يوجد، ضِمنَ مسائل عديدة تخص المصلحة العامة للمجموعة، جهازٌ آلي معيَّن يحتِّم على بعض من أعضاء هذه المجموعة القيام بحركات لا إرادة لهم فيها، توجهها الحكومة - بفضل إجماع اصطناعي- نحو [تحقق] الأهداف العامة أو- على الأقل- لكي تمنع القضاء على هذه الأهداف. هنا لا يُسمح بالتفكير، بل تجب الطاعة. ولكنْ إذا كانت هذه القطعة من الجهاز الآلي عضوًا في المجموعة، أو في المجتمع المدني العالمي، بصفته عالَمًا في الوقت نفسه، وإذا توجَّه هذا العضو بكتابات استند فيها إلى فكره، ففي هذه الحال يمكنه أن يستخدم عقله دون أن يؤثر ذلك على الشؤون التي كُلِّف بها خلال جزء من وقته كعنصر سلبي. وأن يرغب الضابط، الذي تلقى أمرًا من رئيسه، في إعمال عقله ضمن مهمته للبحث عن جدوى هذا الأمر أو فائدته، فهذا أمر خطير ولابد لهذا الضابط أن يمتثل. ولكنْ إذا أردنا أن نكون مُنصِفين [نقول] أن لاشيء يَحْظر عليه، إذا كان عالِمًا، إبداءَ ملاحظاته حول الأخطاء الواردة في الجهاز الحربي وتقديمَ هذه الملاحظات لجمهوره حتى يحكم فيها. ولا يمكن للمواطن أن يرفض أداء الضرائب المفروضة عليه سيِّما وأنّ نقدًا لاذعًا لهذه الواجبات، إنْ لزمه قبولها، يعرِّضه للعقاب، بسبب الفضيحة التي يمكن أن تتولد [عن نقده] (وما ينجرُّ عن ذلك من اضطراب شامل في النظام)، أما وقد وضعنا هذا التحفُّظ، فلا نرى تناقضًا مع الواجبات إنْ عبَّر هذا المواطن - بوصفه عالِمًا - وبصفة علنية عن نظرته في رعونة ذلك النوع من الجِبَاية أو في جور [من فرضها]. كذلك على رجل الدين أن يقوم بتعليم رعيته، وفي معبده، بحسب رمز الكنيسة التي يخدمها لأنه انتُدب بحسب هذه الشروط، ولكنه يتمتَّع، كعالِم، بكامل الحرية (إن لم نقل أن ذلك من واجبه) في أن يمدَّ الجمهور بكُلِّ الأفكار، بعد أن يَزِنَها بثباتٍ ونيَّة حسنة، حول ما يراه خاطئًا في هذا الرمز، وفي أن يقدِّم لهذا الجمهور مشروع رؤيته لتنظيمٍ أفضلَ للشؤون الدينية والكنائسية. وفي هذا أيضًا لا يوجد ما يمكن أن يُثقل ضميره، لأنّ ما تعلَّمه وفقًا لوظيفته كمُمثِّل للكنيسة لا يُقدِّمه إلا كأمر لا حرية له في إبداء الرأي فيه وإنما كتعاليمَ قد التزم بتدريسها باسم سلطة أجنبية [عنه].

ولسوف يقول: "هذا ما تعلِّمه كنيستنا وها هي الحجج التي تستعملها [في ذلك]". وقد يُبْرِز، بهذه المناسبة، لرعيته الميزات العملية من الأطروحات التي لا يتفق معها عن اقتناع كامل والتي التزم، رغم ذلك، بعرضها، إذ من الممكن أن يكون وجد فيها بعض الحقيقة الكامنة أو، على الأقل، لم يجد فيها ما يتعارض مع الإيمان الذاتي [عنده]. أما إذا تعرَّض لشيء من هذا القبيل فلا يمكن له عند ذلك الاحتفاظ بمهامه والبقاء على اتفاق مع ضميره وعليه، إذًا، أن يعتزل [عمله]. ونتيجةُ ذلك أنّ المُربّي إذا استخدم عقله أثناء عمله وأمام من حضر دروسه لا يقوم إلا باستعمالٍ خاص للعقل لأنّ المسألة تخص اجتماعًا عائليًا، مهما بلغ حجم [هذه] العائلة. وهو يتصرف أمامها على أنه رجل دين غيرُ حر، ولن يكون حرًا، لأنه يؤدي مهمة خارجة [عن نطاقه]. أما إذا اعتبرناه عالِمًا يخاطب بكتاباته الجمهور الحقيقي، أي العالم، - كعضو في مَجْمَع ديني ضمن استخدامٍ عامٍّ لعقله - فإنه يتمتع بحرية لا حدود لها في استعمال عقله والتحدث باسمه الخاص. والادعاء القائل بأن الأوصياء على الشعوب (في الأمور الدينية) لابد أن يظلوا قُصَّرًا هم أنفسهم يُعدُّ سخافة أسهمت في تأييد السخافات [الأخرى].

