بعد حقبة طويلة ماضية سيطر خلالها على
المجتمعات العربية هوس تأكيد الهوية الثقافية والدينية، يسود اليوم لدى
المثقفين وبعض المسؤولين العرب شعور عميق بأن فجوة المعرفة قد اتسعت بين العرب
والعالم الصناعي، إلى درجة أصبحت فيها تشكل خطورة على مستقبل العالم العربي
وعلى تكوين أجياله الجديدة. من هنا بدأ الاهتمام بالتواصل مع المجتمعات الحديثة
والاقتداء بها والتعلم منها، يطغى في السنوات الأخيرة، رغم مظاهر التعصب
والتزمت في خطاب الهوية الدينية والقومية. فمنطق الهوية بالضرورة خصوصي، يسعى
إلى تأكيد التمايز والمغايرة مع الآخر كمرتكز لوعي مستقل بالذات، فاقمت من
خطورته عندنا تجربة الاستعمار والاحتلال السابق والقائم الذي غذى، ولا يزال،
الشعور بالدونية وضعف الذاتية. وبالمقابل لا يمكن لمنطق المعرفة أن يكون إلا
منطقًا كونيًا، أي يخترق الهويات والاختلافات، مؤكدًا وحدة العقل الإنساني
وامتداده عبر الزمن، وتواصل الباحثين والعلماء بعضهم مع البعض الآخر وتحاورهم.
فوحدة العقل هي الفرضية الأساسية في وجود العلم الحديث، أي من حيث هو مشروع
لبناء معرفة موضوعية، ترتفع على شروط إنتاجها العقائدية والثقافية والاجتماعية،
وتؤسس نجاعتها ومشروعيتها معًا على مناهج تحصيلها وتقنيات مراجعتها لنفسها
وتحقيقها في الواقع وفي التجربة. فإذا كانت الذرة لا تنشطر في الظروف ذاتها، أو
إذا كانت تخضع في انشطارها لاعتقادات المجتمعات وثقافة الباحثين وذاتياتهم، لن
يكون هناك علم. فالعلم واحد بينما الثقافة متعددة.
إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء، هم أخوية إسلامية سرية نشطت خلال القرن الرابع
الهجري، وكان مركزها الرئيسي على الأغلب في مدينة البصرة بالعراق. ولها فروع
منتشرة في جميع أرجاء العالم الإسلامي.
وعلى الرغم من الغموض الذي يلف هذه الجماعة وأشخاصها، بسبب الطابع السري
لنشاطها ولجوئها إلى التقية. إلا أنها تركت لنا ميراثًا فكريًا وروحيًا بقيت
آثاره فاعلة في الثقافة الإسلامية عبر عصورها، يتمثل في اثنتين وخمسين رسالة لا
يُعرف مؤلفوها، تستغرق في الطبعات الحديثة نحوًا من ألفين وخمسمئة صفحة، تبحث
في شتى معارف عصرهم من فلسفة وعلوم وإلهيات، وتهدف من وراء ذلك إلى التأسيس
لمذهب إسلامي ذي طابع كوني، يستغرق المذاهب كلها ويوجد بينها. وهذا المذهب
مبثوث في ثنايا الرسائل وفي كل رسالة تجد منه طرفًا، بحيث لا تتوضح غاية
الإخوان إلا بعد الإنتهاء من قراءة الرسائل من قبل قارئ نبيه قادر على ربط شتات
الأفكار والتأليف بينها. هذا النثر للأفكار التي تخدم موضوعًا واحدًا، نجده في
كل محور من المحاور الرئيسية التي تشكل مذهبهم.