عينا فتاة زهرة الماء العذب

 

محمد الحجيري

 

حصلت الأفغانية شربات جولا على المركز السادس في مسابقة "أجمل عينين" في العالم على شبكة الإنترنت، هي التي سحرت العالم، منتصف الثمانينات، بجمال عينيها وكانت في الرابعة عشرة من العمر، بعدما التقط لها المصور ستيف ماكوري صورة في أحد مخيمات اللاجئين الأفغان في باكستان، نُشرت على غلاف مجلة ناشينوال جيوغرافيك الأميركية، عام 1985، لتصبح الصورة الأكثر شعبية في تاريخ المجلة. وعلى رغم أن جولا أصبحت زوجة وأمًا إلا أن العالم لا يزال يتذكر عينيها الساحرتين الجميلتين كالشهب. وهي حلت في تلك المرتبة إلى جانب تشارليز ثيرون وصوفيا لورين واليزابيت تايلور وايشوريا راي وانجيلينا جولي، وغيرهن. السؤال: هل اختار منظمو المسابقة الفتاة الأفغانية للديكور أم أنهم يريدون الترويج للمسابقة من خلال العيون الأفغانية؟ فحين أعلنت نتائج المسابقة تصدرت أخبار شربات جولا واجهة وسائل الاعلام ربما لأن صاحبة الجمال الصافي من دون سينما أو نجومية.

1

تقول الحكاية أن شربات جولا اسم قد لا يعرفه إلا عدد محدود من الناس على رغم أنهم يعرفون صورة صاحبة الاسم. هي امرأة افغانية من قبيلة البشتون وليست من عارضات الأزياء ولا من ممثلات هوليوود الغاويات، ولا ترتدي ثياب ايڤ سان لوران، ولا تتابع أفلام نيكول كيدمان أو أفلام ستيڤن سبيلبرغ. عيناها خضراوان كلون الربيع على مروج أفغانستان، والعيون الخضر تغري، فيتعلّق الناس بفتنتها، ويروح الشعراء يتأمّلونها.

عينا شربات جولا مرآة لأفغانستان، مثل الشهب، تطاردنا دائمًا، هي تتسم بنظرات تخترق الذاكرة، بل تخترق معنى الصورة. عينا شربات جمليتان كلون نبتة القنب الهندي، إنهما مفتاح لرواية عن عالم بات مقترنا بالحروب على مدى العقود الأخيرة، بل إن صورة أفغانستان هي صورة الحرب، وصورة شربات اختراق لها. والحال أن معظم الذي يصورون تلك البلاد يختارون صور الجنود والعمليات الإرهابية، والتصحر، ولا ينظرون إلى أطفال أفغانستان.

صورة شربات أيقونة للتصوير الحديث من بلد كان طريقًا للحرير وصار منبعًا للحروب والإرهاب والشعر والاساطير والأوثان والمعاني. لعيني شربات قصة (أو فيلم وثائقي) امتدت سبعة عشر عامًا كانت تعرف فيها شربات باسم "الفتاة الأفغانية" بين جميع موظفي مجلة "ناشيونال جيوغرافيك"، فلا أحد منهم يعرف اسمها الحقيقي ولا حتى المصور الذي التقط لها صورة قبل عقدين من الزمان تقريبًا. حتى إن أحد النقاد قال إنها أيقونة من أيقونات التصوير الفوتوغرافي المعاصر، وإن وجهها يذكّره بغموض ابتسامة الموناليزا.

2

قصة شربات جولا باتت معروفة للمتابعين، وهي بدأت عندما ذهب أحد مصوري ناشيونال جيوغرافيك ستيڤ ماكوري إلى باكستان في النصف الأول من الثمانينات في رحلة عمل، وخلال تلك الرحلة، وبينما كان يقوم بعمله في أحد مخيمات اللاجئين الأفغان في شمال باكستان، استرعت انتباهه فتاة في الثالثة عشرة من عمرها بخجلها وحزنها، لكنه فوجئ بها تسأله: "هل تأخذ لي صورة؟". قالت تلك العبارة باللغة البشتونية التي كان ستيف قد تعلم شيئًا منها لتساعده في إنجاز عمله. يقول ماكوري إن هذه الفتاة عانت حياة صعبة كما كانت سنوات أفغانستان الثلاث والعشرين صعبة أيضًا، فلقد قتل مليون ونصف مليون شخص، وتم تشريد الملايين خلال هذه السنوات من حياة البلاد الفقيرة. يضيف: "لم أعتقد أن صورة تلك الفتاة ستكون مختلفة عن أي شيء قمت بتصويره في ذلك اليوم، غير أن الصورة كانت مختلفة بالفعل كل الاختلاف، فالصورة التي التقطتها عام 1984 أصبحت، عقب نشرها على غلاف المجلة عام 1985، من أهم الصور التي يشار إليها عند الحديث عن المعاناة الأفغانية". ظل اسم تلك الفتاة غير معروف طوال سبعة عشر عامًا إلى أن قرر تلفزيون ناشيونال جيوغرافيك عام 2001، إرسال ستيف ماكوري مرة أخرى للبحث عن الفتاة لمعرفة تأثير ما جرى في أفغانستان عليها.

عاد ماكوري إلى باكستان بحثًا عن شربات جولا في مخيمات اللاجئين على رغم معرفته بصعوبة العثور عليها بعد كل هذه السنوات. شاهد عددًا من الفتيات اللواتي يملكن عيونًا خضراء شبيهة باللتين تملكهما شربات جولا، لكنها لم يعثر على شربات. فجأة رأى أحد اللاجئين الأفغان صورة شربات في يد ماكوري، فقال إنه يعرفها إذ كانا يلعبان في المخيم نفسه عندما كانا طفلين. وأضاف إنه يعلم أين تعيش الآن. استغرقت رحلة الوصول إليها من أحد الجبال القريبة من منطقة تورا بورا نحو 3 أيام قطع فيها المسافرون جبالاً تعتبر مهلكة ومات فيها العديد من اللاجئين أثناء هربهم من ويلات الحرب في أفغانستان. وعندما حضرت شربات إلى المخيم ورآها ماكوري وعرف أنها هي، قالت له عندما أراها صورتها: "لم أشاهد هذه الصورة من قبل ولكن بالتأكيد هي صورتي". لكنها تذكرت المناسبة التي التقطت فيها الصورة لأنها كانت المرة الأولى والاخيرة.

3

عرف ماكوري شربات لأنه يعرف قوة نظراتها، فلها النظرة التي رآها قبل 17 عامًا. وتقول مجلة ناشيونال جيوغرافيك إنها عثرت على الفتاة بعد بحث مضن وبتطبيق تكنولوجيا المسح الإلكتروني على بؤبؤ عين الفتاة في الصورة القديمة والجديدة للتأكد من أنها الشخص نفسه. كانت شربات جولا في الثالثة عشرة من عمرها عندما التقط المصور ستيڤ ماكوري صورتها عام 1984 وعندما التقطت لها الصورة الثانية بعد سنوات كانت قد أصبحت زوجة وأمًا.

في هذا اللقاء عرف ستيف للمرة الأولى اسم "الفتاة الأفغانية" التي لم تكن تدري طوال اللقاء لماذا تم إحضارها، أو عما أحدثته صورتها من تأثير عند نشرها على غلاف المجلة، أو عن جائزة "غولد كادا" التي حصدها ستيف، بفضل نظرة عينيها ووجهها الطفولي، في بقعة لا تعرف سوى الحرب. كانت تعبيرات شربات تتسم بالحدة ولم تبتسم طوال اللقاء، ذلك أن السنوات لم تترك لها سوى المعاناة والعينين الخضراوين. وعندما سئلت كيف استطاعت أن تواصل الحياة على الرغم مما لاقته من أهوال ومصاعب؟ أجابت: "إنها مشيئة الله". يقول ماكوري أنه نظرًا إلى التعاليم الدينية المحافظة لدى الأفغان فإنه يجب ألا تنظر المرأة إلى رجل غريب أو تبتسم لغير زوجها، ولهذا السبب فإنه لم ير شربات جولا مبتسمة البتة، إذ دائمًا كانت نظراتها خفيضة، لأنها لم تكن تعرف قوة عينيها.

