|
مثل حلزونٍ مرميٍّ في جَدْب
لكنني أعرفُ مكانَكِ جيدًا. لم أسمح للمياه التي تكاثفت في عينيّ أن تحجبَ عنّي مراقبةَ الطريق عبر زجاج السيارة مثلما حدث زمان وفقدتُ الطريق إلى أبي. نمشي في الأوتوستراد على طول في اتجاه المعادي، حتى نجد مطلع الجسر (لا أعرف اسمه سأسأل عنه لاحقًا)، قبل الجسر ندخل يمين. ثم يمين مرةً ثانية. ونمشي قليلاً في الحارة الضيقة المُشجّرة. سنجد المقبرةَ في نهايتها على اليسار. طلبتِ مني كثيرًا أن أصممها لكِ، لم تنسي أبدًا أنني معمارية. تقولين: اشتريتُ مقبرةً جوار مقبرة العائلة. حتى لا تتعبي أنتِ وأخوكِ في زيارتي وزيارة بابا وتيتا وجدو الخ. وكنتُ أنهرُ الفكرةَ من أساسها. لماذا يفكر الإنسانُ في الموت بدلاً من أن يفكر في الحياة؟ اللهُ جعل البشر كثيرين حتى إذا مات أحدهم تكفّل الآخرون بحمله إلى قبره. فلماذا نكترث؟ ثم أن أمي ليس لها الحق في الموت. لمن تتركني إن هي ماتت؟ الواضح أنكِ لم تعبأي بكلامي. فالمقبرة قد شُيّدت وكُسيت أرضيتها رخامًا ملونًا. والواضح أيضًا أن كلَّ أفراد العائلة يعرفونها إلا أنا. والواضح أن خبر موتك كان معلنًا جدًا. فها هي المقبرةُ مفتوحة. وأكوامُ التراب مكدسة على الجانبين. هل هذه الأتربة سوف تُهال عليكِ بعدما تدخلين؟ أية قسوة! لن أسمح لهم بذلك. لكن طاقة مقاومتي نفدت. ولو اعترضتُ على أي شيء سوف يدفعني إصبع طفل لأتهاوى فوق الأرض مثل ورقة. * * * مرحلة غُسْلِكِ كانت يسيرةً نسبيًا. كأنني أساعدكِ في حمّامك كالعادة. الجسد الناصع هو هو، لولا ذراعك المثقوبة بآثار كانيلون غسيل الكُلى الأسبوعيّ الذي هدَّ قواك. الوجه الجميل مازال جميلاً. العينان نصف مغمضتين. رفضتا التسبيلَ الكامل بيد السيدة التي تقوم على غُسلِك. أكاد أرى الحدقة البنيّة الصافية تنظر إليّ. هل تحمل اعتذارًا على تركك إياي؟ لا أدري. لكن ثمة رسالةً سأعمل ما تبقى لي من عمر على فك شفرتها. جسدُكِ المسجى الآن فوق طاولة الرخام لا يقاوم كعادته أية محاولة مسّه! لماذا تستسلمين هكذا وأنت المرأةُ الصعبة التي لا تُجبر على شيء؟ هددوني لو بكيتُ أخرجوني من الغرفة. لم أبك. هي المياه تتكاثف في عينيّ وتسقط فوق جسدك. قالوا كل دمعة تحرقها. يكذبون يا أمي صح؟ مستحيل أن أحرقك. صح؟ لكنه الكَفَنَ لم أحتمله. لم أكد أراهنَّ يبسطنه فوق جسدك حتى انتابتني لوثة. صرخت فيهن لا. لا يمكن أن يلفّوك في هذا الكتّان مهما كان مزركشًا. وجهُكِ. هل يحجبون وجهَك عني الآن وللأبد؟ ولماذا لا ترفضين؟ أنا رفضتُ عنك. صرختُ فيهن لا تغطين وجهها كيف تتنفس!؟ نزعتُ الكفن بعيدًا. لكنهن أقوى مني يا ماما. شدوني ومزقوا ثيابي وقذفوا بي خارج الغرفة لأكمل وجعي بعيدًا عنك وحيدة. وحيدة مثل حلزون مرميّ في جدب. فلمن تركتني؟ لهؤلاء القُساة الذين يغطون وجوه الناس ويمزقون ثيابهم ويحيلون بين البنت وأمّها؟ * * * أعلم أنك تكرهين جلسةَ الغسيل الكلوي. تصرخين في وجه أخي: ارحموني بقا مش عاوزة أغسل! أكره أن أرغمك على شيء يا ماما لكن إلا الغسيل. لازم يُفرّغُ الدمُ من جسمك ثم يدخل هذا الجهاز الضخم عبر أنابيب طويلة، ثم يخرج ليدخل جسدك نقيًّا من جديد. نظرتك المستعطفة لي أن أساعدك على أخي تحرقني. لكن لا أقدر يا حبيبتي. إلا هذه. ذراعك الجميل مزقته الإبر والمشارط. بعد كل جلسة غسيل تفقدين عدة كيلو جرامات وتُنهكين وتشحبين لكن ما حيلتي؟ هكذا أمر الطبُّ. لكن الطبَّ لم يقدر أن يبقيك لي. لو يعلم الطبُّ كم أحتاجك لما تركك تطيرين وتتركينني. الطبُّ قاصر والناس قساة. * * * هم لا يعرفون لماذا رفضتُ الكفن. قالوا إيمانها ضعيف. وقالوا جُنّت. لا هذا ولا ذاك. لكن حجب وجهك عني استدعى خوفًا قديمًا أقام فيّ منذ كنت في الرابعة من عمري. تذكرين؟ أول يوم لي في المدرسة. تركتني في الفصل بعدما أجلستني على الديسك وخرجتِ. لمحتُ وجهك من شباك الفصل وأنت تلوحين لي وداعًا. ولم أفهم لماذا تتركينني مع غرباء وترحلين. حين اختفى وجهك من صفحة الشباك صرختُ وركضتُ وراءك. ولم تعرفي ماذا تعملين مع عنادي ورفضي. استأذنتِ عميدةَ المدرسة ميس لولو أن تسمح للمربية أن تبقى معي حتى نهاية اليوم الدراسي. رفضوا طبعًا. وبعد توسلاتك وافقوا أن تجلس الدادا جوار شباك الفصل من الخارج. أنهضُ بين الحين والحين وأنظر لها فأطمئن. يغطون وجهك الآن بالكفن كي يعيدوني للحظة المرّة. لحظة اختفاء وجهك من فتحة شباك الفصل. لن أسمح لهم بذلك. * * * أدقُّ رقمَ هاتفك. قالوا لن تردي. أعلم. لكنني لن أكفَّ. ربما كلُّ هذا حُلمٌ رديء سينتهي. وتردين. في مسجد "النور" وقت الصلاة عليك قالت لي زوجة أخي: ماما برا وعاوزة تشوفك. صرختُ بفرح: بجد؟! وركضت للخارج. كانت تتكلم عن أمها هي. أمي أنا، ماتت. *** *** *** |
|
|