|
سرّانية الأسطورة ونظرية الأدوار
سؤال: ما هي أبعاد بحثك والغاية التي تهدف إلى تحقيقها؟ جواب: يقع موضوع سرّانية الأسطورة ونظرية الأدوار في ثلاثة أقسام متداخلة ومتّصلة، هي: - أولاً: أساطير الطوفان العالمية المتنوعة. - ثانيًا: الأصول الأسطورية الواحدة المعبّرة، عبر تنوعات سردها، عن أسطورة كونية واحدة، هي قصة كونية واحدة أفصح عنها كمون المعرفة الإنسانية، وهي تتمثّل الأنماط البدئية المنحوتة في اللاوعي الجمعي. - ثالثًا: نظرية الأدوار المعبّرة عن تجدّد الطبيعة وأشكال الموجودات نتيجة لحفظ وتطوير بذرة أو بذور الحياة. في القسم الأول، سعيت إلى جمع وتسجيل ملخّص للأساطير العالمية برمّتها أو في غالبيتها، وذلك لإقامة الدليل على وجود أسطورة كونية أو عالمية واحدة، هي قصة كونية واحدة، أو أساطير عديدة تتمحور حول واقع واحد ورؤية واحدة ذكرتهما مدوّنات الباحثين. ويؤسفني أن أقول: إنّ الصعوبات الماثلة في الحصول على المصادر التي تحتوي هذه الأساطير حالت، بالإضافة إلى ضيق الوقت، دون تسجيل أساطير أفريقيا وأوقيانوسيا. في القسم الثاني، هدفت إلى إعادة الأساطير إلى أصل واحد مشترك، وأشرت إلى حقيقة هي: أنّ الأسطورة، وهي تمثّل العقل الإنساني الحدسي الأحادي الماثل في الحكمة، والسابق للثنائية العقلية الفلسفية، أي محبة الحكمة، والتعددية الناتجة؛ قامت، وفق ما حدّثنا به الحكماء، مقام التجربة الروحية المتمثلة بالحكمة السابقة للمنهجية الفلسفية، وبهذا الصدد، أحب أن أصرّح قائلاً: ليست الأسطورة حكاية وهمية أو خرافية، بل هي رمز يشير إلى سرّ كوني أو عالمي؛ هي سرّانية وحدة الوجود التأليفية. والحقّ أنّ الشرائع، التي أنهت علاقتها وقطعت أوصال مبادئها مع الأسطورة تراجعت إلى مجرّد شعارات وأسقطت الحكمة ومحبة الحكمة من نطاقها. في القسم الثالث، هدفت إلى شرح نظرية الأدوار التي يستغرقها كوكب الأرض انطلاقًا من تكوينه المعروف بالألف وانتهاءً بعودته إلى الكلّ الشامل المعروف بالياء، والممثلين بالحية التي تضع ذنبها في فمها على نحو دائرة كاملة تشير إلى البداية في النهاية، والنهاية في البداية، الأمر الذي يشير إلى العود الأبدي للأكوان، أو للتكوين الكوكبي، وإلى وجود عوالم أو أدوار متتابعة. وليس عالمنا الحالي، أي دورنا الحالي، سوى عالم أو دور من الأدوار العديدة. لقد سبقتنا عوالم أو أدوار، وسوف تأتي، بعد انقضاء عالمنا أو دورنا المدعو افتراضًا بدورة آدم، أدوار أو عوالم أخرى. أخيرًا، أحب أن أقول: إنّ بحثي هذا مجرد مدخل إلى سرّانية الأسطورة، أو مجرّد محاولة لتوضيح بعض خفاياها. وأحب أن أضيف إلى قولي هذا ما يلي: إنّ البحث يحقق غايته عبر اعتماد الحوار المنفتح الذي يتجاوز ضيق الأفق الفكري والانغلاق ضمن نطاق الشعائر الخاصة المجرّدة من السرّانية، وأعني ضمن العقيدة المغلقة التي لا تجد