ولكنْ ألا يحق لمثل هذه الجمعية الدينية، سواء كانت مَجْمَعًا كنائسيًا أو طبقة من الآباء (كما تسمى في هولاندا) أن تلجأ إلى دعوة [أعضائها] إلى تأدية اليمين على رمز معين ثابت، لكي تُسَلِّط وصاية أعلى، دائمة، على كل عضو، وحتى تؤيد هذه الوصاية من خلاله؟ أقول أن هذا الأمر مستحيل تمامًا. لأن مثل هذا النوع من التعاقد يقرر الاستغناء نهائيًا عن كل تنوير جديد يمكن للجنس البشري أن يستقبله، ويظل على هذا الأساس لاغيًا وغير ذي مفعول، حتى وإن كان مُزَكَّى من سلطة أسمى، أيْ من البرلمانات أو من المعاهدات السلمية الأكثر جلالاً. ذلك لأنه لا يمكن لقَرْنٍ ما أن يولِّد اتفاقًا يقيِّدُ القرن الذي يليه بوضعٍ يجعله غير قادر على توسيع معارفه (بخاصة منها تلك التي تتعلق بمصلحة على هذا القدر من الخطر) ويحرمه من التخلص من أخطائه، والتقدم، بصفة عامة، على [طريق] التنوير. إنها لجريمة في حق الإنسانية التي يحملها قَدَرُها الأصيل نحو هذا التقدم بالذات. لذا يحق للخَلَف أن يرفض تمامًا مثل هذه القوانين وأن يحتجّ [على ذلك] بجهلِ من قام بسَنِّها وطيش دوافعه. فحجر الزاوية في كل ما يمكن تقريره لصالح شعب ما، في شكل قانون، يكمن في السؤال التالي: "هل يقبل هذا الشعب أن يَهَب نفسه قانونًا كهذا القانون؟" من الحائز أن يكون القانون المعنيُّ ممكنًا لمدة محددة قصيرة، في انتظار قانون أفضل، وتحسُّبًا لإدخال تنظيم معين، ولكنْ على شرط أن يترك لكل مواطن - وبخاصة لرجل الدين إن كان عالِمًا - الحريةَ في صياغة الملاحظات حول العيوب التي تحتوي عليها المؤسسة الحالية، على أن تكون هذه الصياغة علنية، أي في شكل كتابات، مع الإبقاء على النظام القائم. وذلك حتى يأتي يوم يتقدم فيه البحث في هذه الأشياء أشواطًا بعيدة تجعله يتأكد بما فيه الكفاية، فيُرفَع أمام العرش مشروعٌ مُدَعَّم باتفاق [أغلبية] الأصوات (إن لم نقل جميعها) يهدف إلى حماية المجموعات المتضامنة، بحسب آرائها الخاصة، والمتفقة على تغيير المؤسسة الدينية، دون أن يُلزم ذلك أولئك الذين ظلوا أوفياء [للمؤسسة] القديمة. أما أن يكون الاتفاق على دستور دائم لا يأتيه الشك، حتى ولو كان ذلك لمدة تعادل عمر إنسان، مما يقضي على الإنسانية، ردحًا من الزمن، بالعقم في [توقها] إلى التقدم ويضرّ بالأجيال القادمة، فهذا ما هو محظور إطلاقًا.

ويمكن لشخص ما، في ما يتعلق به شخصيًا، أن يؤجل الحصول على معرفة لابد له من الحصول عليها. أما أن يُعرِض عنها وأن يَحْرم منها الأجيال المقبلة، فهذا يسمى بالتجنِّي على حقوق الإنسانية المقدسة ودَوْسِها. ويبقى ما حُرِّم على الشعب تقريره، مُحَرَّمًا، من بابٍ أَوْلَى، على الحاكم، لأنّ سلطة الحاكم في التشريع منبثقة من الشعب وهو يستمد إرادته الخاصة من إرادة الشعب العامة. فَلْيَسْهَرِ الحاكم على إبقاء الإصلاح، المُنجَز أو المُفتَرَض، متفقًا مع النظام المدني، وليترك الحرية لرعاياه في البحث عما يجب عليهم القيام به ليحصلوا على نجاة أرواحهم [في الآخرة]. فليس هذا الأمر من شأنه وإنما عليه، بالمقابل، أن يمنع البعض [من الشعب] من حرمان البعض الآخر، بالقوة، من العمل على تحقيق النجاة والإسراع بها بكل ما أوتي من جهد. والحاكم يضر بهيبته إن هو تدخل في هذا الشأن وأعطى تكريسًا رسميًا للكتابات التي يحاول فيها رعاياه توضيح آرائهم. فإنْ فعل انطلاقًا من سلطته الشخصية فهو يتعرض لِلَوْمِ القائل "إنّ قيصر ليس أرفع [شأنًا] من النحويين" وإن هو حَمَى في دولته الاستبدادَ الكنسي وبعضًا من المستبدين على بقية رعاياه فهو يُضْعِف من قدرته العالية.

وإذا سُئلنا بعد كل هذا: "هل نحن نعيش الآن قرنًا مستنيرًا؟" فإن إجابتي تكون على النحو التالي: "لا.لأننا في الواقع [نعيش] قرنًا يسير نحو التنوير"، فنحن لمّا نَزَلْ في مرحلة نفتقر إلى عناصر كثير أخرى تحمل الناس إلى حالةٍ تمكِّنهم من ممارسة تفكيرهم الخاص في الأمور الدينية بإحكامٍ وقدرةٍ ودون نجدة الآخرين.

ولكن أن يكون للناس الآن مجالٌ أرحب في ممارسة هذا [التفكير الخاص] بحرية، وأن يكون عدد العقبات أقل من ذي قبل نسبيًا، في الطريق نحو عصر شامل للتنوير يخرج بالناس من حالة القصور التي يبقون هم المسؤولون عنها، فهذا ما لنا عليه مؤشِّراتٌ مؤكَّدة. من هذا المنطلق يمكن القول أن هذا القرن هو قرن التنوير وقرن [الملك] فريدريك. فالأمير الذي لا يتأفَّفُ عن التصريح بأن من واجبه أن لا يأمر بشيء في الأمور الدينية، وأنه يترك للناس كامل الحرية في ذلك، والذي يُعرِض عن لفظة التسامح المتعالية، يبقى هو نفسه مستنيرًا: فهو يستحق، إذًا، إجلال معاصريه واعتراف الأجيال المقبلة [بجميله]، لأنه أولُ من أخرج الجنس البشري من حال القصور، من وجهة نظر إدارية على الأقل، وتَرَك لكل [شخص] الحرية في استعمال عقله الخاص في أمور العقيدة. ففي عهده أصبح من حقِّ رجال الدين الأجلاّء، إذا كانوا علماء، أن يتفوهوا بأحكامهم وآرائهم التي تخالف الرمز الرسمي، دون أن يكون لذلك انعكاس سيء على واجباتهم تجاه وظائفهم. كما أصبح من حقهم أن يعرضوا علانية [هذه الأحكام وهذه الآراء] على اختبار العالم، وهذا ينسحب، بالطبع، على كل شخص لا يتقيَّد بأي التزام تجاه وظيفته. وقد انتشرت روح الحرية هذه في الخارج حتى وإن هي تعرضت لعقبات موضوعية [أقامتها] الحكومة التي لم تستوعب روح الحرية بعدُ. وما نحن فيه [حكومة فريدريك] يقوم مثلاً أمام كل حكومة لم تفهم أن لا خوفَ إطلاقًا على العهد السياسي، ولا على وحدة المؤسسة العامة من توفير جوّ الحرية، حيث سيبذل الناس كبير الجهد حتى يخرجوا من حالة الصلافة، إن لم يكن هناك من يجتهد في إبقائهم عليها.

لقد ركّزت اهتمامي في بحثي حول حلول عصر التنوير، على ذلك النوع [من التنوير] الذي يحِّرر الناس من حالة القصور التي يبقون هُمُ المسؤولون عليها، وقفت على المسائل الدينية؛ ذلك لأنه لا مصلحة لحكامنا، في ما يخص الفنون والعلوم، في أن يقوموا بدور الأوصياء. ثم إن حالة القصور هذه [الدينية] التي تناولتها، هي الأكثر ضررًا والأدهى خِزْيًا. ويذهب منهج التفكير عند رئيس الدولة الذي يشجع التنوير إلى أبعد من هذا فيعترف، من منطلق تشريعه أيضًا، أنْ لا خطر [عليه] في أن يسمح لرعاياه باستخدام علني لعقلهم حتى يقدموا للعالم ما أنتجوه من أفكار تشير إلى بناء أفضل لهذا التشريع، حتى ولو كان ذلك من خلال نقد صريح للتشريع الذي تم سَنُّهُ. إنّ لنا في هذا لمَثَل كريم لم يتجاوزه أيُّ ملك عدا الذي نُجِلِّه.

وهذا الملك المستنير هو الملك الوحيد الذي لايخشى البقاء في الظلّ وقد مَسَك بجيش عتيد حَسَن التنظيم، يضمن به الطمأنينة العامة، وهو [الملك] الوحيد الذي يقدر على التصريح بما لا تجرؤ أي دولة حرة [أخرى] على التصريح به: "فكروا قدر ما تشاؤون وفي ما تشاؤون، وعليكم أن تطيعوا."

هكذا تأخذ الأمور الإنسانية مجرى مثيرًا غير منتظر. ومهما يكن من أمر، وإذا اعتبرنا سياق الأمور في جملتها، نرى أن كلَّ شيء تقريبًا يثير الإحساس بالمفارقة: فالحصول على درجة أعلى من الحرية المدنية يبدو مفيدًا لحرية الفكر عند الشعب في الوقت نفسه الذي يفرض عليه حدودًا لا يمكن له تخطيها. [ومن ناحية أخرى] فإن درجةً أدنى تُوفِّر له الفرصة في أن ينشر نفوذه الكامل. وما أن تُحرِّرُ الطبيعة، من تحت قشرتها الصلبة، بذرةَ الميل والتأهب للفكر الحر حتى تحدوها بعطفها وتجعل منها ذلك النزوع الذي سيؤثر تدريجيًا وبمفعول رجعي على مشاعر الشعب (ومن خلال هذه المشاعر يزيد الشعب شيئًا فشيئًا من الاستعداد للسلوك بحرية). وسوف يؤثر هذا النزوع بدوره، آخر الأمر، على أُسس الحكم الذي سيرى من صالحه أن يُعامَل الإنسان - وهو الذي لم يَعُدْ مجرَّد آلة - حسب التقدير الذي يستحق.

في الأسبوعيات الجديدة لبويشنينغ، العدد الصادر في 13 أيلول، أقرأ اليوم، الثلاثين [من الشهر نفسه] إعلانًا عن صدور المجلة الشهرية البرلينية، حيث توجد إجابة السيد مندلسهن على هذا السؤال نفسه. لم أطّلع عليه بعد، ولو كنت فعلت لعَدَلْتُ عن الإدلاء بإجابتي التي لا يمكننا الآن أن نعتبرها إلاّ مجرد تجربة تسمح لنا بتقدير مدى ما تأتي به المصادفة من توارد الخواطر.

ترجمة: يوسف الصدِّيق

مجلة الكرمل، العدد 13، 1984

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] للجملة الفلسفية الكانطية بنية متشعبة تجعلها "تَلْبَس" الفكرة ولا تنتهي إلاّ بانتهائها. فالتنقيط "النحوي" عند هذا الفيلسوف يبقى تحت قيادة النَفَس الاستدلالي الذي يطول أحيانًا إلى حدِّ إرهاق القارئ، والتباس الأمور عليه. حاولنا الإبقاء على هذه الصياغة في ترجمتنا لنص كانط من الترجمة الفرنسية، مع لجوئنا في كل مرة إلى القاموس الكانطي الأصلي، بالألمانية، في تعريبنا للمفاهيم الفلسفية، وقد زدنا كلمات، أو أحيانًا تعابير كاملة، بين معقوفين [...] لتوضيح الفكرة. أما ما هو بين قوسين فهو من عند كانط.

[2] ترجمنا بكلمة الفكر المفهومَ الكانطي verstandt – بالفرنسية Entendement-، وبكلمة عقل المفهوم vernunft –بالفرنسية Raison- كما جرت العادة في الترجمات العربية لأهم أعمال كانط؛ أما حين يستعمل اللفظة Geist –بالفرنسية Esprit - وهي تعني بالضبط العقل في بعديه الجماعي والتاريخي، فقد فضَّلنا تعريبها بكلمة الذِّهن.

[3] يقصد كانط بهذا "السيد الوحيد" الملك فريدريك ملك بروسيا الذي كان يعيش في عَهْده، كما سيبين النص ذلك فيما بعد.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود