|
فاوست عبد الرحمن بدوي
عندما نقل الفيلسوف المصري الراحل عبد الرحمن بدوي مسرحية فاوست إلى العربية عام 1984 بجزئيها الأول والثاني، لم يدر في خلده أنه يستهل «زمنًا» عربيًا جديدًا لهذا النص الرهيب الذي كتبه الفيلسوف الألماني غوته ووسم به عصره والعصور اللاحقة. ومثلما كانت صيغة غوته لأسطورة فاوست الشعبية، التي شغلت القرون الماضية في أوروبا، هي الأجمل والأعمق؛ كانت صيغة عبد الرحمن بدوي، منذ اكتمالها، الصيغة الأجمل والأشمل عربيًا. ولئن كان بضعة مترجمين عرب سبقوه إلى تعريب هذا النص البديع ومن أبرزهم محمد عوض محمد الذي حظيت ترجمته عام 1929 بمقدمة بديعة لطه حسين، فإن الترجمة التي وضعها لم تستطع أن تنافسها أي ترجمة سابقة. ولا تزال هذه الترجمة بمثابة النص الأم بالعربية، لا سيما أن ما من ترجمة كاملة أعقبتها. ولو كان طه حسين حيًا حين صدورها لما توانى عن وضع مقدمة أخرى لها. علمًا أن المقدمة التي كتبها بدوي والتي فاقت بحجمها النص نفسه، تؤلف مرجعًا شاملاً عن غوته وفاوست، أدبًا وفلسفة وتاريخًا. وغدت المقدمة كتابًا بذاته قارب ثلاث مئة صفحة. وكم كانت جميلة المفاجأة التي حملها المجلس الوطني للثقافة في الكويت إلى القراء العرب، في إعادة نشر النص كاملاً والمقدّمة في ثلاثة كتب منفردة. لكن المهم هنا ألا يكون مقص الرقيب الكويتي المحافظ والمتشدد قد مرّ على صفحات من النص على عادته في بعض الكتب المترجمة. قد لا يحتاج نص فاوست كما كتبه الشاعر الألماني الكبير غوته إلى التذكير به، فهو غزا العالم وترجم إلى لغات لا تحصى، وغدا فاوست شخصًا حاضرًا في معظم الحضارات والآداب منذ القرن السادس عشر عندما صاغ أسطورته الشاعر الإنكليزي كريستوفر مارلو، صديق شكسبير وغريمه. فهذه الأسطورة التي جذبت أقلامًا عدة في الغرب على مرّ العصور ما زالت تجذب المزيد من الأقلام وتدغدغ مخيّلات الموسيقيين والمسرحيين والسينمائيين والرسامين. ولا يمضي عام في أوروبا لا يستعيد الجمهور خلاله هذا الشخص الملغز والعقد الذي أبرمه مع الشيطان سعيًا وراء المعرفة الخارقة. وقد كُتِب عن هذا النص ما لا يُحصى من الكتب والمقالات واستوحاه شعراء وروائيون ومسرحون لا يحصون أيضًا ومنهم: غوتلد لسّنغ، فردريك مولر أو مالر، توماس مان، ألكسندر بوشكين، أوسكار وايلد، ميخائيل بولغاكوف، فرناندو بيسوا، بول فاليري... فالأسطورة هذه تخفي في تلافيفها مأزق الإنسان منذ أن وجد على هذه الأرض وتوقه إلى معرفة سرّ الكون وجوهر الحياة. وقد نجح غوته في جعل هذه الأسطورة حالاً من الصراع المأسوي بين الشر المتمثل في شخصية مفيستو (الشيطان) والخير الذي طالما نادت به القيم. وقد تجلّى هذا الصراع عبر مآسٍ ثلاث: مأساة فاوست العالِم، مأساة فاوست العاشق، ومأساة فاوست الإنسان. أما في العالم العربي فحضرت شخصية فاوست بشدة منذ مطلع الثلاثينات من القرن المنصرم، وبدت ترجمة محمد عوض محمد للنص الألماني في العام 1929 حدثًا أدبيًا وفلسفيًا، لا سيما أنها تضمّنت مقدمة وضعها طه حسين مشيدًا بهذا النص الفريد الذي لم تشهد أوروبا مثيلاً له. ولكن لم يبق نص فاوست وقفًا على هذه الترجمة، فقد توالت بعدها ترجمات أخرى أنجزها مصطفى ماهر وعبد الحليم كرارة وأخيرًا عبدالرحمن بدوي. وقد عمد بعض الكتّاب والشعراء العرب إلى اقتباسها أو «تلخيصها» كما درج القول، ومنهم توفيق الحكيم في عهد الشيطان (1938)، وعلي أحمد باكثير في فاوست الجديد (1967)، ومحمد فريد أبو حديد في عبد الشيطان، ومحمود تيمور في أشطر من إبليس، وفتحي رضوان دموع إبليس، ومحمود لاشين في ميفستوفوليس. أما المقالات التي تناولت فاوست فلم تخل منها مجلة أو صحيفة، خصوصًا في الستينات. ولعل هذا الإقبال العربي اللافت على فاوست الذي يستحقّ مراجعة شاملة، يدل على عدم غربة هذه الشخصية عن المخيلة العربية التي طالما رفدتها صورة الشرّ مجسّدة في إبليس. لم يترجم عبد الرحمن بدوي نص فاوست ترجمة أمينة وفق المعايير التي تفترضها الترجمة فقط، بل كتبها بروحه ونَفَسه كما لو كان صاحب النص. وبدا نصّه نصًا بذاته، سبكًا ونسجًا وإيقاعًا، وقد نقله عن الألمانية مباشرة هو الذي كان يجيد لغة غوته تمام الإجادة. إلا أن هذه الترجمة الجميلة والأمينة يجب أن تعقبها ترجمات أخرى، أشد حداثة أو معاصرة وأشد «مسرحة» أو درامية، وأشدّ لينًا وطراوة. فالترجمات مهما علا شأنها تظل عرضة للشيخوخة ولسلطة الزمن، وإعادة ترجمتها لا تعني إلغاء لها أو إنكارًا، بل تعني ترسيخًا لصنيعها وفرادتها. وخير مثل يمكن الأخذ به هو ترجمة الشاعر الفرنسي جيراردو نيرفال لمسرحية فاوست الى الفرنسية، وقد قرأها غوته نفسه وسرّ بها بشدة وشعر أنها أجمل من النص الأصل. وقد قال حينذاك: «ما عدت قادرًا على قراءة فاوست بالألمانية ولكن في هذه الصيغة الفرنسية التي أنجزها جيراردو نيرفال، يستعيد النص نضارته، حداثته وروحه». ولئن لم تتمكن أي ترجمة فرنسية لاحقة من تخطّي هذه الترجمة الفريدة فهي استطاعت أن تحدّث لغتها من غير أن تنكرها أو تلغيها. الحياة 24-11-08 *** *** *** |
|
|