صدى لها في العقائد العامة الأخرى، وقطعت علاقتها مع الفكر الإنساني الغابر على نحو أدّت إلى إحداث شرخ أو انقسام أو تجزئة في العقل الإنساني أو فصام أدّى، بدوره، إلى تجزئة برج الحقيقة، برج إيل، وإلى إدانة العقائد بعضها لبعض، وإلى النزاعات التي انتهت إلى العدوانية والصراع. وأسمح لنفسي أن أقول: إنّ العقائد التي أنهت علاقتها مع رمزية الأسطورة وسرّانيتها، وتجاوزتها إلى الأحادية الشخصانية التي قسّمت الوجود والكون إلى قسمين متخاصمين، وأصبحت منهجًا تشريعيًا وطقسيًا، أساءت إلى حقيقة الوجود التأليفية. سؤال: ما هي الأساطير التي توصّلتَ إلى معرفتها؟ وما المقولة الفكرية التي بلغْتَها أو كوَّنْتَها؟ جواب: توصّلتُ إلى معرفة سبع وعشرين أسطورة. أما المقولة الفكرية التي كوَّنتُها فإنها تتمثّل في العبارة التالية: التقت جميع الأساطير في مبدأ واحد، واتّفقت على وجود قصة واحدة للتكوين، وتنوّعت في التعبير ووصف تفاصيل الحدث الكوني في وفاق مع اختلاف الأمكنة والوسائل المتاحة. سؤال: في محاضرتك التي تحدَّثتَ فيها عن الأسطورة ونظرية الأدوار، أكّدت على الأصول الأسطورية الواحدة، أو الأصل الواحد لجميع الأساطير. كيف استطعت بلوغ هذه النتيجة الفكرية؟ وكيف تستطيع توضيحها؟ جواب: في سبيل توضيح الإجابة عن هذا السؤال، أعود إلى ما ذكرته في مواضع عديدة من مؤلفاتي. عندما نعود إلى الفترة التاريخية السابقة للمنهجية الفلسفية، نجد العقل الإنساني يعبّر عن موقفه من الحياة والكون في حكمة صيغت على نحو أسطوري. ويجدر بنا، ونحن نتوغّل إلى أعماق تصورات العقل الإنساني السابقة للتصنيف الفلسفي، الذي اعتمد ثنائية العقل والموضوع، أي المنهج الفكري الذي نعرفه اليوم، أن نتعرّف على الأصول الواحدة للعقل الإنساني الماثلة في حدس السرّانية التأليفية لوحدة الوجود. وبهذا الصدد، نلتزم ببحث الرمزية التي صيغت بها قصة أسطورة الحكمة، فنقول: الرمز يشير إلى السرّ، والأسطورة تشير إلى حكمة الأقدمين. إذا توخّينا المزيد من الوضوح والتبسيط، عمدنا إلى شرح المضمون الكامن في الرمز والسرّ والحكمة في الأسطورة. ولمّا كان الرمز يشير إلى السرّ، فإننا نعترف بأنّ حكمة الأقدمين تمثّلت في أسرار عبّرت عن الحكمة البدئية للوجود الإنساني وعلاقته بالكون. ولمّا كان السرّ يعني العمق والاتّساع، وتأليف الثنائية التعددية في تكامل اتّحادي، فإن القصة الرمزية تشير إلى الحكمة القائمة في تنوّع الصياغات الأسطورية. وفي هذا المنظور، يمكننا أن نقول: إنّ العقل الإنساني لم يعانِ من التشتت والتجزئة في نطاق الثنائية والتعددية في تلك الفترة السابقة، الأمر الذي يجعلنا نعلن أن برج بابل، أي باب إيل، كان رمزًا لسرّانية وحدة الوجود التأليفية، وإنّ رقص شيفا كان الوحدة الجامعة للكثرة. وهكذا، يمكننا أن نبيّن أنّ الأسطورة هي حكمة مطروحة في