4

كانت شربات في تلك الفترة تمضي حياتها على نحو ايقاعي، تستيقظ من النوم قبل طلوع الشمس لتصلي الفجر، وبعدها تذهب إلى الجدول لإحضار الماء، ومن ثم تبدأ دورة الحياة اليومية من طبخ وتنظيف وخلافه، لكن أهم محطات عمرها هي يوم زواجها، على ما يقول أخوها الأكبر كاشير خان، بل قد يكون أول يوم تفرح فيه في حياتها. أما همّها فينصبّ على العناية ببناتها الثلاث (روبينا وزهيدة وعلياء) بعدما ماتت البنت الرابعة في المهد. لا تستطيع شربات القراءة ولكنها تستطيع كتابة اسمها، وتقول إن أملها هو أن تعلم أطفالها. ترتدي شربات البوركا الملونة والتي تخفيها عن أنظار أي رجل آخر ما عدا زوجها. هذه هي قصة صورة شربات جولا الذي يعني اسمها حرفيًا بلغة البشتون "فتاة زهرة الماء العذب" والذي يعكس ولع قبائل البشتون بالزهور.

5

لم يكن في خلد ستيف ماكوري أن صورته ستحظى بهذه الشهرة، كما لم يكن يعلم يومًا أنه سيعود للبحث عن صاحبة الصورة، وأنه سيجدها. بدا في عمله وبحثه عن الصورة كأنه يعيش الحب الأول ويبحث عن الحبيبة الأولى. إنها قصة فيلم هندي أو فيلم وثائقي من الدرجة الأولى، ولعل ترجمة معنى اسم شربات تعطي الفيلم وقعًا خاصًا. كان لوقع صورة ستيف أن المرأة الأفغانية الآتية من عالم بائس وفقير أصبحت مشهورة إلى جانب صوفيا لورين واليزابيت تايلور وانجيلينا جولي. شربات لا نعرف عنها إلا صورتها، أو سحر عينيها، أما نجمات هوليوود فلا شغل لهن إلا البحث عن صور جديدة لهن. لا نعرف شيئًا عن شربات الآن، ولا نعرف ماذا تعنيها مسابقات الجمال، وهل تعرف أن العالم ينظر إلى جمال عينيها، وهل تعرف ما هي الإنترنت.

6

صورة المرأة الأفغانية التي التقطها ماكوري تشبه صورة غيفارا التي التقطها البرتو كوردا عام 1960 وأصبحت "أيقونة" للثوار والمستهلكين والرسامين والروائيين والمراهقين وأصحاب البارات. يومًا ما ستدخل صورة المرأة الأفغانية في دائرة الاستهلاك وفنون الـ"بوب آرت". حين التقط ماكوري صورته كان يعلم جيدًا بـ"جماليات البؤس" التي تحتاجها الصورة في العالم، فهو يقول: "عندما أجد الشخص أو الموضوع المناسب للتصوير ربما أعود مرة أو مرتين أو ست مرات. أنا دائمًا في حالة انتظار من أجل اللحظة المناسبة". تميز ماكوري في تصويره لـ"الوجوه" بأنه يبحث عن شيء مختلف في الوجه وفي النظرة، يقول: "أبحث عن اللحظة غير الحذرة، أبحث عن تجربة حفرت على وجه شخص". هذه فلسفة ماكوري في تصوير الوجوه، وخصوصًا تلك الصور الشخصية التي تضمنها كتابه الذي ضم أكثر من 250 صورة لأناس من مختلف البلدان التي زارها مصورًا صحافيًا أثناء فترات الحروب التي كان يغطيها في آسيا وإفريقيا وشرق أوروبا. الوجوه التي جمعها في كتابه، أشبه ما تكون بخرائط جغرافية للمكان الذي أتت منه. تحمل دلالات البؤس والشقاء والرغبة في الحياة. يقول ماكوري في مقدمة كتابه: "أتأمل ممن يشاهد هذه الوجوه أن يعاني معهم أو يضحك". إنها صور لبشر اختارها ماكوري لتنقل إلى العالم معاناة الإنسان وما يحدث من آثار الحروب الأهلية والدولية على وجهه. اقتنص ماكوري تأثيرات هذه الحروب في نظرات الإنسان قبل ملابسه وهيئته، وبعث بها إلى العالم وهو يتنكر بزي محلي أو يخيط أفلامه داخل ملابسه ويتسلل عبر الحدود لينقل صور الحرب في وجه الإنسان ونظراته. وهو نقل المعاناة الإنسانية من كل المناطق التي تعاني الدمار والحرب إلى عالم آخر لاهٍ عما يحدث. وبدا أنه يعتمد على نظرات الذين يصورهم وهي تخترق الحروب كأنها بريق أمل السلام والحب، وخصوصًا صورة شربات جولا.

7

شربات جولا تشبه شعر نساء البشتون أو ما يسمى "اللاندي"، وهو شعر عامي يشبه الأغنية تتغنى به النساء ليعبرن به عن الرغبة والوله واللهفة والألم والقلق والحرمان والشغف بالطبيعة في مجتمع تعتبر فيه الرغبة والجنس من المحرمات الكبيرة. وهو في الأساس، قصيدة صغيرة، من دون أي قواف اجبارية، وإنما ذات تفصيلات داخلية قاسية. لا تكتبه سوى النساء، إذ من المعيب والمحرم على الرجل أن يقول عواطفه وأن يظهر مكبوتات صدره. وقد عرف امتدادا في العصر السوفياتي، لكنه انحسر بعد مجيء حركة "طالبان".

اللافت أنه ما من "لاندي" واحدة تغنّي فيها المرأة الأفغانية الحب أو الوفاء للزوج، فكل الحب والوفاء للعشيق، الحاضر أو المنتظر. وفي هذه الأشعار الحسية حد الإباحية، ترى العاشقة إلى ذاتها كائنًا من لحم ودم، تمجد جسدها بفخر واعتزاز ولا تتردد في البوح برغباتها الأشد حميمية. تقول إحداهن: "إذا مات حبيبي، لأكن كفنه/ هكذا نتزوج الرماد معًا". وتقول ثانية: "تعال قبلني والخطر لا تهاب. يقتلونك؟ ما هم! ما أحلى موت الرجال فدى لعيون الجميلات".

* * *

شربات جولا التي يعني اسمها "فتاة زهرة الماء العذب''، هل تعرف الشاعرة الأفغانية ناديا أنجمن التي توفيت عام 2005، متأثرة بإصابات بليغة بسبب لكمات قاتلة على وجهها بيد زوجها، وهي التي اكتسبت شهرة واسعة في الأوساط الأدبية في أفغانستان، ونشرت في عام 2005 ديوانها الشعري الأول غولي دودي أو الزهرة القرمزية؟ من الديوان:

أصغي لخطوات المطر الخضراء،
ها هن يأتين،
عطشى،
بثياب الزفاف المغبّر،
بأنفاسهن الملوّثة بالوهم المخاتل.
ها قد وصلن،
فتيات خلقن بأرواح مكسورة،
أجساد مجروحة،
وجوه لم تذق طعم السعادة،
قلوب شاخت وتهشمت،
شفاه لم تعرف الابتسامة،
وعيون جافة لا تذرف الدموع.

يا إلهي،
لا أعرف إن كان نحيبهن الصامت
يصل إلى السحاب، إلى السماء؟
فأنا أصغي إلى خطوات المطر الخضراء.

ترى ما الذي يجمع بين مطر "الوردة القرمزية" و"فتاة زهرة الماء العذب"؟

*** *** ***

النهار، الملحق الثقافي، 30 تشرين الأول 2008

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود