|
أحاول في الخط أن ألتقط المعنى الهارب للكلمات
حوار مع سمير صايغ
يرحب بشعر لا شخصي فسبب انحطاط الشعر هو محاولته التعبير عن التجربة الواقعية السياسية سمير صايغ: أحاول في الخط أن ألتقط المعنى الهارب للكلمات معرض وكتاب في آن واحد، مثل سمير صايغ في رهافته لا يلقي الأشياء على بعضها اعتباطًا ولا بد أن بين المعرض والكتاب سببًا وأكثر من سبب ليكونا معًا وليكونا واحدًا. أما الكتاب فشعر ليس ككل شعر. إنه مذكرات الحروف، كما كتبها سمير صايغ الشاعر الرسام الخطاط. وليس للحروف مذكرات إلا لمن يجد لها حياة، أي حياة، ومن يتبع ابن عربي في قوله انها أمة من الأمم. لا يحتاج سمير صايغ المفتون بالصوفية إلى دافع أقوى ليتبع ابن عربي وليبحث عن حياة مفترضة للحروف بعضها تاريخ حقيقي وشبهات حقيقية وبعضها ميثولوجي قدسي وبعضها من أطراف أنامل الشاعر الخطاط ومعاناته هو للخط وحياته وأسطورته، شعر ليس كالشعر، لأن للشعر دائمًا ادعاء تجسيد وغناء وصلة بتجربة معيشة وحياة سائرة ومعاناة عاطفية ونفسية، وليس في مذكرات الحروف كثير من ذلك. في مذكرات الحروف تخييل على تجريد على افتراض على ذكر وتقديس. في ذلك كله اجتراح وتوليد وخلق بدون أن يكون فيه ذكرى لواقع كما يقال أو طيفه أو ظله. فالطرق على التجريد يعود بالتجريد ويبقى الصدى مجردًا مهما كانت الحبكة ومهما كان الأسلوب. لا يخفي سمير صايغ احتفاله بشعر غير شخصي، ليس مرجعه في ذلك ما سماه الشعراء الأميركيون شعرًا موضوعيًا بالطبع يكون الشعر اللاشخصي نظير الفن اللاشخصي الذي يتجلى في الخط نفسه وفي الزخرفة أيضًا. الشعر نظير الخط إذن. لكن إذا كان الشعر يحلّق إلى الخط فإن الخط يطير إلى الشعر، ذلك أن الخط الذي يحاول أن ينفصل عن المعاني والكلمات بمعانيها وتردادها في التراث والثقافة. يسعى لينزع عنها قداسة ضامرة في المعاني ليعيد لها مقدسًا ظاهرًا في الشكل، هكذا تبدو تجربة سمير صايغ أقرب إلى الشعر، أقرب إلى الموسيقى، ذلك أن الخط هنا أشبه ما يكون بالمتوالية الموسيقية، إن في وحدته أو تواترها أو تداخلها في بعضها حتى ليتراءى لك أنك أمام كتابة موسيقية أخرى. يعيد الصايغ المقدس إلى الشعر فيما يعيد الإيقاع والشكل الصلب معًا إلى الخط. فكأنه يرسم في الشعر وينظم في الخط. من هنا التبادل والتجاذب وربما الوحدة بين معرضه وكتابه. حول الكتاب والمعرض كان هذا الحديث. عباس بيضون: غبت طويلاً كشاعر وغبت قليلاً كرسام، ثم عدت مرة واحدة شاعرًا ورسامًا أو بالأحرى خطاطًا، ماذا فعلت أثناء هذه الغيبة؟ وما الذي دفعك إلى العودة؟ سمير صايغ: في هذه اللحظات من الصعب عليّ أن أعطيك جوابًا حاسمًا، لأنني ما زلت أتساءل وأبحث عن جواب حول "ما الذي جرى؟ ولماذا توقفت عن الكتابة؟"، قد أتمكن من وصف التوقف وحالاته أكثر من وصف دوافعه. بعض المرات كنت أحدث نفسي قائلاً إنه إذا وجد إنسان في أقصى العالم يشعر بأنه بحاجة إلى الشعر وإلى قراءة قصيدة فإن شاعرًا في أدنى العالم سيلبي طلبه هذا. لكنني شعرت أن لا أحد ولا أحد يطلبه. في تلك الفترة، بين أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، لم يكن الشعر والتواصل مع الشاعر مطلوبين، بل قد يكون تغييبه هو المطلوب. كنت أجيب نفسي بالقول أن شخصية الشاعر لا تعني لي شيئًا، والشاعر بحد ذاته، كمرتبة ومقام في السلم الإبداعي أو الوجودي، لم يعد يغريني، وكنت أشعر عندما أحاول الكتابة بحزن شديد، يلجم خيالي وأفكاري ولساني، أشعر بألم حقيقي في يدي. مما يدفعني لترك القلم والتوقف عن الكتابة. الآن أرى أن هذه الوقفة كانت ضرورية، لأنني بعدها وجدت نفسي أكتب، أكتب عن حروف وكأنني أخططها وأتأملها، وما زلت مع عناصر الكتابة نفسها: الورقة، القلم، الحبر، القصب، اليد، الطاولة، الكرسي... فطقس الكتابة هو نفسه طقس التخطيط، لكن الفظيع أو الجميل أنني حين بدأت في التخطيط كنت أحاول ألا أكتب، ومنذ البداية فصلت بين الكتابة والخط، وما فتنني وما زال يفتنني إلى اليوم، هو أن للحروف والكلمات لغة غير اللغة، لغة غير موجّهة إلى الذاكرة أو العقل، بل إلى العين، العين التي لا تقرأ الحروف عندما لتلقي لتكوّن كلمة، بل تقرأها ككائنات حية، كأشكال، وتقرأ الشكل كلغة ومضمون. إذًا غياب المعنى هو الذي أعادني إلى الكتابة لأنني كنت أشعر أن الكتابة غير مطلوبة وغير صافية ولا تحمل المشاعر والتأملات والأفكار أو اللاوعي الحقيقي الذي يتطلّبه الإبداع، كانت مليئة بمعان جانبية، وأفكار حول الهزيمة والقلق الفكري الذي أنتجته الحروب والخيبات المتلاحقة والمتراكمة منذ أكثر من 500 سنة، وأظن أني حتى الآن لم أجد جوابًا، وقد لا أكون عدت حقًا! هل تعتبر ما كتبته كتابة؟ ع. ب.: طبعًا، اسأل الآن عن الشخص الثالث، عن الناقد أو المنظر التشكيلي الذي اختفى مع اختفاء الشاعر والخطاط، هل يعود قريبًا بعد عودة الكاتب والخطاط؟ س. ص.: كان للناقد الفني دور مزدوج بالنسبة إليّ، فأنا كواحد ممن رافقوا الحركة التشكيلية اتخذتها كواحدة من طموحاتي الشخصية ولم يختلف الناقد فيّ كليًا إنما اختفى من الصحافة فقط. وهذا بسبب تراجع الحركة النقدية ككل في الصحافة، فما كنت أستطيع تقديمه من تضحيات وكتابة مجانية وتهاون بالزمن، لم يعد يجوز لي تقديمه، ولم أعد أستطيع أن أكون ناقدًا فنيًا لأن هذا يتطلب تفرغًا للنقد ومتابعة لحركة التشكيليين والدخول إلى محترفاتهم والاطلاع على الحركات التشكيلية في العالم العربي والعالم بأسره. طبعًا هناك فنانون وحركة فنية برغم تواضعها وبرغم تقييمنا لها، إلا أنها تحتاج مبدئيًا ومنطقيًا إلى أن تترافق مع حركة نقدية، وأن تكون هذه الأخيرة متواصلة، ولكنها للأسف مفقودة، وهذا أمر لا يجوز. يجدر بنا إدخال مادة النقد الفني إلى الجامعات العربية، وأن تكون ثمة معاهد تخرّج النقّاد كما تخرّج معاهد الفنون الجميلة الرسامين. القداسة والمقدس ع. ب.: تضعنا أمام كتاب شعر عن الحروف ومعرض للحروف في وقت واحد، هل تجد أن العملين واحد على نحو ما؟ أم أن الواحد هو "أنت" يتخطى الحروف، يتخطى الشعر، يتخطى الرسم؟! س. ص.: الواحد هو القصد، إذا كان يجوز التفسير. الكتابة عن الحروف هي في آن واحد حقيقة وخداع. حقيقة لأنها، كما يسميها ابن عربي "أمة من الأمم"، وفي كتابته عن عالمها يذهب إلى ما هو أبعد بكثير من مسألة كونها مكلفة ومخاطبة ولها أسماء وفيها رسل، ويربطها بالوجود كعنصر من عناصره كالنجوم والكواكب... وهي ذات طابع يابس وليّن، بارد وحار.. أيضًا في تراث الفكر الروحي العربي أو الوجودي الإلهي، إذ جازت هذه التسمية، كي أتفادى تسمية "الفكر الديني" لأنه ليس كذلك، أعطيت للحرف معان كبيرة جدًا (جماعة الحروف القديمة التي حملت الفكر الصوفي والفلسفي أو الحركات التي جعلت من الحروف أرقامًا واعتبرتها كأرقام عديدة أو كعدد)، بالإضافة إلى كون الحروف أشكالاً تتميز بها اللغة العربية والتي هي أساسًا "رموز غيبية" إذ أنها كانت موجودة في الذاكرة وليس على الورق، لأن اللغة العربية كانت شفهية، ولم تزدهر الكتابة العربية إلا في القرن العاشر، مع الدولة العباسية. قبلها وخلال ثلاثمئة عام لم تكن الكتابة أداة تواصل بين العرب. الشعر الجاهلي والتراث العربي الجاهلي والإسلامي بقي شفاهيًا، حتى القرآن الكريم، كان للحفظ وما زال، وعندما كتب، كشكل وليس كأداة تواصل، كانت حروفه رموزًا وتجليات لدوافع جمالية أو احتفالية بهذا النص أو هذه الدعوة، لكن سرعان ما أصبحت الحروف حجة للبحث في مسألة الموت والحياة، الاتصال والانفصال، الكتابة والإبداع والفن... وكافة الموضوعات التي تشغلني في الخط أو الشعر أو النقد، لذلك تجدني طالما فضلت القديس على الشاعر، والصوفي على الأديب. ع. ب.: عندما رأيت المعرض تساءلت عن مشروعك لكتابة الحرف أو تخطيط الحرف. يبدو لي أن هناك مشروعًا يتراوح بين نزع القداسة عن الحرف وبين إضافة قداسة جديدة إليه... س. ص.: سأكون سعيدًا جدًا إذا نجحت في إزالة فكرة القداسة عن الحرف، لأنها، وفق تراكمها وفهمها عامة، قداسة شكلية مضرة بالفن وبكل ما هو مقدّس، لأن المقدّس ليس الثابت ولا الصيغة المحدودة، بل هو المتجدد، هو الولادة وليس ما قبلها أو ما بعدها. المقدّس هو الزائل، هو ما نخسره باستمرار لأننا نبحث عنه باستمرار، هو الجوع الحقيقي للروح كما الجوع الحقيقي للجسد وكلاهما مقدّس، الأول لأنه يحمل الروح من دون أن يعرف إلى أين يأخذها، والثاني لأنه يحمل الجسد الزائل. بالنسبة إليّ عندما أخلق شكلاً لحرف أو حركة أو جزء من حرف أو نبضًا من نبضات الحروف أشعر أنه ولد من جديد، وتترافق ولادته مع خبرات مئات السنين.... وأشعر أنه يعيش مع الحروف التي قبله والتي بعده وأرى علاقاته معها وتحولاته كشكل. ما من حرف يبقى على شكل واحد، ومن الخطأ أن نؤطره في شكل ثابت، فهو ليس مقدّسًا بل حركته مقدّسة، وقدرته على التقاط ارتجافة يدي ونبض قلبي وإغماضة عيني. عند الكتابة الشعرية، عندما أحكي عن الراء التي كانت تشبه الدال، وإنها في تحولاتها لم يزعجها التشابه بل حيرها. فتتساءل وأتساءل معها: "هل نسيت العين وسهت اليد فتمالت بها؟". لماذا هذا الالتباس والإمكانية المستمرة للالتباس؟ والإمكانية الفظيعة لتغيّر وظائف الجوار والتناقض والتعاكس والتسلسل، وعناصر التكوين في هذا الفن عندما تلتبس بغناها ومعانيها وتتمرد أرى أنها صارت مشروعًا وصارت لغة. ع. ب.: برغم رغبتك ألا يؤخذ الحرف كشكل وكمعنى، إلا أنني لا أستطيع أن أفكر إلا في أن كلمة سلام المستعملة مرارًا في المعرض ذات معنى، كما أن إضافة "هي" إلى "هو" أمر لافت، ولابدّ من أن ذلك متعمّد. هناك شبهة معانٍ أو بحث عن معانٍ ما، مختلفة ربما عن المعاني الأولى أو ملتبسة بها. س. ص.: كلمة "سلام" تحمل عدة معان. هي أولاً من أسماء الله الحسنى، وثانيًا إحدى الكلمات التي تتردد مرارًا في عالمنا منذ أكثر من ألف عام، وبالتالي لم يعد لها أي معنى لفرط استخدامها، لكن النظام الخفي لمفهوم الزخرفة، المظلوم جدًا وغير المفهوم إلى الآن بعمق، قائم على المبدأ الصوفي العظيم الواحد المتعدد التجليّات، والذي لا يظهر مرتين في صورة واحدة. فالسلام الواحد للكلمة الواحدة التي قد تكتب بعدة أشكال وقد تتجاور وتتحرك في عدة تجليات هي مقصدي، أنا أحاول أن ألتقط المعنى الهارب للكلمة طوال الوقت، سواء كانت اسمًا من الأسماء الإلهية أو أمنية من أمنيات المجتمع أو واقعًا نعيشه... قد يكون ثمة سلام مثلث وآخر مربع أو مقلوب ومتقاطع أو غير واضح... قد يكون هذا هو الواقع، لكن النظام الخفي الذي يجمعها يحمل رغبة دفينة للوصول إلى التوازن أو السلام الداخلي، الذي قد يحصل عليه المشاهد، وضمن المبدأ نفسه لا يحمل هذا الفن معناه الكامل، بل هو ممر للمعنى، فإذا قمنا بتنظيفه جيدًا نضمن مرورًا سليمًا للمعنى الموجود أصلاً والمختزن عند المشاهد. يتلقط المشاهد إذًا المعنى الهارب ويتلقى الرسالة التي حملها العمل الفني. اللوحة التي أمامنا سواء كانت بكلمة مفهومة وبهندسة واضحة ومتينة أو كانت قائمة على إيقاع وتوازن خفي وحرية مطلقة، تهدف إلى تمرير حرارة هذا النظام والتوازن لمن يشاهده، والمشاهد هو من يكمل المعنى ويكتبه، فهذا الفن ليس إيديولوجيا وليس دينًا، (اللذين يحتاجان إلى معانٍ كاملة) بل هو شاهد على الوجود كالشجرة والماء والرعد والبرق وتعاقب الليل والنهار وبزوغ الفجر وتكرار الثمرة على الشجرة. الحرف والإيديولوجيا. ع. ب.: اعرف عنك احتجاجك الدائم على استعمال الخط من دون خط، أي استخدام الخط في اللوحة العربية المعاصرة من دون احترام قواعده، والآن من احترام هذه القواعد تتجه إلى تجاوزها وإلى تحويل الخط إلى لوحة مجددًا. س. ص.: احتج على نقطتين: أولاً ما يسمى بالتيار الحروفي لأنه كان يستجيب للفكر الإيديولوجي الذي ظهر مع حركات الاستقلال في العالم العربي ورفع شعار الهوية الحضارية، وشعار "الأصالة والحداثة". عودة هؤلاء التشكيليين "الحروفيين" إلى النمط التراثي كانت سطحية خالية من أي تفكير أو تأمل بالخط كفن، لأنه قائم بذاته. كان الخط مرتبطًا بمفهوم فني مغاير لمفهوم اللوحة الحديثة، ويلتقي، بالتالي، مفهوم الفن الإسلامي مع الفن الحديث بنقاط ولكنه يختلف عنه بنقاط أخرى. الحرف الموجود في اللوحة الحديثة أوحى بان اللوحة العربية تتكلم لغة وشكلاً ولونًا وفق اللوحة الغربية. بعد أن تغيرت الحركة السياسية العربية وظهرت حركات أصولية صار رمز الخط العربي بالمعنى الاجتماعي والسياسي أصوليًا، وبالتالي أوقف كثير من الحروفيين هذا التوجه لأنهم لا يريدون أن يحسبوا على التيار التراثي أو الأصولي. أرى أنه ليس علينا أن نرى الخط من المفهوم القومي أو السياسي بل أن نراه فنًا قائمًا بذاته. الاحتجاج الثاني على الخطاطين أنفسهم الذين جعلوا مما توصلت إليه الحركة الفنية العثمانية في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر في تركيا النموذج الأصيل، برغم معرفتنا أن ذاك التراث كان انحطاط فن الخط، وإن كان قد وصل إلى تقنية وحرفية وبهرجة معينة إلا أنها كانت موته، وهم أخذوا موته وليس حياته. أنا أريد أن أقتل الحرفيّ داخلي وإلا صرت كالشاعر الذي ينظم قصيدة وفق الطلب. الخط الديواني وسائر الخطوط العثمانية كانت جميلة في وقتها ولحظتها ولا يجوز تكرارها واتخاذها كقاعدة. السلطنة العثمانية في ذلك الوقت كانت قد خسرت رؤيتها الذاتية، وكانت ترى في اللوحة الغربية النموذج الإبداعي، والتخطيطات كانت لوحات مأخوذة على نسق اللوحة الغربية. عندما أعود إلى استعمال الخط أو الكلمة أستوحي من الفن الكوفي الذي بعد 300 سنة من ظهور الإسلام كتب على الصحون والجدران والنحاس والخشب والسجاد من نيسابور إلى قرطبة مرورًا ببغداد والشام والقاهرة وسمرقند... مرة ثانية نعود إلى ضرورة أن يكون شكل الخط وشكل الكلمة مرسومًا بالمخيلة. ع. ب.: يتخذ الشعر من الحروف موضوعًا كالرسم تمامًا، الحرف شكل بصري فيزيائي، بينما عندما يتحوّل الحرف إلى موضوع شعري يكون التجريد الشعري قد دفعنا إلى مكان خطر، هل نستطيع أن نتخيل شعرًا موضوعه منقطع، على الأقل نظريًا، عن التجربة والواقع واليوميات... منقطع عما هو يومي ومتحوّل وشخصي. هل نتخيّل شعرًا لا شخصيًا؟ س. ص.: هذه قد تكون أمنية بالغة السمو، نتمنى هذا لكن أنا لم أستطع أن أتحرر كليًا إلى هذه الدرجة، صحيح أن الحروف أشكال، لكنها أشكال لا نستطيع رؤيتها من دون تأمل حضورها وتكوينها، فنسأل لماذا الشكل هكذا؟ لماذا الألف خط عمودي؟ هل يشبه حرف العين العين؟ لماذا صارت الهاء بهذا الشكل؟ هناك أشكال كثيرة للحروف، وبما أن الحرف صوت فلكل البشرية الأصوات نفسها والحروف نفسها لهذه الأصوات، وأنا لا أريد التعمق في مسألة وحدة اللغة أو وحدة الشكل، بل أقصد أن لأشكال هذه الحروف حضورًا قائمًا بذاته، مع كون الحرف رمزًا متغيرًا في الكلمة لديه قدرة هائلة على الإشارات، وهو محمّل بعناصر متعددة تجعله غنيًا أولاً كشكل، وثانيًا تتحول هذه الحروف من لحظة سريعة أثناء الكتابة الشعرية إلى كائنات وبالتالي تصبح تجربة إنسانية إضافة إلى تجربتها اللغوية. أنا أتقصد تجريد المعاني من التجربة اليومية الذاتية لأني أشعر أن السبب الحقيقي للانحدار الشعري في زمننا هو محاولته التعبير عن التجربة الواقعية السياسية والاجتماعية وعن المعاناة والأزمات التي تعيشها المجتمعات التي تحكي هذه اللغة، ألا يكفينا شعر المتنبي! أمن المعقول أن نبقى في أجواء أشعار المتنبي وسيف الدولة برغم أنه لا يحمل معاني كبيرة، بل يحتشد بالفخر والمباهاة... لهذا أفضّل الصوفي على الشاعر، فالأخير مدع ويأخذ الشعر إلى أماكن أخرى، ويبقى عاجزًا عن التماهي بالواقع، فهل من قصيدة اليوم نعبر عما يجري في العراق أو فلسطين؟ مستحيل! وإن حصل فلماذا علينا أن نكرر ما يجري؟ أحبًا بتعذيب النفس؟ وتكرار تعذيبها؟ النموذج ع. ب.: أنت تصل إلى مكان شبيه بمكان أفلاطون هيراقليطس. أي الحديث عن الشعر لطرد الشعراء واعتبار الشاعر في مرتبة أقل من الشعر نفسه! بقراءة مذكرات الحروف عمليًا ألاحظ في محاولة التشكيل نزع القداسة عن الحرف أو في الحقيقة نزع الدين عن الحرف باتجاه المقدس، أو في موقف من الحيرة بين نزع القداسة وبين الجلال الموجود في الحرف، ففي كلمة "سلام" مثلاً أرى جمعًا بين العمق الديني والروحي في الكلمة وبين الابتذال اليومي للكلمة، حتى أنها تكسر وحدانية "هو" وتجر الـ "هو" مع الـ "هي" إلى ازدواج دنيوي وحياتي، أجد أن المقدس وربما أحيانًا ما يتجاوز المقدس في شعرك أكثر منه في رسمك. س. ص.: من الممكن التأمل في نص الكتاب كتأمل في ما أشرت إليه بهذه الحيرة، والحيرة بالنسبة لابن عربي هي أعلى مقام، لكنها لا تقف فقط عند ما هو مقدس. بل تقف عند الوجود والغياب، عند كل هذه الثنائيات التي تحتاج إليها كل فن وحب وولادة، لكن الحقيقة، من خلال تجربتي الفنية والروحية أرى أن هذه الثنائيات هي قطبان في صيغة واحدة، ما من قطب منهما يستطيع السيطرة النهائية على القطب الآخر، أو ابتلاعه أو إحاطته، القطب الآخر جزء من وجود الأول ومن فنائه، هذا ينطبق على الحبر الأسود والأبيض، على العاشق والمعشوق، الثابت والمتحرك، الزخرفة والتكرار.... هذه الثنائية بنيت عليها كثيرًا فنيًا وروحيًا وصوفيًا ...فأن نكتب السلام لإمحائه كأن نكتب السلام لنؤكد حضوره ووضع "هي" مع "هو" كي لا يكون "هو" وحيدًا، إذ لا يجوز أن يكون وحيدًا. ع. ب.: إلا تخشى من نمذجة صوفية؟ س. ص.: إذا كان للتصوف معنى ما فهو أنه كان باستمرار يتجاوز النمطية، فمن غير الممكن أن نفهم التصوف بالواحد الذي يتجلى مرتين بصورة واحدة، إذا لم نجد حالة جديدة لا يكون للتصوف أي معنى. ع. ب.: بين مذكرات الألف ومذكرات الواو كان لدي إحساس أن الواو حرف بشري والألف حرف إلهي، فانحزت إلى الأول. س. ص.: الألف حسب الأصول ليست حرفًا. وبما أنها تأخذ شكل الواحد، وكل واحد يعني "هو". قد نحترم الألف لأنها أم الحروف، لكن الواو التي تحاول أن تلتف حول نفسها تبدو كأنها تريد أن تكوةن "نونًا". أنا أيضًا أحببت الواو إذ هي الجزء الآخر من "هو" وقد سهلت عليّ مهمتي إذ أنها تحكي عن نفسها بنفسها. ع. ب.: غير تجربة الحروف الشعرية هذه لديك قصائد كثيرة كتبت ولم تنشر في كتاب، فهل من مشروع كتاب لها؟ س. ص.: لم أتصالح بعد مع هذه الكتابة الشعرية. كما قلت هذا ليس زمن الشعر، لعله زمن الرواية، ولا رغبة عند الناس في قراءة الشعر، وهذا يسعدني إذ أنه يفسح لنا المجال للكتابة في هدوء وروية، ويحررنا من ضغط التواصل. تمنّ لي أكتب أكثر وأكتب المزيد. ع. ب.: هل الرسم أكثر براءة من الشعر وهل الشعر أشد خبثًا من الرسم؟ س. ص.: (يضحك طويلاً) هل تقول أن الشعر هو إبليس؟ كانت هناك علاقة أزلية بين الشعر وإبليس أو بين إبليس والشعراء، في هذا المعنى قد يكون الرسم أقل ادعاءً. *** *** *** السفير 10 – 10 - 2003 |
|
|