صورة الرمز، وأنّ الرمز تعبير عن سرّانية واحدة غير مجزأة، وأنّ العقل عاين الوحدة التأليفية للطبيعة والكون، ووحدة الذات الفردية مع الذات الكلية. تشير هذه العبارة الأخيرة إلى الاعتراف بأنّ أصول المبادئ والمعتقدات البشرية، أو الحكمة الإنسانية المعبَّر عنها بالرمز، كانت واحدة في أساسها ومثّلت جذع شجرة التفكير الإنساني. لذا، نجد أصلاً واحدًا أو أصولاً واحدة للصياغة الأسطورية. والحق يقال إنّ تعمقنا في دراسة الأسطورة يمدّنا بالقدرة على رؤية القاعدة الأساسية الواحدة، والأصل الواحد. وعلى هذا الأساس يجدر بنا أن ندرس الأسطورة في صيغة المفرد ونتجنّب دراستها في صيغة الجمع. وبالفعل، لم تكن هنالك، في المرحلة السابقة للفلسفة، غير أسطورة واحدة تمّ التعبير عنها بلغة الرمز. وأما الفلسفة فلم تكن أكثر من محاولة جريئة لعقلنة الأسطورة. وأعني أنّ بداية المنهج الفلسفي تمثّلت في شرح عقلي معمّق للأسطورة. وهكذا، يمكننا أن نتحدث عن وجود أسطورة كونية واحدة، أو حكمة شاملة واحدة صيغت برموز متنوعة وعديدة، غير متناقضة في جوهرها. نستطيع أن نقول: إنّ تعمقنا في دراسة الأساطير بصيغة الجمع يقودنا إلى معرفة الأصل الواحد أو الأصول الواحدة المشتركة للسرّانية القائمة في الرمزية الأسطورية. وعندما نتأمّل ما جاء في أساطير الإنكا والأزتك، وأساطير القبائل النوردية - الشمالية، وأساطير اليونان، وأساطير الشرق الأوسط في صياغتها أو قوامها الميثولوجي أو الديني، وأساطير أفريقيا وآسيا وأستراليا..الخ، نجد أنها تشترك، على الرغم من المسافات الفاصلة بين القارات، بسرّانية واحدة معبّر عنها برموز متنوعة. لمّا كان السرّ يعني العمق، فقد دلّ هذا العمق أو التبصّر التأملي في التأويل والتقصّي إلى تماثل الروايات والأحداث والوقائع والأساليب والخلفيات. وعندئذٍ، ندرك أنّ العقل الإنساني لم يكن قد تعرّض للتجزئة الناتجة عن الثنائية والتعددية. ولم يكن برج بابل، أي باب إيل، أو رقص شيفا تعبيرًا للانقسام والتشتت، بل تعبيرًا للحكمة والوحدة المتكثّرة وفق ما تعلنه وحدة الوجود التأليفية. يؤسفني أن أقول: إنّ الكتّاب والمفكرين الذين يتحدثون عن الأساطير يخطئون في تفسيرها لأنهم يلامسون رمزيتها دون التوغّل إلى عمق سرّانيتها. وإن ملامسة الرمز تشير إلى السطحية وتسيء إلى الحكمة الكامنة في الأسطورة. ويؤلمني أن أعلم أنّ العقائد التي تبنّت الشرائع المنهجية الصلبة وعمدت إلى التفسير الحرفي والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، وقسّمت الوجود والكون إلى قسمين متصارعين، روحي ومادي، أعلى وأسفل، أو أعلنت انتماءها إلى الأحادية الصارمة أي الأحادية الشخصانية الموصوفة، قضت على التسلسل المتّصل لطيف الوعي الممتد من بدايات التاريخ الإنساني المتوافق مع حكمة الوجود وفق ما نظّمته الحقيقة السامية، وقسّمته وجزّأته وأدانت ظاهراتها الفكرية المعبَّر عنها بأنواع التجارب الروحية، وأدّت إلى فصام عانى منه، ومازال يعاني منه، العقل المنقسم على ذاته، الأمر الذي أدّى إلى مرضٍ عضال أصاب الروح أدّى، بدوره، إلى الأزمات والصراعات والكراهيات التي نحصد بقايا آثارها الدامية. لقد قطعت هذه العقائد المذهبية المتصلّبة ذلك الجزء من طيف الوعي الإنساني. ذلك الجزء الذي كان بمثابة تأسيس لكل ما سيبرز إلى الوجود الإنساني. وفي اقتطاع ذلك الجزء خيّم الظلام الذي بدأ يقتطع جزءًا بعد جزء من طيف الوعي، ويدين، ويقود الإنسانية إلى متاهة الروح والعقل. يجدر بنا، ونحن نشدد على التماثل القائم في الأساطير ونؤكد على الوحدة اللاحمة للرموز المعبّرة والمتنوعة، أن نكتفي بتقديم مثلين: 1. يشير المثل الأول إلى التكامل القائم بين كتاب الموتى التيبيتي وكتاب الموتى المصري. 2. يشير المثل الثاني إلى الحكمة المتضمنة في رمزية الطوفان التي نجدها في الأساطير القديمة بأجمعها. تشير الدراسات المعمقة لأسطورة الطوفان إلى الأدوار التي يجتازها كوكب الأرض، عبر ديمومته، من بدايته إلى نهايته ضمن السيرورة الوجودية. والحق يقال: إنّ نظرية الأدوار حقيقة راسخة في واقع كوكب الأرض. وإذا كانت الأدوار تشير إلى خليقة جديدة تشير، بدورها، إلى نهاية دور سابق وانبثاق دور جديد علمنا أن نظرية البعث أو نظرية العَود الأبدي المتأصلة في غالبية الأساطير تعود إلى تبصّر عالمي واحد. وهكذا، نعترف بوجود حكمة كونية وعالمية واحدة، أي أسطورة واحدة، برموز متنوعة وأساليب عديدة تشير إلى تتابع عوالم بعد عوالم هي أدوار يجتازها كوكب الأرض. سؤال: كيف تفسّر نظرية الأدوار والعوالم؟ وهل هذا يعني أنّ المعتقدات الدينية التي جعلت من دورنا الحالي حقيقة واقعية واحتجزت الوجود برمّته في هذا الدور، وألحقت به مفهوم الخلق، عجزت عن إدراك نظرية الأدوار والعوالم أو رفضت الاعتراف بوجود الأدوار السابقة؟ جواب: حقيقة الأمر أنّ هذه المعتقدات أخذت بنظرية الدور الواحد الذي يبدأ وينتهي ضمن فترة زمنية معينة. وقد عيّن المعتقد اليهودي بداية هذا الدور بعام 4004 ق.م تقريبًا ونهايته في وقت قريب من هذا القرن. وأشار هذا المعتقد إلى أنّ ديمومة هذا الدور تبلغ سبعة آلاف سنة. وقد أخذت بعض المعتقدات بهذا التحديد لبداية ونهاية كوكب الأرض في دور واحد. والحق أنّ هذا ما تدعو إليه نظرية الخلق التي جزّأت الطيف المتصل للأدوار والعوالم، وحصرتها في عالم أو دور واحد يخضع لشريعة واحدة وعقيدة واحدة، تمامًا كما جزّأت طيف الوعي واحتجزته في حيّز ضيّق تهيمن عليه شريعة معينة. تقتضي دراسة الأدوار طرح قضية كوسموغونية، أي طرح مبدأ أصل العالم ونشأته، تتعين في السؤال التالي: هل لعالمنا بداية ونهاية؟ هل هو منتهٍ أم لامتنهٍ؟ تجيب الداراسات السرّانية المعمّقة، التي لم تأخذ بنظرية الخلق، عن هذا السؤال بما يلي: يعرف كوكبنا البداية والنهاية في أدوار وعوالم متتالية ضمن أزلية لا تنتهي. فإذا كان تجمّع الطاقة الكونية يشير، كما يعلن كل من العالمين كوزيروف الروسي وهويلر الأمريكي، إلى بدء الزمان والمكان، فيكون كوكبنا قد عرف البداية في اللحظة التي تجمّعت فيها طاقة كونية حية، وسيعرف النهاية في اللحظة التي سيعود فيها ذلك التجمع للطاقة، الذي نسميه المادة الحية، إلى ما كان عليه من طاقة وخلاء وعدم. وعندئذٍ، لا يدرك الزمان كما لا يُدرَك المكان. تجمّعت الطاقة فكان السديم، الكلمة الأولى، وكان الزمان والمكان. وفي هذا السديم، الكلمة، وجد، كما يقول برغسون الفيلسوف وهوكينغ العالِم، كل ما سيتجلّى في حياتنا الأرضية وكل ما سينبثق إلى الظهور في حياة الكواكب الأخرى من شكل وفكر ووعي. من الكلمة السديم تشكل كل شيء. وكانت المادة طاقة كونية تكاثفت واحتوت، في باطنها، الحياة والوعي، وحملت في خارجها الشكل والظاهر. تشرح الدراسات السرّانية المعمّقة المرحلة الوجودية التي يستغرقها كوكب بين تجمّع الطاقة لتصبح مادة حية لها مكان وزمان، وبين عودة ذلك التجمع إلى كيانه البدئي الأصلي في الطاقة الكونية اللازمانية واللامكانية، إلى العدم الذي يشير إلى الوجود اللامتعيّن. ولا شكّ أنّ تجمّع الطاقة الكونية ضمن رتبة اهتزاز معينة، يرمز بها بـ"ألِف" الوجود، وأن نهاية تجمّع الطاقة يُرمز إليه بـ"ياء" الوجود. وفي نهاية تجمّع الطاقة يعود الكل الكثيف المتعيّن إلى ما كان عليه قبل التجمّع، أي إلى اللطافة اللامتعينة ليتشكل من جديد في دور جديد وفي خليقة جديدة ضمن عود أبدي. هكذا، يبدأ الزمان والمكان، وينتهيان ضمن الأزلية على نحو جسر يصل الأبدية من طرف والأبدية من طرف آخر. هكذا، يتصل هذا الجسر، أي العالم المادي، بلا نهايتين. سؤال: لمّا كنتَ تتجاوز نظرية الخلق التي تتحدث عن وجود واحد أو دور واحد لكوكبنا يبدأ بزمان محدد وينتهي، وفق التصور الذي طرحته نظرية الخلق المحدودة، بطريقة دراماتيكية معينة وخاصة بشريعة تبنّتها عقيدة أو عقائد غيبية لم ترَ في الوجود السرمدي، الذي لا يبدأ ولا ينتهي، أكثر من شريحة أو جزء من الطيف الكلي للوجود الذي لا يزول، فإنني أسمح لنفسي أن أطرح عليك السؤال التالي: ما هي ديمومة كوكب الأرض الممتدة، عبر دور أو عالم واحد، بين بدايته ونهايته؟ جواب: يتمثّل جوابي في التوضيح التالي: يتطور كوكبنا بين بدايته ونهايته ضمن أزلية كونية لانهائية في أدوار سبعة رئيسة تنقسم بدورها إلى أدوار سبعة تحتية أو فرعية تُعرف بالنظام السباعي. وعلى هذا الأساس يكون مجموع أدوار الكوكب، منذ بدايته حتى نهايته، خمسين دورًا، وأعني نهاية الأدوار التسعة والأربعين الناتجة عن تكثير سبعة في سبعة. أما زمان كل دور فيُقاس ببضعة آلاف آلاف آلاف السنين. هكذا، تبدأ الأدوار وتنتهي ضمن الأزلية. ويؤسفني أن أقول: إنّ نظرية الخلق المحدودة اختزلت الأدوار الكونية وقلّصتها إلى دور واحد فقط. يمكنني أن أقول: إنّ كل دور ينغلق على ذاته في نهايته. أما تصوّر نهاية الدور الجزئي أي التحتي أو الفرعي، فيتمّ بمعرفة أنّ نهاية كل دور يتجسّد في فاجعة أو كارثة يعبّر عنها بكلمة "الطوفان". ولقد أشارت كتب الحكمة القديمة، في أصقاع العالم كلها، إلى أنّ النهاية - الفاجعة أو الكارثة بطوفان يُنهي دورًا فرعيًا سابقًا، فينتهي القديم، ويبرز ويظهر دور جديد، فيبدأ الجديد. وتشير بداية الدور الجديد إلى تجديد الدور القديم في انبثاق جديد، هو الخليقة الجديدة على المستوى الكوني، وجدير بالذكر أنّ الأدوار، في نهايتها وبدايتها، متّصلة وليست منفصلة، تتابع اتّصالها في عود أبديّ يشير إلى ديناميكية التكوين المتّصل في تتابعه. في سبيل توضيح أمثل أقول: إنّ كل دور يبدأ بالحكمة أو الحدس العقلي والروحي وتسود فيه الأسطورة، لينتقل إلى العقل، ومن ثمّ إلى الثنائية ومنها إلى التعددية وإلى العلم، ليعود في النهاية إلى الحكمة التي يكتشفها العلم أو تكتشفها الفلسفة في الأسطورة، وذلك في تحقيق الباء لما كان أصلاً في الألف. وفي تطوره هذا، ينغلق الدور على ذاته، وتكون نهايته الماثلة في فاجعة كونية أو كوكبية أو في تقنية علمية بلغت حدّ الخطورة. والحقّ هو أنّ التقنية العظمى التي بلغتها قارة الأطلنطس أوصلتها إلى دمارها ونهايتها. لذا، تمثّلت نهاية قارة الأطلنطس بفاجعة بشرية سببها الإنسان العلمي الذي اعتمد العقل التقني العدواني تمامًا كما سببها الإنسان الأناني الذي استغلّ التقنية العدوانية المتطورة. وهكذا، نرى كيف أدّى إغفال سكان الأطلنطس لحكمتهم، وتعلّقهم بتقنيتهم العلمية المتزايدة، إلى الكارثة. ومن جانبي، أتساءل: هل أنّ دورنا سيؤول إلى ما آل إليه دور قارة الأطلنطس. أي المزيد من التقنية والمزيد من الدمار؟ هل أنّ هذا الدور سينتهي بفاجعة يحدثها الإنسان الذي بالغ في تحويل تقنية العلم النافعة والمفيدة إلى تقنية العلم العدوانية التي يستخدمها العقل التقني الخاضع لانفعالات الأنا التدميرية؟ تتمثّل نهاية الأدوار السبعة، التي تدوم عشرات مليارات السنين، في اكتمال دور الوجود على كوكب الأرض، وفي عودة كل شيء وكل ما هو مادي وكثيف إلى ما كان عليه قبل أن يتمدّى، أي قبل أن يصبح ماديًا، ليتشكل من جديد في كوكب جديد وحياة جديدة. وفي نهاية اكتمال الأدوار السبعة، يتحقق ملء الزمان والمكان، ويكتمل كل شيء في دورات متعاقبة، ويتكامل وجود الإنسان في دورات ووجودات، هي حيوات جديدة وعديدة، بحيث أنّ المادة تعود إلى الطاقة. سؤال: كيف تفسّر السبب المؤدي إلى نهاية دور نتيجة لفاجعة أو كارثة؟ جواب: عندما نسعى إلى معرفة العلّة أو العلل، التي تؤدي إلى نهاية دور كوكب الأرض ومشاهدة الصورة الفاجعة لهذه النهاية، نلوذ بالصمت لسببين: - أولاً. عندما نفكّر في أنّ مصير الكوكب الذي نحيا عليه مرتبط بالوجود المادي الكثيف وبالطاقة المجسّمة في الكتلة، ونعلم أنّ كوكبنا، وهو أدنى العوالم في سلسلة الوجودات، وهو مكان تجربة واختبار ضمن نظام كوني واسع ولامحدود، ندرك أنّ الطاقة الكثيفة تنشد الحرية والانعتاق على نحو دائم، وأنّ الإنسان ملتزم بدور أساسي لتحقيق هذه الحرية. - ثانيًا. حقيقة الأمر هي أنّ التفكير الإنساني، في حدوده العادية، يعجز عن إدراك السرّ العميق في صدر الحقيقة السامية التي هي قانون القوانين وعلّة العلل. هكذا، أتساءل: هل قُدِّر على عالمنا، وهو أدنى العوالم وأشدّها كثافة، أن يسوده قانون قاس ويتحكّم به قدر صارم، أم أنّ النقص الناتج عن عجز فعالية الإنسان هو القضية؟ الحق يقال: إنّ الإنسان يخضع لهذا القدر المحتوم إن هو أغفل أو تجاهل الحكمة المضمونة في وجوده. وما لم ينسجم الإنسان مع الحكمة، ويدرك كونيته، فلا بدّ له من أن يخضع للحتمية التي ابتدعها واختلقها في التعددية الناشئة عن عدم تحقيق مغزى وجوده. سؤال: هل أفهم من بحثك أنّ بداية الدور تتمثّل في الحكمة، وأنّ الأسطورة هي القصة المعبّرة عن هذه الحكمة؟ كيف تفسّر مقولتك هذه؟ ماذا قصدت بقولك، يجب علينا ألا نجزّئ طيف الوعي الممتد والمتّسع منذ فجر البشرية خلال هذا الدور حتى عصرنا لكي لا تُصاب شخصية الإنسان التاريخية بالفصام أو الانقسام أو التجزئة يؤدي أو تؤدي إلى صراع داخلي في كيان الوجود الإنساني؟ جواب: تؤكّد الإجابة عن الجزء الأول من السؤال أنّ جميع الفلسفات عادت في أصولها وفي بدء نشأتها إلى الأسطورة، واعتبرتها المرجع الأول لتفسير ما حدث في بدء هذا الدور. وبالفعل، تبدو هذه الفلسفات وكأنها تطوير للأسطورة، أي ترجمة لحكمة الأقدمين. ولهذا السبب، لم تنفصل الفلسفة، التي هي محبة الحكمة، عن الأسطورة التي ظلّت علاقتها مع الحكمة المعبِّرة عن الأنماط البدئية أو الممثلة لها، قائمة. وبالإضافة إلى استغراق بدايات الفلسفة في مضامين العقل الأسطوري، نجد أنّ العقائد الدينية ذاتها أبقت على هذه العلاقة في مجالات عديدة، أذكر منها: قصة خلق الإنسان، وقصة الطوفان، وقصة التكوين، وبعض الطقوس التي مازالت ماثلة في صلب هذه العقائد. تؤكد الإجابة عن الجزء الثاني من السؤال أنّ الخطيئة الكبرى، التي اقترفتها المنهجية الفلسفية التي اعتمدت ثنائية العقل والموضوع، والعقائد اللاهوتية والدينية والطقسية، تمثّلت في تقطيع أو تجزئة أو تقسيم أو تصنيف الشخصية التاريخية التكاملية لكيان الإنسان العقلي والروحي، وإدانة كل ما سبق من إبداع حضاري، وثقافي فني، وعلمي. والحق هو أنّ هذه الإدانة لم تصب العقل الأسطوري وحده، بل أصابت أيضًا كلّ إبداع محقق في فترة زمنية خاصة تميزت بفلسفة معينة أو بحضارة أو ثقافة معينة، وأدانتها بقسوة وتعسّف بالغبن. ومع ذلك، اقتبست من العقل الأسطوري ما يناسبها، ونسبته لذاتها بشكل أو بآخر، أو فسّرته بما يلائم مضامين العقيدة والشريعة. هكذا أدّت هذه الإدانة والتجزئة والتقسيم، الذي أدّى بدوره إلى إحداث شرخ في تكاملية الشخصية الإنسانية عبر تاريخها، إلى إحداث شرخ في شخصية الإنسان الفرد، وفي شخصية الإنسان الاجتماعية وفي شخصيته العالمية، الأمر الذي أدّى إلى النزاع وإشعال نار البغضاء والكراهية، واندلاع الحروب باسم العقيدة المذهبية أو الدينية الواحدة الفريدة التي تزعم بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة وبين العقائد المذهبية أو الدينية الأخرى. سؤال: من هذا المنظور، كيف نستطيع أن نفهم أو نسعى إلى فهم الشخصية المتكاملة للتاريخ الإنساني وطيف وعيه، والاعتراف بهما؟ جواب: يسعدني أن أعالج الإجابة عن هذا السؤال، الذي أعتبره خلاصة للموضوع، بطريقتين: - أولاً. كما أنّ الإنسان الفرد يعجز عن تقطيع شخصيته المؤلفة والمتآلفة من مراحل متعددة ومتنوعة، ويسعى إلى عدم إصابة كيانه بالفصام، كذلك لا تستطيع أية هيئة مذهبية أو فكرية تقطيع أو رفض المراحل التاريخية للإنسانية وعدم الاعتراف بها أو عدم القبول بها كمراحل متممة ومتكاملة، وذلك لكي لا تصاب بالفصام المؤدي إلى تناحر المجتمعات والمؤسسات البشرية وتنكّر بعضها لبعض، وعدم اعتراف بعضها ببعض، وعدم قبولها للآخر بسبب العقيدة المذهبية أو الدينية أو الطقسية القائمة في شريعتها. - ثانيًا. في سبيل فهم الشخصية المتكاملة للتاريخ الإنساني، أي لتاريخ الوعي الإنساني المتضمن في طيف واحد منذ نشأته أو منذ بداية الدور الإنساني، أو عدم إحداث شرخ أو فصام فيه، يجب على المجتمع الإنساني أن يتجاوز الموقف الأحادي الصارم والخاص للعقائد المذهبية والدينية والطقسية، ويعود إلى دراسة الحضارات والثقافات المتنوعة، وفهم مضامينها وإدراك رموزها وقيمها، في ظاهرها وباطنها، ومعرفة دور كل حضارة أو ثقافة أو حقبة تاريخية معينة في حمل مشعل النور الحضاري الهادف إلى إضاءة التاريخ الإنساني بألق وأشعة طيف الوعي الممتد والمتسع والمتكامل بدءًا بالمرحلة الأسطورية، وانطلاقًا إلى المرحلة الفلسفية - الأسطورية الأولى، ومنها إلى المرحلة الفلسفية المنهجية، ومنها إلى المرحلة الفلسفية العلمية، ومنها إلى المرحلة الأخيرة وهي المرحلة العلمية التي تبحث عن حكمة الحقيقة المنطوية في الوعي الكوني، وتحقيق المبدأ الواحد الممثل بقانون القوانين دون إقحام العقائد المذهبية والدينية في تراث الحضارات والثقافات. هكذا تلتقي حضارة الشعوب وثقافتها وعلمها في طيف الوعي الإنساني المتكامل في حلقات متنوعة. وهكذا، يحب الناس بعضهم بعضًا ويحيون في نطاق سعادة الحياة وغبطة التلاقي في حوار الحضارات والثقافات وحدها. * * * أساطير الطوفان
*** *** *** |
|
|