|
لا لانتفاضة ثالثة
أسجل اعتراضي على هذا المصطلح الشائع لأنه يتجاهل مقاومة شعبنا وأمتنا التي تتواصل منذ منتصف القرن التاسع عشر. وذلك لأن بعض أهلنا يروق لهم الادعاء بأن المقاومة بدأت بهم، أو بقبيلتهم، قبل عقدين أو خمسة عقود. وهذا تزييف واضح للتاريخ، وطمس للحقائق، واستخفاف بمقاومة خمسة أجيال. كما ينطوي هذا المصطلح على اصرار على الأداء القبلي وأولويات القبيلة، على حساب الجهد المؤسسي الذي يراكم جهود المراحل بعد تقييمها. لماذا نتجاهل مقاومة أجيال من شعبنا وأمتنا؟ ولماذا نقفز عن عهود المقاومة ومراحلها منذ عهد موسى كاظم الحسيني، والحاج أمين الحسيني، وأحمد الشقيري، وياسر عرفات؟ لماذا لم ندرس هذه المراحل دراسة الفقهاء الخبراء، ولماذا اكتفينا باستعراض الوعاظ الخطباء؟ دعونا نترفع عن الشهوات الشخصية والمصالح القبلية. لنحترم أهلنا الذين يحتاجون إلى مقاومة منهم وبهم وإليهم، و إلى أن يتحرروا من نمط مقاومة يكون للناس، فيها، دور المصفقين الهاتفين المكبرين المسددين فاتورة الدم والهم. الناس بحاجة إلى شراكة حقيقية تحترم مصالحهم أولاً وثانيًا وثالثًا وأخيرًا. إطلاق تصريحات بانتفاضة ثالثة بدون إجراء عملية مراجعة وتقييم للانتفاضة التي اشتعلت في 28-9-2000، وما قبلها، لا يدل على حرص ولا حكمة ولا بصيرة. فالدعوة والمقاومة يجب ألا تخضع لغايات وأساليب الدعاية، وغايات وأساليب العمل القبلي. المقاومة واجب ومسؤولية شرعية ووطنية وأخلاقية، لذلك يجب أن تُستخدم الأنماط الأنجع والأفضل والأفعل وفق معايير مصلحة الناس، وليس وفق أية معايير أخرى. ولماذا ندير ظهورنا إلى خبرة شعبنا وأمتنا في المقاومة الشعبية التي انطلقت في الأيام الأولى من الاحتلال، وكانت غايتها الصمود والبقاء ورفض الهجرة ومقاومتها؟ هذه المقاومة التي اعتمدت على عدة أسس هي: 1- التخلص من كل الصراعات الحزبية والطبقية والعائلية لمصلحة الوطن، وإعطاء الأولوية للمصلحة العامة، التي أجمعت على غاية واحدة وهي البقاء والصمود ومقاومة الهجرة؛ لذلك وجدنا من كانوا مع الحكم، ومن كانوا مع المعارضة، بما فيهم قيادات الحزب الشيوعي، وحركة القوميين العرب، وحزب البعث، في نفس الخندق مع أصحاب رأس المال، رغم كثير من الصراعات والتلاسنات والاتهامات والاعتداءات التي حدثت بينهم قبل أيام من الاحتلال. 2- وبهذا مارست قيادة نابلس، بكل أطيافها السياسية والطبقية، الوحدة الوطنية في ميادين العمل وليس من خلال خطب وتصريحات واتفاقيات. ذلك لأن الوحدة الوطنية من القواعد الأساسية للمقاومة الشعبية لكي تعمل القيادات على توحيد الشعب من خلال توفير فرص العمل، ومقاومة البطالة، ومن خلال التضامن والتكامل. إذ أن ذلك يعتبر أساس المقاومة، بل مقدمة لا بد منها لغيرها من أنماط المقاومة. 3- لذلك حرصت القيادة على إعادة فتح المدارس - ضمن ضوابط وشروط واضحة - وكذلك إعادة فتح إدارات متنوعة، حتى لو كان ذلك مطلبًا للاحتلال. وبكلمات واثقة راسخة غير قابلة للتردد والمواربة والضبابية والتأويل، فإننا جميعًا، على تنوع أطيافنا وشرائحنا ومواقعنا في سلم المسؤولية، مدينون إلى نهج المقاومة الشعبية في بقائنا على أرض الوطن. ولولا هذه المقاومة اللاعنفية لتحولت نابلس، وغيرها، إلى مدينة صهيونية بأقلية عربية، تمامًا كاللد والرملة وعكا وحيفا. وبغض النظر عن فرعيات وتفصيلات مهمة فإن بقاء وصمود (4، 5) مليون عربي داخل فلسطين هو الرد الأقوى والأجدى على المشروع الصهيوني الذي لم يتراجع عن قاعدته الأساسية التي تلخص وتكثف مشروعه: (أرض أكثر وعرب أقل). ونحن بدورنا، بعيدًا عن الاختلافات المشروعة والخلاف غير المشروع، وضعنا غاية خلال العقود الخمسة القادمة تتلخص في 6 كلمات هي: "حماية الوجود العربي في فلسطين وتطويره". وبالتالي فإن المقاومة الشعبية يجب أن تخدم وجودنا، وتعمل على تطويره. لذلك فإن نمط المقاومة يجب ألا يدخل في باب العمل العشوائي والجهد المرتجل، ويجب ألا تخضع المقاومة لأولويات شخصية أو قبلية، أو غير ذلك من أولويات. ولم تكن المقاومة الشعبية مقتصرة على الشهور الأولى للاحتلال فحسب، وإنما واصل شعبنا الالتزام بهذا النمط من المقاومة في كثير من الأحداث المواقف، لعل أبرزها الانتفاضة التي انطلقت في 9-12-1987. هذه الانتفاضة التي وضعت الاحتلال في الزاوية عاريًا وبلا أقنعة، ليس فقط أمام أبناء أمتنا وأصدقائنا فحسب، بل أيضًا أمام الأصدقاء التقليديين لإسرائيل والداعمين لها ماديًا وإعلاميًا وعسكريًا وسياسيًا. وقد أورد زئيف شيف وأهود ايعاري في كتابهما انتفاضة ترجمة دافيد سجيف - منشورات دار شوكن للنشر القدس وتل أبيب 1990، صورًا من إنجازات الانتفاضة اللاعنفية، اقتبس منها: وبلغت إسرائيل ردود فعل ساخطة من كل حدب وصوب، وكانت أشد وأقوى من ردود الفعل على استخدام النار الحية أو قتل المتظاهرين، وأشد من نسف بيوت، أو إبعاد زعماء الانتفاضة. وكان من الصعب على ديوان رئيس الدولة مثلاً الثبات أمام وابل الرسائل التي وصلت إليه بهذا الشأن. فقد انتقد كثير من رجال الفكر اليهود والحاخامين ورؤساء الطوائف اليهودية والمنظمات المعروفة بتأييدها لإسرائيل عشرات السنوات بكل ما أوتوا من قوة، استخدام القوة أكثر مما ينبغي ضد مدنيين. وجاء في بيان للاتحادات النقابية الكبرى في الولايات المتحدة A.F.L.-CI.O : إن هذه سياسة لا تغتفر على الرغم من الحالة الصعبة التي تمر بها إسرائيل. ماذا دهاكم أنتم في إسرائيل؟ كما أن انجازات الانتفاضة شملت المجتمع الإسرائيلي الذي وجد نفسه مضطرًا إلى الاعتراف بحقيقة وجود شعب يرفض الاحتلال، ويطالب بحريته وحقوقه. وهذا اقتباس من كتاب زئيف شيف وأهود يعاري: لقد فقدت إسرائيل طمأنينتها، كما فقد المجتمع الإسرائيلي الكثير من ثقته بنفسه على الرغم من القوة العسكرية التي تثير الإعجاب للدولة التي يعيش فيها. وتبين على حين غرة للكثير من الإسرائيليين أن آلاف الدبابات والطائرات لا تكفي. كما أن السلاح غير التقليدي لا يستطيع حل مشكلات أمنية تراءت دائمًا وكأنها قليلة الأهمية أو تافهة. وشرح أحد علماء النفس بأن المجتمع الإسرائيلي زُجّ في حالة تدعو إلى السخرية، حيث يشعر فيها الفاتح نفسه وكأنه يقع تحت الاحتلال. لقد أقحم المجتمع الإسرائيلي في احباط وضائقة لأنه أحس بأن دولة إسرائيل ماثلة إزاء وضع لا حل له بالوسائل التي استخدمها حتى الآن. فجسمت الانتفاضة واقعًا يؤكد أنه لا يمكن حل قضية معقدة ومستعصية كهذه بلا تحليل جذري، وأنه لا مجال للتهرب من هذا التحليل. وسرعان ما وجد الاحتلال مخرجًا من محنته وأزمته عبر العسكرة التدريجية للانتفاضة التي بدأت باللثام ثم حمل العصي، فالسيوف والبلطات، ثم المسدسات والمدافع الرشاشة. وبهذا نجح الاحتلال في استدراجنا إلى ساحته التي يحقق فيها تفوقًا حاسمًا ومضمونًا، وهي ساحة العنف والسلاح. بدأت الانتفاضة تفقد طبيعتها اللاعنفية مع كل خطوة باتجاه العسكرة، وتراجعت مشاركة الأمهات والعمال والأطباء والتجار والمثقفون وصغار الكسبة والطلاب والمعلمون، لتختزل بمئات المقاومين الذين انقسموا إلى فصائل، ومجموعات وخلايا؛ وليحدث التغيير العميق في الانتفاضة بتحولها من راية الحرية والعدالة التي يشارك الجميع في حملها، إلى رايات عديدة بأسماء قديمة وجديدة كثيرة دخلت مع بعضها في صراع عنيف. وأججت الصراع ممارسة بعض هذه المجموعات لسلطات تشريعية وقضائية وتنفيذية كالتدخل في الشؤون التجارية والمنازعات المالية والعائلية والوطنية والزوجية والحقوقية، وكانت بعض القرارات كأنها (تجعل الناس يخرجون من دين الله أفواجًا)، لتصبح المقاومة خاصة بفئة، في بعض صورها وتجلياتها، منعزلة ومعزولة عن الناس. ولأننا لسنا مؤسسة تضع السياسات والإستراتيجية والخطط، وتتابع وتراقب وتقيم وتستخلص الدروس والعبر، في كل مرحلة وفعالية، فإننا وقعنا مرة أخرى في حفرة العنف مع الانتفاضة التي اشتعلت في 28-9-2000. وهنا سنحت الفرصة للاحتلال مرة أخرى أن يستخدم ضدنا كل نقاط قوته، وهي: 1- أيديولوجيا وتاريخ مشبع بالعنف. 2- آلة عسكرية وقوة نار مدمرة. 3- شبكة معلومات واسعة وعميقة مع القدرة على تغذيتها باستمرار. 4- السيطرة شبه الكاملة على مصادر المياه والكهرباء والوقود، فضلاً عن الأغذية والأدوية. 5- نفوذ استثنائي لإسرائيل والحركة الصهيونية، وللصهاينة غير اليهود، وتحكم عميق في مقدرات مليارات البشر ووسائل التأثير عليهم. لماذا يتكرر سقوطنا في مصيدة العنف التي ينصبها لنا الاحتلال؟ فالعنف حفرة يحفرها الظالم كي يقع فيها المظلوم. بداهة نحن لا نساوي بين عنف الظالم وبين عنف المظلوم، ولا نساوي بين عنف الاحتلال وعنف ضحاياه، وكلنا نتمسك بحقنا في أن تكون مقاومتنا أكثر عمقًا وشمولاً وأطيب ثمارًا. وذلك لأن المقاومة ليست عملاً مزاجيًا، ولا تدخل في باب الهوايات، وإنما هي جهد جماعي يستهدف الضغط المتوالي على الظالم المحتل كي يضطر للتخلي عن ظلمه، ويستهدف تحقيق الحرية والعدل والسلام. وعلينا الاعتراف بأنه ما زالت عدة عقبات، تقف في طريق المقاومة اللاعنفية، علينا العمل على تذليلها، ومن هذه العقبات: 1. وقوعنا في وهم أننا أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما إما الاستسلام والانبطاح، واستمراء الذل، وطأطأة الرأس، وانحناء القامة، والانصياع لأمثال سيئة مثل: حط راسك بين الرؤوس وقول يا قطاع الرؤوس، ميت عين أم تبكي ولا عين أمي تبكي، إذا رحت على أهل بلد لقيتهم بعبدوا عجل حش له وطعميه؛ أو الحل الثاني الذي هو حصر تعريف المقاومة بالكفاح المسلح، مع تهميش أنماط أخرى كثيرة من حقنا أن نستخدمها في سبيل تحقيق الحرية والعدالة والسلام. 2. الانتماء القبلي والعقلية القبلية التي لا تسمح بإقامة مؤسسة لكل الشعب الفلسطيني تتولى التخطيط وتقييم كل حادث وحدث ومرحلة. وهذا واضح من تهديد بعض أهلنا في إشعال ما يعرف بـ(الانتفاضة الثالثة)، وذلك قبل إجراء عملية تقييم وتحليل انتفاضة 1987-1993. والانتفاضة التي اشتعلت في 28-9-2000. بل إننا نقع فيما هو أشد وأخطر، وهو عدم التوثيق بصورة يومية حسب الأصول العلمية الصحيحة. علينا أن نخضع أداءنا في كل مرحلة إلى دراسة عميقة، وإلى وضع ما يعرف بـ (ميزان الأرباح والخسائر)، وموازنة ما حققناه من إنجازات بالثمن الذي دفعناه مقابل هذه الإنجازات وفقًا لمعايير المصلحة الوطنية العليا، وليس لمعايير تعتبر الخسائر نوعًا من الإنجازات التي نتباهى بها. وهذا يعني التمييز الواضح والحاسم بين مكانة الشهيد المرموقة والعظيمة عند الخالق سبحانه وتعالى، وعند الخلق من جهة، وبين حقيقة أن الشهيد والجريح والمعتقل هم خسارة للشعب وللوطن. 3. شيوع قراءة للدين، ومعايير للتدين، ليست قريبة من جوهر الدين وغاية الشرع ورسالة السماء، وبالتالي حصر تعريف (الجهاد في سيبل الله) بالقتال والسيف والبندقية والمدفع، وحصر فعالياته بالقتيل والقاتل والجريح والأسير والمفقود، رغم أن الجهاد يعني لغة وشرعًا استنفاد الجهد في كل عمل وجهد ونشاط يقوم به المسلم مع نية خالصة لوجه الله الكريم. وبالتالي، فإن المعلم والمتعلم والطبيب والعامل والمزراع وغيرهم مجاهدون أيضًا، وذلك لأن عبادة الله تعالى لا تتم حصرًا داخل المسجد، وإنما في كل الميادين ومفاصل الحياة وتفرعاتها. ودليل الفهم الشمولي للجهاد موجود في كتاب الله، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. (العنكبوت: 8). وقوله تعالى: ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا. (الفرقان : 50-52 ). وبناء على ما تقدم، لا لانتفاضة ثالثة، وكفانا سفك دماء. وقد حذرت مرارًا وتكرارًا ومنذ شهر تشرين الثاني من العام 2000، في خطب الجمعة وفي مقالات واجتماعات عامة، من عسكرة الانتفاضة. وقلت إن الاحتلال يريد أن نصبح حفاري قبور، ومقاولي جنائز، ومتاجرين بالدم والهم. لذلك، نعم لمقاومة شعبية تعتمد على قاعدة عريضة جدًا وراسخة، لأنها تعتمد على كل الأطياف والشرائح والفئات العمرية، وعلى شعبنا في كل أماكن تواجده، وعلى أبناء أمتنا، وعلى مئات الملايين من البشر الرافضين للظلم والاحتلال في هذا الكوكب. وهذا يقتضي اعتماد مقاومة خلاقة ومبدعة، لا تهمش وتقصي المثقفين والمفكرين والخبراء، ولا تحارب الرأي الآخر، لأنها تحتاج حوارًا عميقًا وشموليًا بين كل القوى الحية في شعبنا التي هي أشمل من الفصائل. إن الدعوة والمقاومة لا تحتاج إلى إخلاص وشباب طيبين وشجعان ونشامى وأبطال وفصاحة وبلاغة وبيان فحسب، وإنما تحتاج أيضًا إلى ثقافة وحدوية، تنطلق من وحدة الشعب والوطن والأمة والمظلومين والمقاومين للظلم. كما تحتاج إلى الحكمة، وإلى دراسة عميقة بالتاريخ، لأن من اعتنى بالتاريخ قد ضم إلى عمره أعمارًا، وإلى تجربته تجارب. والله سبحانه وتعالى يقول: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا وما يذكر إلا أولو الألباب. (آل عمران : 69). *** *** *** [1] شيخ وناشط لاعنفي فلسطيني، وعضو في مجموعة اللاعنفيين العرب، ومدير الأوقاف في نابلس.
|
|
|