|
خورشيد ... شباب دمشق
كاتب دمشقي مجهول
فهذه رسالة مبلولة بروائح دمشق، وصلتني من صديق دمشقي في الغربة،
وقد وصلته هو الآخر من دمشقي آخر "مجهول"!. لقد وجدتها ممتعة، وقد تكون أكثر متعة
للأصدقاء والصديقات السوريين والحوريات، والدمشقيين والدمشقيات على وجه الخصوص، ممن
يعرفون شعاب دمشق أو هم وهن شعابها بالذات. وقد ارتأيت أن أجعلها هدية رمزية
للدكتور خورشيد في غربته الجديدة، وعلى يومياته الممتعة. فأرجو أن تجدوا فيها
جميعًا من المتعة ما وجدته أنا الذي نبت في أقصى الغرب الإسلامي على الأقل، والذي
لم يزر دمشق ولا سوريا كاملة سوى عبر الكتب، وعبر بعض الأفلام والصور، وعبر كثير من
الأصدقاء والصديقات ممن اجتمعت بهم وبهن "خارج المكان". إدريس، صديق اللاعنفيين باريس، 17- 11- 2008 * * * مساء الخير أو صباح الخير أو ربما من الأفضل أن أقول أسعد الله أوقاتك، فأنا لا أعرف متى ستصلك رسالتي ولا متى ستقرؤها، بل حتى لا أعرف إن كنت ستقرؤها أصلاً. ولا أعرف لماذا قررت أن أكتب لك اليوم بعد كل هذه القطيعة التي كانت بيننا. لست هنا لأعاتبك أو ألومك فما حصل قد حصل. صدقني لا فائدة من العتاب الآن فالحياة قصيرة ولا شيء فيها يستحق أن نحزن لأجله. كيف حالك هذه الأيام؟ أتراك ما زلت تذكرني؟ أتريد أن تسأل عن أخباري؟ أحقًا تريد أن تعرفها؟ صدقني لا أعرف من أين أبدأ. لا أعرف من الذي تغير أنت أم أنا أم كلانا معًا. لكن بالتأكيد هناك الكثير من الأمور التي تغيرت. أظنك سمعت عن غلاء الأسعار، وكم باتت الحياة مكلفة ومرهقة، أليس كذلك؟ نعم أنت محق. كل شيء أصبح غاليًا. أتريد حقًا أن نتحدث عن الغلاء الذي سمع به الجميع؟ صدقني لقد صرخنا كثيرًا كما صرخت أنت من قبل، ولكن كالعادة لم يسمعنا أحد. أتريد أن تصرخ معنا في المرة المقبلة؟ معك حق، ما الفائدة؟ منذ فترة وصلت مجموعة من الباصات الجديدة، أسمعت بها؟ نعم. باصات خضراء صينية جديدة بمقاعد صفراء ما زالت حتى اليوم خالية من الخربشات وذكريات الركاب. أتذكر باصات النقل الداخلي القديمة التي كنت تركبها؟ أتذكر لونها الأخضر الداكن؟ أتذكر رائحة مقاعدها، وكيف قام البعض بتمزيقها لا لشيء إلا حبًا بالأذية وتطبيقًا للمثل القائل: "سألوا القاق ليش بتسرق الصابون؟ جاوبهم: الأذى طبع"؟ أتذكر كيف كنت تنحشر في السرفيس مع عشرات البشر الآخرين، وكيف كان ينطلق السائق برعونة فتشعر بنفسك وكأنك كوكتيل فواكه في خلاط مولينكس؟ أتذكر سائق التاكسي الذي تشاجرت معه لأنه رفض أن يشغل العداد؟ لابد أنك تضحك على نفسك حين تذكر تلك الأيام. الشوارع لم تتغير كثيرًا، فمرآب ساحة المواصلات لم ينتهي بعد، وساحة العباسيين لم تنتهي بعد، أما ساحة الأمويين فبين الحين والآخر يقومون بحفرها أو حفر ما حولها لتذكيرك أن دوام الحال من المحال، فهاهم اليوم يحفرون نفقًا جديدًا ما بين منطقة كيوان وحديقة تشرين. والله وحده يعلم متى سينتهي. حارات الشام القديمة لم تتغير كثيرًا. ما زالت البيوت موجودة وأبوابها مفتوحة إلا أنها أصبحت أكثر فخامة وأناقة حيث أنها باتت مطاعمًا اليوم، وبت تجد بين المطعم والمطعم مطعمًا آخر. قهوة النوفرة ما زالت على حالها، وكرسي الحكواتي ما زال موجودًا، ورائحة المعسل والتنباك ما تزال تعبق في المكان، وكاسة الشاي الخمير ما زالت هي ذاتها، إلا أني لم أعد أذكر كم كان سعرها يوم التقينا هناك آخر مرة، أتراك تذكر؟ أتذكر وجه النادل؟ أم أن الأيام قد مسحته، ككل الوجوه الأخرى، من ذاكرتك؟ أتذكر سوق الحميدية كم كان يبدو طويلاً طويلاً، وكم كان مزدحمًا؟ أتذكر الأصوات التي كانت تصدر من محل بكداش حين يضرب العامل البوظة بالقشطة والفستق باستعمال الذراع الخشبية الكبيرة؟ أتذكر الأذان الصادر عن مآذن الأموي ومئات الحمائم تحوم حوله وتلعب في باحته بحرية؟ أتذكر زينة الميلاد ورأس السنة في باب توما والقصاع، والتي كانت تبهرك بجمالها؟ أتذكر بوز الجدي في سوق الشيخ محي الدين وطعم الفول والفتة بسمنة؟ أتراك تذكر الشاورما في الميدان، وكيف تناولت القشة ذات يوم في أحد المحلات هناك مع أصدقائك ثم أكلت كنافة نابلسية رغم أن الساعة كانت تشير إلى الثانية فجرًا؟ أما زلت تحب (القباقيب على سكر) التي كانت تشتريها والدتك من البزورية؟ أما زلت تذكر (البراغي) و(السوس) ورائحة الملبس يخرج ساخنًا من محل السيوفي، ووالدتك تبحث عن الملبسة ذات اللوزة الكبيرة والقشرة الرقيقة، وأنت تغمض عينيك وتشم رائحة التوابل والسكاكر والشموع وعشرات الزيوت؟ أتذكر حين ذهبت إلى حمام السوق مع أصدقائك ظهرًا ولم تخرج منه إلا بعد منتصف الليل لتجد سوق البزورية ومدحت باشا خاليين لا تسمع فيهما سوى وقع أقدامكم، وكيف اتجهتم بعدها لتناول "الدوندرما" في المناخلية قبل أن تكتشفوا أن لا شيء يشبه سندويشات السجق والبصطرما التي ذهبتم لتناولها عند سيروب في الصالحية مع كاسة لبن عيران؟ أما زلت تذكر طعم الفول صباح يوم الجمعة، والمعروك والناعم في رمضان، ومعمول العيد؟ هذا المساء كانت المهاجرين مزدحمة كعادتها، وبائع الفلافل ما يزال على حاله، وعشرات الناس على جانبي الطريق، وبائع الذرة في ساحة الجسر الأبيض، وكشك المجلات، ونزلة الطلياني وصولاً إلى ساحة عرنوس، شارع الحمراء وطريق الصالحية.. كل شيء على حاله وحدها أسماء المحلات التجارية تغيرت. أما عربات الفول والذرة ودراجة بائع التمرية فما تزال على حالها. حتى بائع العوامة في مصلبة الشعلان ما زال على حاله يلقي بقطع العجين في قدر الزيت لتخرج كرات من ذهب. قاسيون ذلك العاشق الدمشقي ما يزال في مكانه شامخًا يتأمل دمشق طوال الوقت، ويهديها آلاف قصائد الغزل كل ليلة بالرغم من كل الطفيليات التي نمت على ظهره من استغلاليين رأسمالهم طاولة وكرسي من البلاستيك وعلبة محارم. أذكر أنه كان يوجد هناك صورة لك وأنت في بلودان أيام الثلج. كنت تبدو في الصورة وأنت تحمل كرة ثلج تهم برميها على أحد أولاد خالتك. وربما كانت هناك صورة أخرى لك في بلودان أيضًا ولكن أيام الصيف وأنت تتناول طعامك في مورا. لست متأكدة. و لكني متأكدة من أنك كنت تحب سهل الزبداني، وأنك في يوم ما اشتريت بنطلون جينز تهريب من أحد المحلات في مضايا. وأذكر أنك ذات يوم شربت من نبعة الماء في بقين وأن الماء يومها كان باردًا ومنعشًا، وأنك تمنيت لو أنك تظل تغب وتغب من ماء النبعة إلى الأبد. أتسألني عن الغوطة وبردى؟ الغوطة امتلأت بالمطاعم والمقاهي بدءًا من تلك الشعبية وانتهاء بمطاعم الخمس نجوم، ومع هذا فما زالت تحمل في ذاكرتها عبق "السيارين" أيام الربيع، ورائحة زهر المشمش و الكرز. ما زالت تحمل في ذاكرتها، كما تحمل أنت في ذاكرتك، صورة والدك جالسًا على الأرض يلعب الطاولة مع عمك، ووالدتك تحضر السلطة، بينما تقطع عمتك البطاطا لتعد البطاطا المقلية، في حين تصر جدتك على أن تستلم مهمة شك اللحمة على الأسياخ لتباشر بشيها بمساعدة زوجة عمك وابن عمك الأكبر، في حين يجلس جدك على الكرسي يدخن النرجيلة ويتأملك وأنت تلعب مع إخوتك وأولاد عمك وعمتك. بردى؟ أعرفه. وأعرف كيف كنت تصر على نزع حذائك والخوض في مياهه الباردة، وأعرف كم مرة أنبتك والدتك لأنك أضعت حذائك الذي جرفه النهر، وأعرف كم كانت تصبح البطيخة باردة ولذيذة حين كان يضعها والدك في النهر. نعم أذكر كل هذا كما تذكره أنت ولكن ما لا تعرفه هو أن بردى لم يعد نهرًا، بل هو اليوم مجرد صورة في ذاكرتك وذاكرتي. منذ بضعة أشهر صدرت نتائج الثانوية العامة، ومن ثم تلتها نتائج المفاضلة، واليوم فتحت الجامعات أبوابها. أتذكر يوم حصلت على نتيجة الثانوية العامة؟ أتذكر كم كنت متوترًا يوم صدور النتائج وكم طرت فرحًا بنجاحك؟ أتذكر كم رن الهاتف في ذلك اليوم، وكيف وزعت والدتك شراب التوت الشامي، وكيف دمعت عينا والدك بعد أن صدرت المفاضلة وانتسبت إلى الجامعة؟ أتذكر ماذا كانت هديتك في ذلك اليوم؟ أم أنك تخلط بينها وبين هدية تخرجك؟ كم مرت الأيام بسرعة. أيام الجامعة مرت كلمح البصر. حالها كحال أيام الثانوية. أتذكر كم مرة تسلقت سور المدرسة؟ أتذكر أستاذ الرياضيات، وكيف كان أحد أصدقائك في الصف يجيد تقليده؟ أتذكر الصوبيا التي لم تكن تشم رائحة المازوت طوال الشتاء، وكيف كنتم تنحشرون في غرفة صف ضيقة، وكيف كنت تتشارك سندويشاتك مع زميلك في المقعد؟ أتذكر كم كان طعم كاسة الشاي لذيذًا حين كنت تشربها خلسة مع زميلك بينما يكون الأستاذ مشغولاً بالكتابة على السبورة؟ أما زلت تذكر زميلك في المقعد؟ أما زلت تراه؟ أسمعت شيئًا جديدًا عنه؟ تمثال عدنان المالكي ما يزال يتوسط ساحة المالكي، وتمثال يوسف العظمة ما يزال يتوسط ساحة المحافظة، وما زالت السيارات تدور حولهم كما تدور كل قصصنا حول البطولة والأبطال والرموز. أما زلت تذكر هذه القصص أم أنك نسيتها؟ أما زالت تعني لك شيئًا، أم أنها، ككل الأشياء، ما عادت تهمك؟ حبيبتك ما هي أخبارها؟ متى كانت آخر مرة كتبت لها؟ مضى وقت طويل على آخر مرة حدثتني عنها. أتزوجتما أم أن الأيام قد فرقتكم عن بعضكم كما في كل قصص الحب؟ وإن لم تكن قد تزوجتها هي فمن تزوجت؟ هل أحببت بعدها من جديد أم أنك تزوجت فقط؟ أيعقل أنك ما زلت عازبًا؟ أحيانًا أفكر أنك لم تتزوج فقط وإنما رزقت بأولاد أيضًا. ترى ما هي أسماؤهم؟ ما هي أعمارهم، وكيف هي ملامحهم، وهل أخبرتهم عني، أم أنك لم تجد الوقت لذلك بعد؟ وإن كنت قد أخبرتهم عني فماذا قلت لهم؟ أتعلم؟ ما زلت أذكر وداعنا في ذلك اليوم. أذكر كيف أنك كنت تريد أن تبتعد عني بسرعة كي لا تغير رأيك، وأنك كنت طوال الوقت تفكر بعيوبي الكثيرة وكل الصدمات التي سببتها لك، وأنك كنت تتهرب من النظر نحوي كما كنت تتهرب من النظر في عيني والدتك. والدتك التي ما زالت كل يوم تصلي لأجلك وتدعو الله كي يكون معك. والدتك التي تنتظر اتصالاتك بفارغ الصبر. والدتك التي ما زالت تحتفظ بكل صورك وتتذكر صوت بكائك وضحكتك ونبرة صوتك حين كنت طفلاً. ما زالت رائحة طبخها تملأ المطبخ، وضحكتها، حين تضحك، تملأ البيت، وطعم قهوتها كصوت فيروز كنور الشمس كصوت العصافير كأي طقس من طقوس الصباح وكأن للصباح طقوس لا تكتمل إلا بقهوتها. ما زالت قوية بالرغم من الديسك. ما زالت عنيدة رغم أنها كبرت في السن ولكن مع هذا صدقني ما تزال غصتها بسبب سفرك عالقة في حلقها حتى اليوم. والدك! أتعلم؟ في ذلك اليوم بعد أن أوصلك إلى المطار، وبعد أن دس في جيبك الألف دولار التي حتى اليوم لا تعلم من أين استدانها، وبعد أن أخبرك أنك صرت رجلاً، وطلب منك أن ترفع رأسه ورأس البلد، وبعد أن تمت كل مراسم الوداع؛ جلس في مقعد السيارة وبقي صامتًا طوال طريق العودة، وما إن وصل إلى البيت حتى احتجز نفسه في غرفته وراح يبكي كالأطفال. وحدي أنا رأيته ورأيت دموعه. وحدي أنا سمعته يدعو لك بالتوفيق، ووحدي أنا كنت أعلم كم كان قلبه يتمزق على غيابك مهما كان يتظاهر بالتماسك والقوة ويطلب من والدتك بحزم وشدة أن تتوقف عن البكاء. وحدي أنا كنت أعلم أن التهاب حنجرته لم يكن بسبب فيروس ما وإنما من كثرة ما جاهد نفسه ليحبس دموعه. ما زلت أذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله. أذكر حقائبك التي حملت فيها أغراضك وأحلامك والكثير من ذكرياتك. أذكر ملابسك التي تفوح منها رائحة الصابون ورائحة بيتكم. أذكر كم كانت ملابسك مرتبة ومكوية وكيف كوتها شقيقتك في الليلة التي سبقت سفرك وهي بالكاد تراها من كثرة الدموع التي تجمعت في عينيها. أذكر كم كنت مستعجلاً لتنهي مراسم الوداع، وكم كنت مستعجلاً لتختم جواز سفرك وتنهي كل الإجراءات، وكيف أطلقت شتيمة حين رأيت موظف المطار يقبض رشوة، وكيف اتجهت إلى مدخل الطائرة بسرعة ثم جلست على مقعدك وربطت حزام الأمان وسمعت صوت المضيفة يعلن موعد اقلاع الطائرة، وكيف أنك كنت حتى تلك اللحظة مصرًا على أن تتجاهلني، وكيف أن الطائرة أقلعت دون أن تنظر نحوي، دون أن تلوح لي، ودون أن تقول لي كلمة وداع واحدة، ولكني أيضًا رأيتك كيف التفت نحوي قبل أن أختفي تمامًا من أمام عينيك، وتفصل بيننا السحب وآلاف الكيلومترات، وأذكر أني يومها لمحت دموعك وسمعت صوتك وأنت تخبرني أنك تحبني. نعم. يومها سمعتك ورأيتك، واليوم أكتب لك لأخبرك أنني أنا أيضًا أحبك، ولأقول لك أني ربما ظلمتك، وربما قسوت عليك، وربما لم أكن كما كنت تتوقع، وربما لم أقدم لك ما كنت تريد، وربما لم أحقق لك ما حققه لك غيري، وربما لم تجد عندي ما وجدته في غيري؛ إلا أنني في نفس الوقت أعرف كم أحببتني وكم كان صعبًا عليك فراقي. وأعرف أنك بالرغم من كل ما تقوله ما زلت تحبني، وأنك كلما تنبهت إلى أنك ما زلت تحبني تتفاجأ من نفسك وتحاول من جديد أن تتجاهلني، وتجد عشرات المبررات لتقنع نفسك أن هجري كان أفضل ما قمت به في حياتك. اليوم أكتب لك لأنهي هذه القطيعة، ولأضع حدًا لجدار الصمت الذي بيننا. أكتب لك لا لأطلب منك العودة، ولا لأطلب منك صفحة جديدة، ولا لأعاتبك وألومك على مقاطعتك لي طوال تلك السنوات، وإنما لأقول لك سامحني إن أنا أخطأت بحقك وحين تذكرني اذكرني بكل خير.
المرسل: بلدك *** *** ***
|
|
|